دور المثقف حيال بناء الأمَّة الثقافي:
لابدَّ وأن يكون للمثقف دور في بناء الهيكل الثقافي للأمَّة المسلمة، وتزويدها بكلِّ ما يرفع من كيانها وقدراتها، ومن ذلك:
ـ ممَّا يلزم المثقف أن يكون له دور في الإصلاح الفكري والديني والاجتماعي وغيرها، وأن يفرض رأيه بالإقناع لا بالإخضاع، فهو ليس حاكم أو قاضي، بل هو مبلغ وداعية وموصِّل للثقافة التي استقاها إلى شرائح المجتمع.
مع أهميَّة أن يتسع صدره لمن يخالفه، ويعامله بالحسنى، ويعاشره بالمعروف، ويربي الناس على أهميَّة التخلٌّق بأدب الخلاف، والتعامل مع الناس في طروحاتهم الفكرية والثقافيَّة بأدب، ويخبرهم بأنهم الرابح الكبير من وراء ذلك، وصدق الله إذ يقول: “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً”.
ـ من الأمور المهمة للمثقف المسلم أن يبني نظاماً ثقافياً لمن يريد أن يزداد من رصيده الثقافي، ولو تنادى جمع من المثقفين لعقد جلسات بين أرباب الثقافة وأولو الفكر والمعرفة الذين يمتازون بالتنوع في التخصصات فيما بينهم، مع الاتساع المعرفي، والعمق المنهجي، واختطوا منهجاً ثقافياً شاملاً عاماً يجمع بين القراءة والتدبر والتحليل والتأمل والدورات والتجارب والأشرطة والمحاضرات والندوات والأفلام الوثائقية والمناهج المتغايرة المختلفة، وحاولوا أن يضعوا للمبتدئين وكذا للمتوسطين والمتقدمين، منهجية ثقافية شاملة، لكان أمراً متميزاً، ويكون ذلك عبر خطة شمولية منهجية متكاملة في جميع العلوم والتخصصات.
وقد يقول قائل: قد يحصل هناك اختلاف ما بين الرؤى والتصورات في النظر إلى تلك المنهجية الثقافية الصاعدة، ويكتب آخرون منهجيَّة أخرى تغاير وتخالف، فجواباً على ذلك: لا بأس…. فليكن مثل هذا فإنَّا نريد أن تكون قضايانا الثقافية موضع نقاش وفائدة وتبادل للخبرات والمعارف وتنوع في الفهم والتحليل وهو ما يمكن أن يطلق عليه التلاقح الثقافي، وقد قيل: العقول ينقح بعضها بعضاً، ولا يعني ذلك إقرار التضارب بين المناهج المرسومة لذلك، بل هذا من قبيل اختلاف العقول المحمود، وقد قيل: اختلاف العقول ثراء واختلاف القلوب وباء.
ـ مخاطبة كل فئة بما يناسبها من الخطاب الثقافي، فليخاطب كبير السن، خلاف ما يخاطب صغيره، وحين يخاطب ويتحدث إلى النخب، غير حديثه لرجل الشارع العامي، وهكذا… فليعط لكل مقام مقاله الذي يخصَّه، ويتحدث بالحديث المناسب للرجل المناسب في المكان المناسب، اقتداء بما قاله علي بن أبي طالب:(حدثوا الناس بما يعقلون أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله) وبقول عائشة:(ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلاَّ كان لبعضهم فتنة).
ـ تعميق الحس النقدي لدى آحاد الأمَّة، وتربية العقول على أن تكون موضوعيَّة في التلقي والاستماع، ودراسة القضايا بروح المنهجية لا العواطف غير المؤصَّلة.
لهذا عرَّف مجمع اللغة العربيَّة بأنَّ الثقافة:(كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد والمجتمع) مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1979، مادة ثقف.
فمهم وحسن أن يكون لدى المثقف دور في تنمية ملكات النقد البنَّاء لدى المجتمعات المسلمة، وكيف تتلقَّى الأخبار وتمحِّصُها قبل أن تشيعها وتذيعها.
ـ تشجيع روح الإبداع والابتكار في قلوب الشباب اليافع، ومحاولة الإشراف على مراكز تعتني بهم، وترفع من قدراتهم الإبداعيَّة، والسعي لتمويلها وتشغيلها، وحتماً فستنتج تلك المراكز كفاءات عالية نشيطة وذات همم وطموحات، تفيد الأمَّة المسلمة.
ـ إشعار الناس بأهمية اللغة العربية، والتحدث والاعتزاز بها، وأن يغرس المثقف في المسلمين حب اللغة العربية، لأنَّها اللغة التي نزل بها القرآن فهي لغة الإسلام، وممَّا يؤسف له أن نجد أناساً من مفكري الإسلام ومثقفيه لم يتعلموا اللغة العربية، بل كتبوا كتبهم بلغاتهم الخاصة بهم، كأبي الأعلى المودودي، ومحمد إقبال، بل كان مالك بن نبي وهو من كبار مثقفي الإسلام، يكتب كثيراً من كتبه باللغة الفرنسية!
وعلَّة ذاك الاهتمام باللغة العربية؛ أنَّها تلاقي الآن وقبل الآن حرباً ضروساً بلا هوادة من دعاة العامية، أو من المستشرقين، والمستغربين، ولا ننسى ما كان يردده سلامة موسى وغيرهم من أذيال الغرب بالتحاكي والتلاسن باللغة العامية، متحججين بأن اللغة العربية لا تستوعب الأشياء الحديثة، وأنَّها لغة ضعيفة مهلهلة، كانت تصلح لزمن حجري، وليس لزمن النهضة.
فهم يحاولون صرف المسلمين عن لغتهم بتشجيعهم على الدخول للمدارس العالمية، ويشجعون على أن تكون اللغة الإنجليزية لصيقة بالتلميذ منذ دخوله للمدرسة، ونجد كثيراً من الناس يصفقون لذلك الأمر، وهم لا يعلمون أن المسألة ينظر لها الغربيون بمنظار آخر، وإن كان تعلم اللغات مهم، وقد قيل: من تعلم لغة قوم أمن مكرهم.
ولنلاحظ اليهود كيف أنَّهم شجَّعوا لغتهم العبرية مع أنها كانت ميتة، بل إنَّ اليهودي العربي لا يرطن ولا يتكلم إلاَّ بها، فضلاً عن أنَّها هي اللغة العلمية التي يتعلم بها الطلاَّب في جامعاتهم في الأعم الأغلب.
وبما أنَّنا نتحدث عن موضوع اللغة، فمن مهمات المثقف السعي إلى إيجاد مؤسَّسات تعنى بترجمة الكتب غير العربية، والتي يجد بها معلومات مهمَّة تفيد عموم الشعوب العربية المسلمة، وكذلك ترجمة ما لدى غير من المسلمين من أفكار بثوها في كتبهم، وحرمناها في واقعنا العربي المسلم، بسبب عدم ترجمتها!
ـ محاولة تقديم البديل الإسلامي المنضبط بقيم الإسلام وتعاليمه، فالله تعالى يقول لمحمد ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ: ” ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً” وقد كتبت في ذلك دراسة مختصرة وافيه ـ بإذن الله ـ سميتها:(البديل الإسلامي بين الانضباط والتسيب) من الحسن الرجوع لها، وقد نشرت على العديد من مواقع الإنترنت.
دوره حول ثقافات الغير:
ـ تحصين الأمَّة وحمايتها من الغزو الفكري أو الثقافي الذي يراد لها من خلاله أن تنسلخ من عقيدتها وقيمها وثوابتها.
ومن القضايا التي يجب على المثقف المسلم أن ينتبه لها ما يسمَّى بأسلمة المصطلحات، فهذه القضيَّة يريد المثقفون الليبراليون أن يمرروا من خلالها كثيراً من المصطلحات الغربيَّة والمهترئة التي مجَّ بعضها الغرب فقذفوه لنا، ليتلقفها الليبراليون ويبشِّروا بها ويدندنوا على أهميتها في الواقع الإسلامي.
كما أنَّ بعض الإسلاميين يحاولون أن يحققوها في الوجود الإسلامي ولكن بغير (فلترة) لما فيها أو إصلاح خللها فينتج من ذلك مفاسد في التصورات، وعطب في المفاهيم.
ومن أروع من كتب عن ذلك محمود شاكر في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، ومحمد قطب في كتابه (نحو تأصيل إسلامي للعلوم الاجتماعية)، ومحمد محمد حسين في كتابه (حصوننا مهددة من داخلها).
ـ تنقية الثقافات ممَّا يعتريها من خلل، أو تشويش، فنحن نعيش في زمن الانفجار المعرفي والذي جعل الكم الهائل من المعرفة والمعلومات متاحة لنا في كل وقت، ومن المؤكَّد أنَّها تحوي الغث والسمين، ووظيفة المثقف حيال ذلك أن ينقي المعلومات من مصدرها، ويقدمها بصورة جيدة سلسة خالية من العيوب والنقائص، وهذا ما نحتاجه في زمن الاتصال الفكري = أن يكون هناك علاج للثقافة الوافدة إلينا وتمييز طيبها من خبيثها، فثقافة الأرض لكلِّ الأرض، ومن المهم الانفتاح عليها، ولكن الدور الذي على كاهل المثقف هو التنقية والتصفية لجميع الثقافات وإدخال الحسن منها إلى دائرة المحيط الإسلامي واستبعاد رديئها.
ـ التحذير ممَّا يسمَّى بـ:(عولمة الثقافة) وإشعارهم بخطورة هذه الفكرة، وأنًَّ فحواها ومحتواها طمس الخصوصيات الإسلاميَّة، وإشغال الأمًَّة المسلمة بما لدى الأمم الغربيَّة والأمريكيَّة على وجه الخصوص من ثقافات جديدة، وإغراقهم في المستنقع الثقافي لما يسمَّى بالقرية الكونية [وإذا كانت وزيرة الثقافة الدنماركيَّة اشتكت من هيمنة الثقافة الأمريكيَّة، وقالت:”لم يعد يحتمل هذا الغزو” وإذا كان الرئيس الفرنسي السابق (فرانسو ميتيران) وقف يخطب في الجموع المحتشدة محذِّراً من تفشِّي ظاهرة لبس الجينز بين الشباب الفرنسي لأنَّه مظهر من مظاهر الغزو الأمريكي)مقطع مأخوذ من كتاب العولمة: للدكتور: إبراهيم النَّاصر صـ27ـ صـ11.
فإنَّا كمسلمين يلزمنا، أن نحذر من ذلك ونكون أشدّ إصراراً على المحافظة على هويتنا وخصوصياتنا وقيمنا، وعدم التشبه والاقتداء بأعداء الإسلام، كيف ورسولنا ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ حذَّرنا من ذلك وقال:(من تشبَّه بقوم فهو منهم) أخرجه أحمد وجوَّد إسناده ابن تيمية وحسَّنه ابن حجر.
ـ من مهمَّات المثقف (استرداد المصطلحات المغتصبة) وتعديل المفاهيم عند الناس، ومنازعة المثقفين في بعض المصطلحات، ومن ذلك كلمة (المثقف) فقد كانت تطلق في السابق على أتباع الفكر الماركسي الشيوعي، والآن تطلق على أصحاب الفكر الليبرالي العلماني المتحرر من ربقة العبودية لله، فكلمة المثقف هي أولى بالمثقف المسلم.
المثقف والمستقبل:
ـ على المثقف أن ينتهز فرص قراءة المستقبل، والرؤى القادمة، ودراستها، واستنباط وإبراز القضايا التي قد ينشأ منها إشكاليات في واقع الثقافة ومصادرها، وأن يسبق الباطل بخطوات قبل وقوعه، بالإصلاح والنصح المبكر، لا أن ينتظر وقوعه حتى يبدأ بالإصلاح والنصح وربما يتحول هذا الإصلاح بسبب بعد نظره إلى حق دون أدنى خسارة فيتحول الباطل إلى حق لحسن تدبير المثقف وعلمه وأسبقيته بمعرفة وقوع الخطر قبل قدومه.
فيكون بهذا مقتدراً على توعية الشعوب بالمخاطر التي قد تواجهها، وإعطائها اللقاحات الثقافية المضادة، والأمصال الواقية من التأثر بقضايا تسبب فيما بعد مشاغبات ثقافية مؤثرة على الجو الثقافي والبيئة العامة.
وذلك حتى لا تكون أفعال المثقفين أو قراءاتهم في الواقع أو دورهم في المجتمع ناشئ عن ردود أفعال فحسب، بل لابد أن يكون للمثقفين دور في قراءة مستقبلية للفعل والتشخيص له قبل علاجه وصناعة الدور الذي يناسبه.
وأخيراً: هل المثقف داعية؟!
قد يقول بعض القرَّاء: إنَّ بعضاً ممَّا كتبت حول دور المثقف يشترك مع دور الداعية، والجواب عن ذلك: بأنَّ المثقف إن قصدنا به ذلك الشيء المركَّب الذي يطلق على شخص حمل العلم والمعرفة وازدان بالسلوك الراقي الذي اختلط بشخصيته فحسب… أي باختصار… ذلك المثقف الذي تكونت لديه معلومات فصار شبيه قوالب جامدة!
إن كان هذا ما يدور في بال ويسنح في خيال كثير من القرَّاء فليس ذلك هو المقصود… إنَّ المثقف الذي تريده أمتنا ذلك المثقف الداعية لأفكاره وثقافته التي يحملها، فهو داعية بقوله، وداعية بفعله، وداعية بتصرفاته، وأي مثقف ليس داعية فإنَّ أمتنا لن تستفيد منه شيئاً.
تلك ومضات مهمَّة لعلَّها تكون مفيدة، ونوراً يضيء، وسراجاً يشتعل، ونجوماً تضيء؛ للمثقف المسلم مريد الثقافة والعمل معاً، فالمثقف رائد والرائد له دور في مجتمعه، وهو لا يكذب أهله..