دروس وعبر من قصة وفد مضر

دروس وعبر من قصة وفد مضر القائد المحنك هو من يصنع من الحدث موقفا ومن الموقف عبرة ومن العبرة تغييرا شاملا يمحو من النفس المؤمنة أركان العجز والكسل؛ ليرتفع بها من حضيض الأنانية المفرطة إلى سمو القيم النبيلة والمبادئ السامية؛ لتصل بعطائها وبذلها وسعيها يكتنفها التوفيق الإلهي في بدئها وانتهائها؛ إلى الدرجة..

القائد المحنَّك هو من يصنع من الحدث موقفاً، ومن الموقف عبرة، ومن العبرة تغييراً شاملاً يمحو من النفس المؤمنة أركان العجز والكسل؛ ليرتفع بها من حضيض الأنانية المفرطة إلى سموِّ القيم النبيلة والمبادئ السامية؛ لتصل بعطائها وبذلها وسعيها يكتنفها التوفيق الإلهي في بدئها وانتهائها؛ إلى الدرجة المطمئنة لتعود إلى بارئها وهو راضٍ عنها ومبشرها برضوانه الخالد لها. يتجلى لنا هذا واضحاً في حدث من أحداث السيرة النبوية التي مرت بالنبي – صلى الله عليه وسلم –  مع أصحابه نقف معه لنستلهم منه دروساً وعبراً لعلها تحدث لنا في قلوبنا نوراً وفي حياتنا ذكراً.

فعن أبي عمرو جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: «كنا في صدر النهار عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم، فجاءه قوم عُراة مجتابي النِّمار أو العَبَاءِ متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعَّر وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  لِمَا رأى بهم من تلك الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذَّن وأقام ثم صلى ثم خطب، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ…} size=3>[النساء: ١] والآية الأخرى التي في آخر الحشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍsize=3>} [الحشر: ٨١]. تصدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشقِّ تمرةsize=3>، فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. ثم تتابع الناس حتى رأيت كَوْمَيْنِ من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  يتهلَّل كأنه مُذْهَبَةٌ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌsize=3>»[مسلم].

الإحساس بمعاناة الناس:size=3>
لم يعش رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  بعيداً عن واقعه أو بيئته أو أصحابه، ولم يكن ينأى يوماً ما بنفسه ويعتزل الناس في بيته ومع أزواجه، ويغلق دونهم أبوابه، ويضع عليها الحجَّاب فلا يصل إليه أحد إلا بشقِّ الأنفس، كلا؛ لقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعيش معاناة الناس كأنها معاناته هو، بل ينهى من ولاهم الله أمر المسلمين أن يغلقوا أبوابهم دون حاجات الناس، ويحذّر من مغبَّة فعل ذلك؛ فقد قال عمرو بن مرة الجهني – رضي الله عنه – لمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخَلَّة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خَلَّته وحاجته ومسكنتهsize=3>»[أحمد].

لقد كان صلى الله عليه وسلم يعيش بين الناس ومعهم يتلمَّس أحوالهم، ويتحسَّس أخبارهم حتى قبل البعثة؛ فها هي أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – تقول له: «والله لا يخزيك الله أبداً: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق»[متفق عليه] هذا هو واقعه، وتلك هي حياته، وهكذا كانت علاقته بالناس قبل أن يكون نبياً مرسلاً.

وفي ذلك الحديث نجده – صلى الله عليه وسلم –  يتأثر تأثراً إيجابياً وفاعلاً بما رآه من حال القوم الذين وفدوا على المدينة واستقروا بمسجده حيث لم يأبه بهم أحد وهم على حالة وصفها الصحابي بقوله: «قوم عراة مجتابي النمار أو العباءِ»، فتغيرت ملامح وجهه – صلى الله عليه وسلم –  من التبسط والتبسم إلى التمعُّر، بالإضافة إلى سلسلة من الأعمال الإيجابية التي هي بمنزلة مساهمة من القائد والحاكم لتغيير هذا الواقع.

فرق بين تأثر سلبي لا ينتج إلا الجمود والسكون والتفرج على الواقع دون مشاركة في تغييره وتحسين وضعه بل ربما يكون سبباً في استمراره وتجذُّره في المجتمع من خلال الانتقادات الهدَّامة ونَكْءِ الجراح والظهور بمظهر المتميز الخالي من العيوب والنواقص، وبين تأثر إيجابي فاعل ينطلق من لحظة التفرُّج والنظر إلى ساعة التطبيق في ميدان العمل.

لقد كان تمعّر وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – حزناً واضحاً في كثير من المواقف التي يرى فيها منظراً أساءه يحتاج منه إلى إغاثة ولم يستطع؛ لقلة ما في اليد؛ فعن ثوبان مولى رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  قال: «نزل بنا ضيف بدوي فجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  أمام بيوته فجعل يسأله عن الناس كيف فرحهم بالإسلام؟ وكيف حدبهم على الصلاة؟ فما زال يخبره من ذلك بالذي يسره حتى رأيت وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  نَضِراً؛ فلما انتصف النهار وحان أكل الطعام دعاني مستخفياً لا يألو: أن ائتِ عائشة – رضي الله عنها – فأخبرها أن لرسول الله – صلى الله عليه وسلم –  ضيفاً فقالت: والذي بعثه بالهدى ودين الحق ما أصبح في يدي شيء يأكله أحد من الناس، فردَّني إلى نسائه كلهن يعتذرن بما اعتذرت به عائشة – رضي الله عنها – فرأيت لون رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  خسف»[السلسلة الصحيحة4/625].

إنها رسالة نبوية إلى أولئك الذين أنعم الله عليهم بالأموال أن التفتوا إلى حال أمتكم المنكوبة التفاتة صدق؛ فهي أحوج ما تكون اليوم لمن يتأثر لحالها فيتحرك ليشبع جائعها ويسقي ظمآنها ويكسو عاريها.

القائد يتحمَّل المسؤولية:size=3>size=3>
قول جرير – رضي الله عنه – حكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فدخل ثم خرج» ينبئنا عن عظم المسؤولية التي كان يتحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو القائل: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمتsize=3>»[متفق عليه].

لم يكن – صلى الله عليه وسلم –  متكئاً على أريكته لا يبالي بما يلمُّ بالناس من أحداث وأوضاع هم أحوج ما يكونون إلى معونته ونجدته؛ كما هي حال كثير من القادة اليوم الذين استمرؤوا الأوضاع المتردية التي تمر بها شعوبهم من فقر وبطالة وجرائم وضياع للحقوق، وليتهم يتحملون المسؤولية في دفعها والأخذ على أيدي الظلمة والمتنفذين والمفسدين؛ حتى لو ذهبت مصالحهم وراحتهم في سبيل تحقيق ذلك. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان كان من أفضل أهل زمانه وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله)[الفتاوى 28/262]. وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: «يومٌ من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحدٌّ يُقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين عاماً»[الطبراني]، وعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  يقول: «ابغوني ضعفاءكم؛ فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكمsize=3>»[أحمد وغيره].

 ولكن السؤال: أين دخل النبي صلى الله عليه وسلم؟ ومن أين خرج؟ لقد دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم إلى حجراته الملصقة بالمسجد لعله يجد شيئاًً يسد به جوعة هؤلاء المحتاجين ولو كان قليلاً.

الأسوة الحسنة:size=3>
دخول النبي – صلى الله عليه وسلم –  حجراته ليأتي للقوم بطعام أو شراب وخروجه بدون شيء يوضح لنا درساً مهماً من دروس القدوة والأسوة، إذ كان – صلى الله عليه وسلم –  بإمكانه أن يدعو الناس مباشرة إلى الصلاة ويخطب بهم ويحثهم على الصدقة وينتهي من هذا الأمر، ولكنه بدأ بنفسه لعله يقوم به دون الحاجة إلى إشراك الناس وتحميلهم أمراً ربما لا يطيقونه ولا يقدرون عليه.

إن قيام القائد بالمبادرة ابتداء يُعدُّ دافعاً مهماً لأتباعه للاقتداء والتأسِّي دون حاجة إلى الوعظ والحث أو التحريض على الفعل صالحاً كان أو سيئاً؛ فماذا لو دخل النبي – صلى الله عليه وسلم –  بيته وخرج بشيء من طعام أو شراب والصحابة ينظرون هل كانوا يحتاجون إلى وقوفه – صلى الله عليه وسلم –  هذا الموقف الوعظي وإلى التمعُّر والغضب وهم قد تلقوا منه الأحاديث الجمَّة في الحثِّ على الصدقة، ورأوا منه المواقف المتكررة الدالة على كرمه وجوده – صلى الله عليه وسلم – ؟ فلما لم يجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  شيئاًً في بيته لم يكن منه إلا التذكير؛ والذكرى تنفع المؤمنين.

القائد لم يقدم شيئاً:size=3> 
دخل صلى الله عليه وسلم حجراته ولم يأتِ بشيء؛ سبحان الله! وهو القائد الذي فتح مكة وجاءته الأموال وقسَّم الغنائم بين الناس، إنه في آخر مشواره.

 إنه القائد الذي لا يملك شيئاًً! لم يقدم شيئاًً، نعم! فهو لا يملكه؛ لأنه لو كان يملكه لم يكن ليبقى عنده؛ فعن عقبة – رضي الله عنه – قال: صليت وراء النبي – صلى الله عليه وسلم –  بالمدينة العصر، فسلَّم ثم قام مسرعاً، فتخطَّى رقاب الناس إلى بعض حُجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: «ذكرت شيئاً من تِبْرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمتهsize=3>»[البخاري].

 لم يقدم – صلى الله عليه وسلم –  شيئاًً، وكيف يقدم وبيوته لا يوقد فيها نار أشهراً؟! فعن عروة عن عائشة – رضي الله عنها – أنها كانت تقول: «والله يا ابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  نار. قال: قلت: يا خالة! فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم –  جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  من ألبانها، فيسقينا»[متفق عليه].

إن من عاش على شظف العيش وقلة ذات اليد ومرارة الجوع وقلة الشبع جدير به أن يتصور آلام الآخرين ومعاناتهم ويقدرها قدرها ويعطيها حقها من الاهتمام والمتابعة لا سيما وهو يتمتع بقوة الإيمان ورسوخ المبادئ وأصالة القيم، أما من عاش على التنعم والرفاهية فأنَّى له أن يحسَّ بمعاناة الناس وجراحاتهم، وإن أحسَّ بها فإنما هو كإحساسه بذباب وقع على أنفه فأزاحه بشيء مما لديه وهو لا يشعر، وسبق درهم مائة ألف درهم.
لاجئون في مدينة الرسول – صلى الله عليه وسلم:size=3>
لقد وصف جرير – رضي الله عنه – هؤلاء القوم بأنهم «قوم عراة مجتابي النِّمَار أو العباءِ، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر» هذا الوصف يوحي لنا بأنهم كانوا لاجئين إلى مدينة الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – ؛ فالقوم عراة بمعنى أنهم كانوا متّزرين فحسب، وربما كانت الأُزُر ممزقة، فكأنهم من فرط ضعفها وهوانها جعلتهم كالعراة. و«النِّمار» بكسر النون جمع نَمرة بفتحها، وهي ثياب صوف فيها تنمير، و «العَباء» بالمدِّ وبفتح العين جمع عباءة وعباية لغتان. وقوله: «مجتابي النمار» أي: خرقوها وقوَّروا وَسْطها[شرح مسلم]. وهذه الصورة صورة الإنسان الفقير فقراً مدقعاً؛ فالذي لم يجد ما يلبسه أحرى أن لا يجد ما يشبعه.

ومن هنا تتجلى لنا عدد من الدروس في هذا المقام:
size=3>
size=3>
منها: الإسلام يقف موقفاً إيجابياً تجاه من لجأ إليه أو استجار به؛ سواء كان هذا اللاجئ يريد سماع كلام الله أو يريد الأمان أو حتى يريد الطعام والشراب والكسوة؛ فها هو – صلى الله عليه وسلم –  لم يسأل عن هؤلاء الأعراب ولا عن ملتهم أو التزامهم أو تفريطهم، ولكنه بادر لإعانتهم وسد جوعتهم وكسوتهم؛ عملاً بقوله تعالى: {وَإنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَsize=3>} [التوبة: ٦]، هذا في حق المشرك المستجير، فكيف بغيره؟ ومفهوم الاستجارة يتسع لأن يدخل فيه الضيافة والإكرام؛ إذ إن من غير المعقول أن يجلس هذا اللاجئ أياماً دون طعام أو شراب.

ومنها: منهج الإسلام «منهج الهداية لا منهج الإبادة، وهو حريص على كل قلب بشري أن يهتدي وأن يثوب»[الظلال3/1602]. ولذا فقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  يعطي الأمان لمن جاءه، مسترشداً أو في  رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من رسل قريش منهم: عروة بن مسعود، ومِكْرَز بن حفص، وسهيل بن عمرو، وغيرهم، واحداً بعد واحد، يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم فأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم[ابن كثير7/151].

ومنها: رحمة الإسلام باللاجئين واهتمامه بهم والقيام بحقهم وعدم تركهم يتضوَّعون جوعاً يلتحفون السماء ويفترشون الطرقات، بل يموت بعضهم مرضاً وقهراً، كما نرى في واقعنا المعاصر؛ فأهل الإسلام يهبُّون لإغاثة المحتاج وهداية الضال وإكساب المعدوم وفعل كل وجوه الخير للناس، هكذا وجَّههم ربهم – تعالى – فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَsize=3>} [الحج: ٧٧], وربَّاهم على ذلك نبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم –  قولاً وعملاً؛ كما في هذه القصة المباركة.

الناس قدرات وطاقات:
لقد عدَّد النبي – صلى الله عليه وسلم –  أنواعاً من المال: فبدأ بالدينار والدرهم، وذلك كما قال بعضهم: «إنهما الدنيا كلها؛ إذ يتوصل بهما إلى جميع أصنافها» بل يصل بالإنسان لشدة حبه لهما إلى عبوديتهما.

ثم ذكر الثياب، وهي ألصق ما يكون بالإنسان؛ فبها يستر العورة ويحسن الصورة، وهؤلاء القوم كانوا أحوج إليها من غيرها فكانت بدرجة كبيرة من الأهمية.

والبُر والتمر، هما من قوت أهل المدينة، وقد شرع الله – تبارك وتعالى – أن يتصدقوا منهما لزكواتهم وكَفَّاراتهم، وهما مؤونة أخرى تسد جوعة هؤلاء القوم.

ثم قال الصحابي: حتى قال: «ولو بشق تمرة»، و (حتى) من مدلولاتها عند أهل اللغة أنها للغاية، بمعنى: أنه – صلى الله عليه وسلم –  في مسيرة وعظه لهم ذكر أصنافاً من الطعام والشراب حضاً وتحفيزاً للصحابة أن يسارعوا للتصدق بها على هؤلاء المحتاجين، إلى أن وصل إلى أقل الأشياء وأوفرها في كل بيت.

وهذا الجزء من الحديث تضمَّن دلالات مهمة يحسن الوقوف عليها:
منها: الناس تتباين درجات عطائهم بحسب تباين المقاصد والأحوال والأعمال، وكلٌّ بحسب طاقته وجهده وقدرته؛ فالذي لا يملك الدينار أو الدرهم قد يملك الثياب، أو يملك الطعام أو الشراب، والذي لا يملك ما سبق فلا أقل أن يملك التمر و«بيت ليس فيه تمر كأن ليس فيه طعام»[مسلم]. إنه – صلى الله عليه وسلم –  يفتح أبواب الخير على مصاريعها ليدخل المؤمنون من أيها شاؤوا وحسب طاقتهم ووسعهم.

ومنها: أن لا يحتقر المسلم صدقته ولو قلَّت، بل يجب عليه أن يتصدق بما تيسر قلَّ أو كثر، وهذا من المعاني المهمة التي يؤكد عليها النبي – صلى الله عليه وسلم –  مراراً وتكراراً ويحرص على تثبيتها في قلوب أزواجه وأصحابه – رضي الله عنهم – فها هو يقول لأم المؤمنين عائشة الصديقة – رضي الله عنها -: «يا عائشة! استتري من النار ولو بشق تمرة؛ فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعانsize=3>»[أحمد].

ولأهمية هذه المسألة بوَّب البخاري – رحمه الله – لها باباً في صحيحه، فقال: باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة. قال الحافظ – رحمه الله -: وفي الطبراني من حديث فضالة ابن عبيد مرفوعاً: «اجعلوا بينكم وبين النار حجاباً ولو بشق تمرةsize=3>»[الطبراني]، قال الحافظ: وفي الحديث الحث على الصدقة بما قلَّ وما جلَّ، وأن لا يحتقر ما يتصدق به، وأن اليسير من الصدقة يستر المتصدق من النار[فتح الباري4/33].

ومنها: لقد قام النبي – صلى الله عليه وسلم –  بالمفهوم الإداري الخيري مقام المسوِّق لمشروع مهم من مشاريع الآخرة ألا وهو التصدق على المحتاجين، وسطر من خلال ذلك آلية حكيمة من آليات التسويق الخيري، ومن ذلك: أنه ينبغي لمن أراد أن يسلك هذا السبيل التدرج في طلب الصدقات من المحسنين؛ بأن يطلب منهم أهمَّ ما لديهم، ثم يتدرج معهم إلى أقل ما يملكونه، بمعنى: أن لا يخرج من عندهم إلا ومعه ما تيسر؛ دفعاً لفاقة المحتاج وفتحاً لهذا الغني باباً من أبواب الخير، ولولا تصرفه هذا لما عَرَف السبيل إليه.

الأنصار في المقدمة:size=3>
قال جرير – رضي الله عنه -: «فجاء رجل من الأنصار بصرَّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت»، وهنا تتجلى أهمية كسب الأنصار لأي مشروع من مشاريع الحياة؛ فقد جعلهم الله عماداً تقوم بهم الرسالات، ومن خلالهم تتجاوز المحن والابتلاءات، وتتدلى الثمار يانعات، وهنا أيضاًً تتجلى أهمية النصرة للمنكوبين والمضطهدين والجوعى من الفقراء والمساكين والمحتاجين، النصرة للمنهج الحق، وللشريعة السمحاء. إن الأنصار ليسوا من رعاع الناس وهمجهم، الذين جُلّ همهم المكاسب الدنيوية الزائلة، وكم سيكسبون أو يخسرون من هذه النصرة، وليسوا تلك الجموع الغفيرة التي جاءت لتستمع فقط وتهز رأسها إعجاباً بجميل الخطاب ورونق الكلام؛ فإذا حقت الحقائق انفضّوا فلا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزاً، كلا؛ بل الأنصار أصحاب الفاعلية والفداء والتضحية والترجمة العملية لكل ما سمعوه ووعوه فعلاً إيجابياً على الواقع.
رجل من الأنصار؛ هكذا دائماً نقرؤها في كتب الحديث، وما إن تقرأها حتى تجد بعدها موقفاً إيجابياً أو قولاً حكيماً أو مبادرة فاعلة.

ثم تتابع الناس:size=3>
 ما إن وضع الأنصاري صُرَّته بين يدي النبي – صلى الله عليه وسلم –  حتى تتابع الناس كلٌّ يأتي بما استطاع من ماله وثيابه وطعامه، إنه مشهد يضع بين أيدينا عبراً ووقفات:

لقد كان لخطاب النبي – صلى الله عليه وسلم –  وقعه وتأثيره في قلوب الصحابة – رضي الله عنهم – ومشاعرهم، كيف لا وقد احمرَّ وجهه وعلا صوته حضاً وتحريضاً وتدرجاً وتفصيلاً، وهنا نرى أهمية التأثر والتأثير بين الحدث والموقف المناسب؛ فالحدث الذي حصل في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم –  صنع موقفاً تعليمياً عظيماً ليس للصحابة فحسب بل للأمة كلها، وهكذا المواقف العظيمة تصنعها الأحداث المهمة التي يبقى أثرها إلى ما شاء الله متى ما حسنت النيات وصلحت المقاصد.

يحتاج الناس إلى نماذج حية تحفزها للعمل والبذل والعطاء، إنهم يقتفون أثر من يعجبون بعمله ويتشبهون بفعله وقوله «فكم ممن لم يرد خيراً ولا شراً حتى رأى غيره – لا سيما إن كان نظيره – يفعله ففعله؛ فإن الناس كأسراب القطا؛ مجبولون على تشبه بعضهم ببعض»[أحمد]. وعندما تعجز الأمة عن أن تقدم نماذج عظيمة في كل فن من فنون الحياة، والأسوأ من ذلك عندما تستلهم العقول الساذجة نماذجها من عفن الثقافة الغربية الموغلة في أوحال الفاحشة والرذيلة؛ فلا تعجب حينئذ أن ترى آلاف الشباب يُهرَعون خلف قيادات اللعب واللهو من الممثلين والمغنين والمهرجين، ويصبح هؤلاء هم القدوة والمثل الأعلى لهم في حياتهم!

لقد أفرز هذا التتابع المبارك وتلك المسارعة الحية إلى فعل الخير نتيجة كبيرة ذكرها جرير – رضي الله عنه – بقوله: «حتى رأيت كومين من طعام وثياب»، إنها نتائج حقيقية وليست وهمية، يصوغها الإيمان الصادق، وتدفعها الهمة العالية لتتبوَّأ تلك النفوس الطاهرة مكانتها السامقة، وهكذا هم صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  يضربون المثل الأعلى في تحقيق النتائج الباهرة وإن تأخروا قليلاً عن الفعل والتأسي، ولكنه تأخر الفعل الناضج والفكر الواعي، فتنمو أشجار أعمالهم كبيرة عالية يتفيَّأ ظلالها السالكون ويذوق حلاوة ثمارها المحبون، ويعلو شأن من تسلَّق أغصانها فوق ما يتصورون، لقد تأخروا عن حَلْق رؤوسهم في الحديبية ولكنهم لما أبصروا الأمر بعين المتأسِّي لقائده وبصيرة المحب الصادق لنبيه ورسوله؛ سارعوا إلى تنفيذ أوامره والانصياع التام لمقاصده؛ فكانت العاقبة لهم والخزي والعار لعدوهم.

الإبداع لا الابتداع:size=3>
لقد أحدث هذا المشهد وهذا التناغم الإيماني تأثيراً كبيراً في قلب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – ؛ حيث علا وجهَهُ البِشْرُ والسرورُ بما رأى من تفاعل أتباعه مع توجيهاته وأوامره وهو ما يجعله يرضى عنهم ويبذل كل ما في وسعه وطاقته سعياً في مصالحهم وإلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، حتى قال أبو ذر: لقد تَرَكَنَا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علماً[أضواء البيان6/212].

فلم يصمت – صلى الله عليه وسلم –  أو يهز رأسه فخراً وخيلاء لَمَّا رأى استجابة أتباعه كما يفعل الكبراء والعظماء؛ زهواً وترفعاً وكبراً وافتخاراً بهذه التبعية وهذا الخنوع الذي يراه من الجماهير، كلَّا؛ بل أطلق الثناء ومنح العطاء ليس لهؤلاء فحسب بل للأمة كلها وللأجيال اللاحقة، فقال: «من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ»، وهنا نقف لنتأمل عبراً ودروساً نبوية مهمة:

منها: أنه ما من جهد إلا وله ثمرة؛ سيئة كانت أو حسنة؛ حلوة كانت أو مرة، بحسب نية صاحب ذلك الجهد ومقصده وهدفه، ولذا فإن النبي – صلى الله عليه وسلم –  يقرر أن الأعمال الصالحة التي يفعلها المؤمن لا تضيع سدى ولا تذهب هباء، بل هي عند الله محفوظة، وبالإخلاص مرفوعة، ومن أجور المقتدين بها موفورة، إنه كرم وتفضُّل إلهي على هذه الأمة وفي مقدمتها نبيها ورسولها محمد – صلى الله عليه وسلم – .

إنه منهج يدعو صراحة إلى ابتكار طرائق جديدة وآليات فعّالة وأدوات تخدم تحقيق مفهوم العبودية الذي دعا إليه وتنهل من معين التأسي به والسير على منواله، بل إنه يكافئ هذا المبتكر وهذا المبدع لا المبتدع بالجزاء الأوفى متى ما حسنت النية وصلح القصد. ونلاحظ أن هذه المنهجية يؤكد عليها النبي – صلى الله عليه وسلم –  في آخر حياته ليدل ذلك وبوضوح على عظمة هذا الأمر وأن المطلوب من الأمة أن تنطلق إلى ميادين الحياة وتعمل بِج دٍّ ونشاط لتسخير ما أنعم الله عليها من الخيرات والبركات في كل ما من شأنه رفعتها وعزها وقوتها، وصولاً إلى تحقيق العبودية والوحدانية الخالصة لله تبارك وتعالى.

ومنها: أن المتابع لحياة النبي – صلى الله عليه وسلم –  وسيرته بين أصحابه يجد عدداً غير قليل من التنبيهات النبوية التي تؤكد أنه ليس هناك طريق إلى الجنة غير الطريق الذي خطَّه خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام المتقين وصفوة الخلق أجمعين محمد – صلى الله عليه وسلم – ، فيستحيل عقلاً ونقلاً أن يكون – صلى الله عليه وسلم –  في آخر سنة من حياته يشرع للناس أن يبتدعوا في دين الله غير ما شرعه وبيَّنه ويضرب بكل أحاديثه وتحذيراته المتكاثرة التي تبين عظمة خطورة الابتداع في دين الله عزّ وجل؛ عرضَ الحائط ويلغيها بحديث أو أحاديث يسيرةٍ المقصودُ الأعظمُ من ورودها ليس فتح المجال لمضاهاة الطريقة الشرعية التي سنَّها النبي – صلى الله عليه وسلم –  من خلال أفعاله وأقواله، وإنما مقصود ورودها أنها دعوة إلى القيام بالمبادرات الذاتية والجماعية واستنهاض الهمم للعمل الدؤوب لإعلاء كلمة الله وتحقيق العبودية لله – سبحانه وتعالى – وحده لا شريك له.

ومنها: بيان أن فضل الله واسع وعطاءه جزيل ومننه عظيمة، وفي هذا ربط قوي بما عند الله الكريم المنان، فمنه وحده الأجر والثواب، وعنده وحده تتضاعف الأجور والحسنات ويرتقي صاحبها في سُلَّم الدرجات درجة ليصعد بأعماله وحسناته أعالي درجات الجنان، بينما تجد أن ذلك الإنسان الذي فعل المنكر واقتدى به آخرون فإنه إن تاب ورجع تاب الله عليه، أما أوزار سيئات الناس فعليهم وليس عليه شيء منها ما دام أنه رجع وتاب وعمل ما استطاع، فالتوبة الصادقة المستوفية لشروطها تَجُبُّ ما قبلها، أما فساد هذا الذنب أو هذه البدعة التي انتشرت لا حيلة له فيه وقد فعل من هذا الواجب كل ما يقدر عليه، وما لا قدرة له عليه فإنه معذور فيه؛ لقوله – تعالى -: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَاsize=3>} [البقرة: ٦٨٢].

إن قصة وفد مضر تجاوزت أحداثها من كونها دعوة إلى التصدق والإنفاق في سبيل الله إلى درجة بيان المنهجية الإسلامية في التعامل مع الناس باختلاف أحوالهم ومواقفهم؛ لتصل هذه المنهجية الحكيمة إلى أن تخلق من الأمة المسلمة أمة تغيير نحو الأفضل والأرقى والأسمى.
ــــــــــــــــــــ
مجلة البيان عدد 255

Source: islamweb.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *