امتنعَ النبيُ- صلى الله عليه وسلم- من قتل المنافقين مع مجيء وحي السماء الصادق بأسمائهم واحداً تلو الآخر؛ ومع أنهم يستحقون القتلَ لكفرهم وخيانتهم العظمى، وقد علَّلَ فعله بقوله الشريف “حتى لا يقول الناس أنَّ محمداً يقتل أصحابه”. وعندما أراد-عليه الصلاة والسلام- قلبَ أم المؤمنين صفية-رضي الله عنها- إلى بيتها بعد أنْ زارته في معتكفه مر رجلان من الصحابة فأسرعا فناداهما قائلاً “على رسلكما إنها صفية” ولما تعجب الأنصاريان -رضي الله عنهما- من قوله ذكر لهم النبي-عليه السلام- السبب “إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شراً”. لقد كان النبي الكريم في تصرفاته هذه ينطلق من تعبده لربه بحماية جناب الدين والدعوة وشخص الداعي إليه حتى لا تؤثر بعض الأفعال -وإن كانت حقاً- على سمعة الإسلام في الجزيرة العربية.
وعلى هذه الغاية الشرعية سارت مقولات وأفعال الصحابة والعلماء والخلفاء؛ فهذا عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- يقول: “ينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حكيماً حليماً سكيناً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا صخاباً ولا صياحاً ولا حديداً”، وعن الحسن-رحمه الله-: “قد كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشيه وهديه ولسانه وبصره وبِرِه”. وقد ضرب خلفاء الإسلام أروع الأمثلة وفاءً بحقوق أهلِ الذمة والمعاهدين والمستأمنين مما لا يسع المجال للحديث عنه.
ولذا فواجبٌ على العلماءِ صيانةُ العلم الذي حملوه حتى لا يُبتذل؛ ومن أسوأ مظاهر ابتذال العلم تحريفه ليوافق رغبة الجماهير أو السلاطين أو “النخب”، أو خوض غمار لججٍ يترفع عنها حملة العلم. وتتأكد “الرعاية والصيانة والحماية” من الحفاظ والدعاة والمحتسبين وجميع المنتسبين للوظائف الدينية ومظاهر الصلاح والتقى التي تستغل أحيانا لأهواء شخصية ومطامحَ دنيوية مما يشوه صورة الخير ودعاته لدى العامة أو الذين لا يحسنون التمييز ويغرقون في بحار التعميم. ومن هذا الباب أن يراعي الإنسان مكانةَ أبيه أو أخيه العلمية أو منصبه في إمامة الحرمين أو الجوامع الكبرى حتى لا يكون ثُلمة في سيرةٍ عطرة.
والمسلمُ الذي يتعامل مع غير المسلمين في عنقه أمانةٌ تجاه دينه وبلاده؛ وذلك بتقديم الصورة النموذجية المشرفة للإنسان المسلم؛ وأداء ما عليه من لوازم شرعية مع مجانبة ما يشينه ويجلب المعرَّة على بني دينه وجنسه. وقد اشتهر لدى بعض الأوربيين أن كلمة ” إن شاء الله ” مرادفةٌ لخلف المواعيد بسبب جريانها على ألسنة بعض المسلمين الذين لا يهتمون بالأوقات. كما تنحصر صورة كثير من المسلمين الذهنية لدى عامة الشعوب الغربية بالإرهاب والجنس والخمور وكثرة المال مع خفة العقل. وقد تزداد جسامة هذا الأمر في حق المسلم الذي يمثل بلداناً إسلامية ذات وزن وقيمة أكبر من غيرها.
وللغلاة والجفاة سجلٌ مظلم في نسبة السوء لأديانهم وأوطانهم. ولو فَقِهَ غلاة المسلمين لما اقترفوا شيئاً من الأفعال الرعناء التي تعود بالشر على التدين والجهاد المقدس وأعمال الخير والهدى، وما اغتيال الفرنسيين الأربعة إلا حلْقة من هذه السلسلة طويلةِ الذرعِ سيئةِ المتن. ويشاركُ الجفاة مشاركةً فعالةً بتشويه صورة المجتمعات ونبزها والإزراء بقدرها والاستخفافِ بقيمها وذلك من خلال تقارير ومقالات وما خفي من صلات وترتيبات أعظم!
وعلى الخاصة من المسلمين مسؤوليةٌ ثقيلة وحملٌ ضخم تجاه دينهم وبلادهم يتمثل بتوقير دين الشعب ومكانة البلاد ونظامها ونظرة الناس إليها والسمة الخاصة لحكامها. وقد أساءت وزارة الثقافة والإعلام السعودية لكل هذه الاعتبارات في منشط واحد هو معرض الكتاب الدولي الأخير إذ عُرضت فيه كتبٌ تتعرض بالسب الصريح القبيح للذات الإلهية- تعالى الله- وتكذيب المصحف الشريف الذي لا يأتيه الباطل أبداً؛ وفساد عرض السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي والطعن بالأحكام الشرعية.
ولم يكتف “مجرمو الثقافة والإعلام” بهذه العظائم بل زادوا ضغثاً على ذلك بروايات فاضحة وكتب المجون والشذوذ والدعوة المكشوفة للرذيلة والعار. وهذه العناوين والمضامين تخالف الدين الإسلامي الذي يتبعه أهل البلاد؛ وتهوي بمكانة البلاد الرفيعة التي يشار إليها على أنها منبع الرسالة المحمدية ومأرز الإيمان ومهوى القلوب ومنطلق الدعوة الإصلاحية والقائمة على شؤون الحجاج والمعتمرين والزوار بكل تفانٍ وبذل.
وفي تصرف الوزارة تعدٍّ جريء على النظام الأساسي للحكم الذي نص صراحة على مرجعية الكتاب السنة وحاكميتهما على كل شؤون البلاد، ولم تراع الوزارة أن ملوك الدولة السعودية يتشرفون بحمل لقب “خادم الحرمين الشريفين” وهو لقب له جلالة ووقار وعلو وفخر ومسؤوليات وواجبات.
إن الأُسد في الغابات لا تأكلُ من غير فريستها لموضع الأسد من الغابة وشرف نفسه على حيواناتها؛ ولا يشرب الأسد-ترفعاً- من ماءٍ ولغَ فيه كلب، ويحرص اللاعبون على الاحتفاظ بأرقامهم القياسية وهي مجرد رياضاتٍ وملاهٍ لا خطر لها ولا شأن. ويرفض سفراء إيران حضور الحفلات المخالفة لمذهب بلادهم أو ينزوون في ركن قصيٍ ضاربين الدبلوماسية بعرض الحائط؛ وحتى اليهود أهل الغدر والخيانة يحرصون على ألقابهم كما روى الأمام الذهبي في سير أعلام النبلاء أن الإمام المازري-وهو أحد شراح صحيح مسلم- مرض فلم يجد معالجاً في بلدته سوى طبيب يهودي فذهب إليه تحت وطأة الضرورة فعالجه اليهودي حتى شفاه الله. فقال الطبيب للمازري: “لولا شرف المهنة لأعدمت المسلمين رجلاً مثلك”؛ فثارت حمية المازري لبني دينه أن يطببهم مثل هذا فتعلم الطب حتى برع فيه. ويا ليت بعض بني قومنا يراعون دينهم وخصوصية بلادهم ولا تكون الحيوانات أو الروافض واليهود أكيس منهم وأكثر تحرياً وفهماً.