رحيل ميركل.. روما بدون الفاتيكان؟

اسيا العتروس

كيف ستكون اوروبا بعد المستشارة ميركل ؟الاكيد ان غياب السيدة الاقوى في العالم عن الساحة الاوروبية سيكون له تاثيره في هذه المرحلة التي تشكو فيها اوروبا من خلافات و ازمات متعددة لا سيما بعد البريكسيت , لا خلاف ان صفات الزعامة تحولت الى عملة نادرة في عالم اليوم و هي صفات لا تورث ولا تباع في المزادات العلنية ولا يمكن توريدها أو اقتناؤها بالعملة الصعبة فإما أن تتوفر في الشخص أو لا تتوفر.. والأكيد انه ليس كل من امتهن السياسة أو اقتحم عالمها، زعيم. فكم من السياسيين تحكموا في المشهد السياسي طوال عقود وغادروه دون أن يتركوا أثرا يذكر.. وكم من السياسيين تركوا بصماتهم حيثما مروا ليسجلها لهم التاريخ وتقف عندها الأجيال لأنهم وبكل بساطة امتلكوا القدرة على اتخاذ القرار الأخطر والأصوب في اللحظة الحاسمة ولم يترددوا ولم ترتعش أياديهم وهم يقررون وقف الحروب وصنع السلام أو التفاوض أو البحث عما يمكن أن يخدم مصلحة الشعوب ويحقق سيادة الأوطان دون حسابات أو أوهام.. من هنا وعندما يقف القادة الأوروبيون احتراما لواحدة من ابرز قادة العالم في العقدين الماضيين وعندما يعتبرون انسحاب ميركل من الساحة السياسية الأوروبية أشبه بالعاصمة الفرنسية باريس بدون برج إيفل أو أشبه بروما بدون الفاتيكان، فان في ذلك ما يعني أن هذه المرأة التي تربعت على السلطة في ألمانيا الموحدة على مدى ستة عشرة عاما قد سجل التاريخ اسمها من أوسع الأبواب وسيذكر لها أنها حيوان سياسي بامتياز كما يصفه أرسطو في اكتمال صفات الإنسان أو اقترابه من درجات الكمال وإن كان الأمر أشبه بالمستحيل وهي التي استأثرت بلقب أقوى امرأة في العالم والأكثر نفوذا عشر سنوات متتالية، لتتفوق بذلك على من سبقها في منصب من القيادات النسائية في الزعامة مثل رئيسة وزراء بريطانيا صاحبة لقب السيدة الحديدية مارغريت تاتشرت أو رئيسة وزراء الهند انديرا غاندي أو تانسو تشيلر في تركيا.. وهي مدافع شرس على مصالح ألمانيا ومصالح الشعوب الأوروبية في كل الأوقات والأزمات وتعتبر أن تقدم ألمانيا وقوتها من تقدم وقوة أوروبا.. جمعت ميركل بين العلم وهي أستاذة الفيزياء والباحثة في مجالها وبين الخبرة السياسية التي تمكنت منها بالتدرب على يد المستشار الألماني هلموت كول الذي سيمهد لها اقتحام عالم السياسة بعد انهيار جدار برلين.. وساعدها في ذلك صفات الزعامة التي تميزت بها من قوة شخصية وقدرة على التفاوض ودراية عميقة بالملفات والأزمات التي تواجهها.. ويقول عنها المقربون منها أن امرأة تعرف كيف تحيط نفسها بأفضل المستشارين وأبرز الخبراء في مجالاتهم وأنها فوق كل ذلك تتقن فن الإنصات والاستماع للآخرين وأنها لا تتردد في استشارة من يكون أفضل منها أو يتفوق عليها في أي مجال كان ولا تتردد في طلب النصيحة والاستشارة والحكمة حيث تكون …

لم ينظر قادة أوروبا لهذه المرأة على أنها كائن ضعيف أو مسؤولة ناقصة عقل أو دين، فالسياسة لا تفرق بين  امرأة أو رجل إلا بالمكاسب والانجازات وخدمة الشعب وهذا ما يتعين على مجتمعاتنا الانتباه له والتوقف عنده عندما يتعلق الأمر بالمفاضلة بين الكفاءات.. وخلال ما تم تسريبه من جلسه القادة الأوروبيين بالأمس فقد بدأ رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال خطابه في وداع ميركل التي تحضر آخر قمة أوروبية لها كمستشارة  بالاعتذار منها على تنظيم احتفال في هذه المناسبة لسبب مهم وهو أن العقلية الألمانية التي تجسدها ميركل ترفض هذا الترف وترفض الاحتفاليات والتمجيد المبالغ فيه للقيادات والزعماء وهي التي اختارت أن تعيش طوال توليها منصب المستشارة حياة بسيطة عادية بعيدة كل البعد عن البهرج والبذخ المفرط لأغلب الحكام والزعماء في العالم.. التأثر كان واضحا في كلمة المسؤول الأوروبي وهو يشيد بمناقب زميلته في المسؤولية التي عرفت في العالم بحكمتها وصلابة مواقفها في الأزمات خاصة وهي التي توصف بصانعة السلام في الاتحاد الأوروبي …

لم تتوقف ميركيل طوال مسيرتها السياسية عن حضور الحفلات الموسيقية مع زوجها إلا خلال أزمة الكوفيد والأرجح أنها ستعود إلى حياتها بين مواطنيها وهي أكثر شعبية وحضورا مما كانت عليه في مسيرتها السياسية ..

لا خلاف أن ميركيل لم تكن فوق النقد أو من دون أخطاء أو انتكاسات أو كبوات في صراعاتها السياسية في الداخل والخارج وهي التي وجدت نفسها ضحية للتجسس من الاستخبارات الأمريكية وهي التي زارت قبل أيام الكيان الإسرائيلي ولم تكلف نفسها زيارة فلسطين المحتلة رغم تصريحاتها المؤيدة لحل الدولتين.. ولكن يحسب لها أنها من أعادت بناء الوحدة الألمانية وعززت مكانة ألمانيا الاقتصادية ورفاهية الشعب الألماني ورفضت عداء المسلمين في بلادها حتى بعد العمليات الإرهابية التي كان وراءها متطرفون مسلمون.. وفوق كل ذلك كانت الأقدر والأحرص على فتح حدود بلادها واستقبال مليون لاجئ تدفقوا على ألمانيا بكل ما فرضه عليها ذلك من انتقادات وتراجع لشعبيتها ..

ليس من الواضح ما إذا ستسعى ميركل إلى منصب أممي بعد هذه المسيرة لسياسية الطويلة ولكن الأكيد أن المستشارة الألمانية قد ضمنت مكانتها وسجلت اسمها بين كبار قادة العالم لهذا القرن …

كاتبة تونسية

Source: Raialyoum.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *