ذكرى جلاء الاحتلال الفرنسي عن مصر.. هزيمة عسكرية وجرائم تحت ستار حملة ثقافية

هي أول سني الملاحم العظيمة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وتوالي المحن؛ هكذا يصف المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي بداية الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798.

Share your love

رسم تخيلي لجرائم الاحتلال الفرنسي في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)

القاهرة – “هي أول سني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب”.

هكذا يصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي بداية الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798، مستعرضا مذابح الاحتلال وجرائمه، كما أرّخ لكفاح المصريين ومقاومتهم، وهو ما أثمر جلاء الاحتلال في مثل هذا اليوم 18 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1801، بعد 3 سنوات قضتها فرنسا تحاول أن تجعل مصر قاعدة إستراتيجية تنطلق منها لغزو الشرق.

واجه الاحتلال الفرنسي مقاومة حامية امتدت من الإسكندرية شمالا إلى صعيد مصر جنوبا، حيث خاض المصريون معارك ضارية ضد الفرنسيين في السنوات الثلاث، وثاروا ضد الفرنسيين مرتين في ما يعرف بثورة القاهرة الأولى والثانية، لكن الفرنسيين واجهوا الثورة بالحديد والنار وضربوا القاهرة بالمدافع ودنّسوا الجامع الأزهر وأغلقوه، ولاحقوا الثوار وقادتهم وأعدموا بعضهم مثل محمد كريم حاكم الإسكندرية، لكنهم فشلوا في حماية قائدهم كليبر الذي قتله الشاب الأزهري السوري سليمان الحلبي.

تدنيس الأزهر

ولا ينسى المصريون قيام جنود قائد فرنسا نابليون بونابرت بدخول الجامع الأزهر لإخماد ثورة المصريين، وتدنيس أشهر مساجد مصر في جريمة تاريخية لا تغتفر.

يصف الجبرتي بعضا من جرائم الفرنسيين عند اقتحام الأزهر بقوله “دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشّموا خزائن الطلبة، ونهبوا ما وجدوه بها من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عرُّوه، ومن ثيابه أخرجوه”.

كمّ الأفواه

بعد فشل حملته على مصر، بذل نابليون جهدا كبيرا لكمّ أفواه جنرالاته وقادته العسكريين، فهددهم بالاعتقال، لمنع نشر مذكراتهم عن الفشل العسكري في مصر، وتم الترويج لحملته على أنها حملة ثقافية وعلمية كبيرة، وهو ما لا يزال الفرنسيون ينشرونه حتى اليوم تعزيزا لأسطورة نابليون، رغم الاعتراف بالإخفاق العسكري.

اتخذ نابليون والسلطات الفرنسية موقفا شديد العداء ضد ما كتب سلبا في مذكرات القادة العسكريين الذين شاركوا في حملته في مصر، مثل مذكرات الجنزال “رينيه” المنشورة في باريس 1802 تحت عنوان “مصر بعد معركة هيليوبولس”، التي كشف فيها عن تخبط الجيش الفرنسي واضطرابه وتكبده خسائر بشرية ومادية فادحة، وذلك دفع نابليون لحظر المذكرات ومصادرتها.

كما تعقب نابليون مذكرات الجندي الفرنسي “جاك ميو” التي كتبها تحت عنوان “مذكرات تاريخ الحملات على مصر وسوريا خلال السنوات السادسة والسابعة والثامنة للجمهورية الفرنسية”، حيث فضح فيها تردّي أوضاع جيش الحملة وجنودها، مما دفع نابليون إلى تشكيل لجنة لمراجعة الكتب قبل النشر وتنقيح ما فيها، خصوصا ما يكتب عن الحملة في مصر.

في المقابل، قام رجال نابليون بتقديم مذكرات تدين المصريين وتعظم الحملة الفرنسية، مثل الضابط “هوويه” الذي كتب مذكراته بعنوان “حملة مصر: مذكرات ضابط في الجيش الفرنسي”، ليجعل من مذكراته جزءا من التاريخ القومي لفرنسا.

قام “هوويه” بتهميش صورة المقاومة المصرية للفرنسيين، ووصفهم بأنهم مجتمع “مستسلم بلا إرادة”، ولم يذكر فيها ثورة القاهرة الأولى ضد نابليون إلا في صفحة واحدة، ووصفها بأنها “تمرد عام وانتفاضة شعبية”، رغم وضعه لعنوان فرعي: “ثورة القاهرة والأقاليم”، ورأى أن المماليك هم المحرك الرئيسي لثورة المصريين للدفاع عن مصالحهم الشخصية.

تشويه التاريخ

في كتابها “الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير؟” ذكرت الباحثة المصرية ليلى عنان -أستاذة الحضارة الفرنسية في جامعة القاهرة- أن الطلبة المصريين في المدارس الفرنسية كانوا يتعلمون منذ نعومة أظفارهم كل ما تدين به مصر لفرنسا، حيث الحملة هي بعثة علمية وثقافية، ليست حملة عسكرية استعمارية، وأن المصريين عاشوا في سلام ووئام مع وجود الفرنسيين في مصر، وئام لا تشوبه ثورة أو عنف دموي.

وتقول الباحثة إنها كانت طالبة في المدارس الفرنسية، حيث درست هذه المناهج، ودفعها ذلك إلى إتمام دراستها عن حقيقة الحملة الفرنسية، ونشرها، معتبرة أن أسباب الحملة الفرنسية على مصر تتشعب كأي حدث تاريخي، وتعود إلى ماض سحيق، فيراها البعض آخر الحروب الصليبية، ويراها آخرون أول موجات الغزو الاستعماري الأوروبي الكاسح في القرن الـ19، في حين يؤرخ لها فريق ثالث على أنها حدث ثانوي، وآخرون يتعاملون معها كحدث منفصل يتعلق بإمبراطور فرنسا الشهير نابليون الذي غيّر مجرى الأحداث في أوروبا كلها.

وفي يوليو/تموز الماضي اضطرت مدرسة فرنسية جديدة بالإسكندرية إلى تغيير اسمها من “كليبر الدولية” إلى “ستارسبورغ الدولية”، بعدما أثار الاسم غضب رواد مواقع التواصل الاجتماعي، لما عدّوه تخليدا لذكرى جنرال دموي شارك في احتلال مصر وقتل المصريين خلال الحملة الفرنسية على بلادهم.

وفي الشهر نفسه لكن من العام الماضي أثار إعلان دعائي للجامعة الفرنسية في القاهرة موجة استياء واسعة لدى المغردين، بعد تصوير نابليون بونابرت على أنه شخصية أدخلت الحضارة والعلم إلى البلاد.

موجة الغضب المصرية أجبرت صفحة الجامعة على حذف الإعلان، لكن التفاعل مع الإعلان -الذي أعاد الناشطون تداوله- لم يتوقف، وأدى إلى مطالبة الجامعة باعتذار رسمي عن الإعلان الذي وصفه مغردون بالتضليل التاريخي غير المقبول لحقبة الاستعمار الفرنسي.

وفي النهاية اضطرت الجامعة الفرنسية إلى الاعتذار عما وصفته بـ”سوء الفهم” الذي ظهر بعد الإعلان.

تبرير الغزو مستمر

من جهتهم، لا يزال الفرنسيون يتمسكون بمحاولاتهم لتبرير الحملة الفاشلة في الشرق، ففي 2018 نشر المؤرخ الفرنسي “جاك أوليفييه بودون” كتابه بعنوان “حملة مصر” عن تاريخ الثورة الفرنسية وحقبة نابليون، مقدما قصة الحملة فى السياق الذى يحفظ لها توهجها كملحمة عنيفة استثنائية، ترسخ أسطورة نابليون، وتزيد من ظاهرة الهوس بمصر.

يعلق الباحث المصري ناصر أحمد إبراهيم -مؤلف كتاب “مائتا عام على الحملة الفرنسية”- معتبرا أن كتاب بودون كغيره من كتب الفرنسيين يحاول تبرير الغزو، فالكتاب يأتي ضمن المدرسة الفرنسية المعاصرة التي لا تتمسك بالأطر التفسيرية الكلاسيكية المتواترة عن ماض يمتد أكثر من قرنين، من قبيل أن الحملة الفرنسية كانت أول حملة ثقافية أو علمية فى التاريخ الحديث، وأن فرنسا الثورة كانت تعنى بتحرير الأمم، وحملة مصر كانت إحدى حروبها التي استهدفت تحرير مصر من الاحتلال المملوكي.

ويضيف إبراهيم – في مقاله بصحيفة الأهرام الحكومية– أن تبرير الغزو يسير بضربة واحدة، إذ يقول الفرنسيون إن هذا التحول ما كان ليتم سوى بالقوة العسكرية، لضمان إزاحة الطبقة المملوكية من السلطة، ومنح الأمة المصرية استقلاليتها خارج التبعية العثمانية البالية، حسب زعمهم.

ويشير الباحث المصري إلى استثمار الفرنسيين لهذه الصورة النمطية للتغاضي عن النتائج الكارثية للحملة، فأكثر من ثلثي الجيش تمت تصفيته في مصر، وعاد الثلث المتبقي بين مريض ويائس وغاضب من إرسالهم في حرب بعيدة جنوب المتوسط، وإهمالهم 3 سنين وهرب قائدهم بونابرت الذي كان مشغولا بصناعة مجد سياسي شخصي، يصوّره فاتحا عظيما، على حساب الجيش وبأي ثمن.

الرواية الفرنسية

في الذكرى المئوية الثانية لوفاة بونابرت هذا العام (توفي عام 1821)، يقول “روبير سوليه” الكاتب والصحفي الفرنسي المصري ومؤلف العديد من الكتب عن الحملة الفرنسية على مصر، إن صناع أسطورة نابليون وضعوا انتصاراته العسكرية في الصدارة، ووصفوه بقاهر الأهرامات وأرض الفراعنة، رغم الفشل العسكري للحملة الفرنسية في مصر، واستعادة العثمانيين والإنجليز السيطرة على مصر، مما جعل التركيز أكبر على الإسهام العلمي الثقافي لهذه الحملة، وهو “إسهام لا يقدر بثمن”.

ويضيف سوليه – في حديث لفرانس 24 – أن العلماء الفرنسيين أنجزوا عملا كبيرا بتشجيع من نابليون نفسه، إذ وضعوا كتاب “وصف مصر” الذي يوثق اكتشافات لا حصر لها، كما أرسوا علم المصريات، وكشفوا حضارة مصر للعالم وللمصريين أنفسهم، “لأن المصريين في ذلك الوقت لم يكونوا مهتمين بماضيهم الفرعوني، بل رفضوا ذلك الماضي باعتباره حضارة وثنية”.

ويؤكد سوليه أن هذا النهج الثقافي قد أسس الهوس بمصر وأطلق شغف الفرنسيين بها، وأن حملة نابليون جاءت في أعقاب الثورة الفرنسية لتنشر الحضارة في العالم، ولأن مصر هي أصل الحضارة، فقد أراد نابليون إعادة الحضارة إلى مهدها، معتبرا أنه رغم استخدام نابليون العنف في حملته، فإن “مصر الحديثة تبدأ من دون جدال ببونابرت وحملته الشهيرة، بمعنى أنه كان لها تأثير سياسي مهم من خلال تدمير النظام السياسي للمماليك وتمهيد الطريق لمحمد علي مؤسس الدولة الحديثة”، على حد وصفه.

ويرى سوليه أن المصريين ظلوا يقبلون فكرة أن نابليون جلب الحداثة لمصر، أكثر من كونها حملة عسكرية قلبت البلد رأسا على عقب، عندما كانت مصر ملكية، حتى قامت ثورة يوليو/تموز 1952 وتم اعتبار الحملة “احتلالا أجنبيا” مما أدى دورا في إيقاظ القومية المصرية، على حد وصفه.

شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!