دور هيبة وجاه السلطان كمستلزِم في جباية الزكاة

دور هيبة وجاه السلطان كمستلزِم في جباية الزكاة

دور هيبة وجاه السلطان كمستلزم في جباية الزكاة هناك قوة أو قوى حقيقية يستلزم توفرها..

Share your love

دور هيبة وجاه السلطان كمستلزِم في جباية الزكاة

هناك قوة أو قوى حقيقية يستلزم توفرها في الفاعل ليتمكن بواسطتها من القيام بالفعل، فالفعل يستلزم فاعلاً، والفاعل يستلزم أن يكتسب قوة، ومقدار قوة الفاعل يجب أن يساوي حجم الفعل ويزيد عن قوة المفعول به، حتى يتمكن الفاعل من القيام بالفعل.
وبما أن الجباية تتعلق بأخذ المال، والمال – كما يقال – شقيق الروح، والناس في إيمانهم متفاوتين، وكثير منهم أصابهم البخل والشح، وبما أن جباية الزكاة فريضة واجبة لا تخضع لأهواء الأغنياء، وإنما يجب أن تؤخذ منهم ولو جبراً، فإن فعل جباية الزكاة يتطلب فاعلاً ذا قوة عظيمة، لأنه يواجه أقوياء المجتمع وعليّة القوم، لينتزع منهم جزءاً من أموالهم التي هي مصدر قوتهم، لهذا كلِّه لم يكلف الله سبحانه وتعالى مستحقي الزكاة من الفقراء والمساكين بأن يأخذوا ما فرضه الله لهم من الأغنياء بأنفسهم، لأنهم غير قادرين على فعل الأخذ، وذلك لأنه لا يتوفر لديهم مستلزم الفعل وهو القوة، فهم ضعفاء، والأغنياء أقوياء، وفعل الأخذ يستلزم أن تكون قوة الآخذ أكبر من قوة المأخوذ منه، وكذلك يجب أن يستلزم الفاعل عزة، لأن الفعل في عملية أخذ المال يتطلب قوة قد تستخدم لانتزاعه، واستخدام القوة يتطلب عزة تولد شجاعة دافعة للإقدام واستخدام القوة، ومانعة من الجبن والخضوع والمسكنة.
لذلك نجد أن القوة نوعان: قوة مادية وقوة معنوية، رغم أن كل نوع يقوي الآخر، ويمكن تصور مفعول هذه القوة في المجتمع بمصطلح يستوعب القوة بجميع أشكالها المادية والمعنوية، ألا وهو الجاه، لهذا سوف أفرد لهذا المصطلح ما يعطي صورة واضحة عنه، وعن دوره في جباية الزكاة، فسأذكر ماهية الجاه وحكمه وأهميته، من خلال هذا المطلب.

ماهية جاه السلطان وما يترتب عليه من أحكام تجاه فريضة الزكاة:
أولاً:ماهية جاه السلطان:
الجاه لغة: هو المنزلة والقدر [المعجم الوسيط].
وفي الاصطلاح: هو سمو المنزلة والقدر الذي يتمتع بهما السلطان بحكم وظيفته الرسمية كحاكم أعلى للدولة.
فالجاه هو من المقومات المتطلب وجودها لتمكين المأمور شرعاً بإقامة الزكاة، وهو الحاكم؛ ابتداء بجباية الزكاة، وانتهاء بردها إلى أهلها.

ثانياَ: ما يترتب على جاه السلطان من أحكام تجاه فريضة الزكاة:

لقد ترتب على جاه السلطان تجاه فريضة الزكاة حكمان واجبان:
 الأول: جباية أموال الزكاة من الأغنياء، والثاني: رد أموال الزكاة إلى أصحابها (الأصناف الثمانية)، فحكم قيام السلطان بجباية الزكاة هو الوجوب، فقد فرض الله جبايتها في القرآن الكريم على ولي أمر المسلمين، ومن الأدلة على مسؤولية السلطان عن جباية الزكاة ما يلي:
1. قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [سورة التوبة:103]، قال أبو حيان رحمه الله: «في قوله: {خُذْ} دليل على أن الإمام هو الذي يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها» [التفسير الكبير المسمى البحر المحيط].
وقال الفقيه الحنفي كمال الدين بن الهمام: “إن ظاهر قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [سورة التوبة:103]، توجب حق أخذ الزكاة مطلقاً للإمام، وعلى هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده، فلما ولي عثمان وظهر تغير الناس كره أن يفتش على الناس مستور أموالهم ففوض الدفع إلى الملاك نيابة عنه، ولم تختلف الصحابة عليه في ذلك. وهذا لا يسقط طلب الإمام أصلاً، ولذا لو علم أن أهل بلدة لا يؤدون زكاتهم طالبهم بها” [شرح فتح القدير].
وما ورد من نصوص في تفسير هذه الآية يؤيد ما نذهب إليه من وجوب قيام الدولة المسلمة (ولي الأمر) بما كلفت به شرعاً، وهو القيام بوظيفة جباية زكاة المسلمين، وذلك لما لها من قوة وجاه وسلطان لا يتوفر لأي مؤسسة أو أي جهة أخرى.
2. قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [سورة التوبة:60].
يقول العلامة القرضاوي: «إن أبرز دليل على مسؤولية الدولة عن شؤون الزكاة، أن الله تعالى ذكر القائمين على أمر الزكاة جمعاً وتفريقاً، وسماهم {العاملين عليها} … وجعل لهم سهماً في أموال الزكاة نفسها، ولم يحوجهم إلى أخذ رواتبهم من باب آخر، تأميناً لمعاشهم، وضماناً لحسن قيامهم بعملهم» [فقه الزكاة].
فالله تعالى جعل الزكاة فريضة توجب حقاً لفئات ضعيفة في المجتمع، ولا يعقل أن يترك الفقراء وهم يطرقون أبواب الأغنياء بذلة وصغار، لأن ذلك يتناقض مع تكريم الله لبني آدم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [سورة الإسراء:70]، لذلك لم يكلف الإسلام الفقير بطلب الزكاة من الغني، بل أمر ولي الأمر أن يأخذ الزكاة من الغني ويردها إلى الفقير، ليحافظ على كرامة المسلم فلا يطأطئ رأسه إلا ساجداً وراكعاً لله تعالى.

3. حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل – حين بعثه إلى اليمن– ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب. فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله…، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم: أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم…)).
قال ابن حجر في الفتح: “فيقوله: (تؤخذ من أغنيائهم) استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه وإما بنائبه، فمن امتنع منها أخذت منه قهراً،[فتح الباري شرح صحيح البخاري].
4. قوله صلى الله عليه وسلم في الزكاة: ((من أعطاها مؤتجراً فله أجره، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء))، أخرجه الإمام أحمد، وحسنه لألباني، وصححه الحاكم. ونستدل من هذا الحديث على وجوب قيام الجابي برفع أمر من امتنع عن دفع الزكاة لولي الأمر، وهذا يدل على حق الدولة بأن تجبر الممتنعين عنها على دفعها.

وما جاءت به السنة القولية، أكدته السنة العلمية والواقع التاريخي الذي جرى عليه العمل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين من بعده.
قال الحافظ ابن حجر في “التلخيص” عند تخريج ما ذكره الإمام الرافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يبعثون السعاة لأخذ الزكاة: هذا مشهور، ففي الصحيحين عن أبي هريرة: بعث عمر على الصدقة. وفيهما عن أبي حميد: استعمل رجلاً من الأزد يقال له “ابن اللتبية”. وفيهما عن عمر: أنه استعمل ابن السعدي.
وقال ابن إسحاق: وبعث المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء فخرج عليه العنسي وهو بها، وبعث زياد بن لبيد إلى حضرموت، وبعث عدي بن حاتم إلى طيئ وبني أسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وفرق صدقات بني سعد على رجلين، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية، وقيس بن عاصم على ناحية، وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين، وبعث علياً – رضوان الله عليه – إلى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم، [زاد المعاد].
وما أخرجه البيهقي في سننه عن الإمام مالك عن عمر بن حسين عن عائشة بنت قدامة عن أبيها أنه قال: «كنت إذا جئت عثمان بن عفان أقبض منه عطائي يسألني هل عندك من مال وجبت فيه الزكاة؟ فإن قلت: نعم أخذ من عطائي زكاة ذلك المال وإن قلت لا دفع إلي عطائي».
ويتضح من خلال فعل سيدنا عثمان رضي الله عنه -وبصفته أمير المؤمنين وولي أمرهم- باقتطاع حق الله تعالى (الزكاة) من حق العبد (العطاء)، ولولا أن جباية الزكاة واجبة على ولي الأمر، وأنها مقدمة على حق مستحق العطاء بعطائه ما كان فعل ذلك رضي الله عنه.
ولهذا قال العلماء: «يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة؛ ولأن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه، ومنهم من يبخل، فوجب أن يبعث من يأخذ…» [المجموع شرح المهذب].

وقد أوجب الإمام الشافعي على الولاة جمع الزكاة، وأنه لا يجوز لهم ترك هذا الواجب قال: «فرض الله عز وجل على أهل دينه المسلمين في أموالهم حقاً لغيرهم من أهل دينه المسلمين المحتاجين إليه، لا يسع أهل الأموال حبسه عمن أمروا بدفعه إليه من أهله، أو ولاته، ولا يسع الولاة تركه لأهل الأموال; لأنهم أمناء على أخذه لأهله منهم، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [سورة التوبة: 103]، ففي هذه الآية دلالة على ما وصفت من أن ليس لأهل الأموال منع ما جعل الله عز وجل عليهم ولا لمن وليهم ترك ذلك لهم»، [الشافعي: الأم، كتاب الزكاة].
أما الحكم الثاني المترتب على جاه وهيبة السلطان فهو القيام برد أموال الزكاة إلى أصحابها (الأصناف الثمانية)، وذلك لأن مصطلح (الرد) هو المصطلح الصحيح الذي يبقي حق ملكية أموال الزكاة لأصحابها ولا تنتقل الملكية لأحد أثناء انتقال تلك الأموال ابتداء بوجودها في أوعية الأغنياء، ومرورا بيد الحاكم بعدما أخذها من الأغنياء، أي أن أيدي كل من الأغنياء والسلطان هي أيدي أمانة فقط، لذلك فمصطلح الرد هو من الإعجاز التشريعي كما سبق أن ذكرنا في مقال سابق بعنوان: (الإعجاز المقاصدي في مصطلحات تشريعات الزكاة وأثره في حفظ كرامة الفقراء)، ورد الأمانات إلى أهلها هو من واجبات السلطان للأدلة التالية:

1. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء:58].
فرد الأمانات من واجبات الإمارة في الإسلام، فأموال الزكاة بعد جبايتها، هي من الأمانات التي أمر الحاكم بردها إلى أهلها وهم الأصناف الثمانية المذكورين في {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة:60].

2. قوله صلى الله عليه وسلم: ((تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)) [متفق عليه].
فأموال الزكاة العائدة ملكيتها إلى الأصناف الثمانية هي أمانة عند الأغنياء ابتداء؛ بمجرد أن أصبحوا أغنياء، وانتهاء بيد السلطان (الحاكم) بمجرد إيتاء الأغنياء بأموال زكاتهم إليه، أو عندما يأخذها بالقوة عنوة من الأغنياء؛ والدليل على ذلك ثبوت ملكية أموال الزكاة لمستحقيها كحق معلوم فرض، قد بنص القرآن الكريم، لذلك فأن تشريعات إقامة الزكاة ما هي إلا آلية لإيصال تلك الأموال إلى مستحقيها مع الحفاظ على بقاء ثبات الملكية لهم أثناء عملية تطبيق الزكاة، أي عدم انتقالها إلى ذمة أي جهة أخرى حتى الدولة نفسها.
ومما سبق من أدلة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة الكرام وفتاويهم، يتبين لنا أن القيام بفريضة الزكاة (جباية ورد) هي من وظائف السلطان الأساسية لما له من هيبة وجاه تمكناه من القيام بفريضة الزكاة، بصفته رأس الدولة، وصاحب الجاه الأكبر فيها.
 

Source: islamweb.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!