رقصة بوليرو: الرغبة في الحياة والشغف اللانهائي

طاولة حمراء مستديرة على سطحها يقف الراقص وحيداً، وعلى الأرض ينتظر عدد من الراقصين، الذين سيتحلقون حولها في النهاية، بينما تتصاعد نغمات قطعة بوليرو الشهيرة للموسيقي الفرنسي موريس رافيل 1875 ـ 1937، هذا كل ما تتطلبه رقصة بوليرو، كما صممها الفرنسي موريس بيجار 1927 ـ 2007 الذي يعد من أهم محدثي فن الباليه، وقد جعل […]

رقصة بوليرو: الرغبة في الحياة والشغف اللانهائي

[wpcc-script type=”3aa9c67d3713bd15d884c702-text/javascript”]

طاولة حمراء مستديرة على سطحها يقف الراقص وحيداً، وعلى الأرض ينتظر عدد من الراقصين، الذين سيتحلقون حولها في النهاية، بينما تتصاعد نغمات قطعة بوليرو الشهيرة للموسيقي الفرنسي موريس رافيل 1875 ـ 1937، هذا كل ما تتطلبه رقصة بوليرو، كما صممها الفرنسي موريس بيجار 1927 ـ 2007 الذي يعد من أهم محدثي فن الباليه، وقد جعل من هذه الرقصة نداً للمعزوفة، منازعاً لها على الشهرة والجدارة التعبيرية، وقد كان هذا شأنه مع الموسيقى دائماً، يتحداها ويدخل معها في منافسة شرسة، ليثبت أنه يستطيع التفوق والسيطرة عليها، فلم يكن يقبل بأن يدعها غامضة بعيدة، وأن يكون كأي مستمع آخر أو مصمم باليه يتبعها مطيعاً، فكان يصر على أن يقترب منها إلى أقصى درجة، ويكشف كافة أسرارها، وهذا ما حدث مع بوليرو رافيل التي يعتبرها البعض من أعظم القطع الموسيقية، ويقول بعضهم بأنها ليست موسيقى، وإنما مجرد تكرار عبثي لنغمة واحدة على إيقاع ثابت، وبعيداً عن ذلك الخلاف، والأهم من كونها موسيقى عظيمة أو لاموسيقى هو أسرارها الفنية، فهي قطعة مميزة بلا شك ويكاد يكون لا مثيل لها، وربما يثار الجدل نفسه حول الرقصة، هل هي حركات متكررة وتصاعد عبثي في النهاية؟ وإلى أي مدى موحية هي ومعبرة هذه الرقصة التي لا حكاية لها ولا حبكة، كما في الباليه الكلاسيكي، فنحن لا نعرف شيئاً عن هذا الراقص الوحيد فوق الطاولة، فهو ليس روميو في باليه «روميو وجولييت» على سبيل المثال، لا نعرف اسمه ولا نعرف لمن يطلق مشاعره رقصاً محموماً بالرغبة والتوق والشغف، فهو لا يتواصل جسدياً أو بصرياً مع أحد على الإطلاق، ينظر فقط إلى نقطة بعيدة مجهولة، ويمد يده في حركات متتالية، كمن يحاول أن يجلب شيئاً من الفراغ، أو أن يمسك بيد ذلك الحبيب الغامض البعيد، أو أن يمنحه نفسه وروحه مع تكرار حركة اليد من الخارج إلى الداخل ومن الداخل إلى الخارج.


يمتلك بيجار أسرار الموسيقى ويضعها في رقصته، وبمهارة شديدة يجعل من الرقص موسيقاه الخاصة المرئية، وتغلب الفلسفة على الكثير من أعماله فهو ابن لفيلسوف شهير وتسللت إلى نفسه منذ طفولته، ونراه قد استلهم رقصات عديدة من الفيلسوف الألماني نيتشه «هكذا قال زرادشت» و«ما قاله الحب لي»، كما اعتمد على الفلسفة الهندية القديمة في باليه «باكتي» وقدمه بالكامل على أنغام الموسيقى الهندية الكلاسيكية.

قام بيجار بتصميم رقصة مختلفة غامضة وسحرية، تبدأ ببطء شديد بحركات بسيطة محدودة للذراعين ثم تحريك القدمين ودفع الساقين وتحريك بقية أجزاء الجسد تدريجياً وصولاً إلى أعلى نقطة في الرقص

أما رقصته الشهيرة بوليرو فهي تستمر لمدة 17 دقيقة تقريباً من الرقص المنفرد المتواصل، بدون توقف للحظة واحدة، وتقدم هذه الرقصة إلى اليوم، لكن ربما لن يكون هناك خلاف على أن أعظم من رقصها حتى الآن هو الراقص الأسطوري الراحل جورج دون، ذلك الشاب الأرجنتيني الذي أتى يوماً من بوينس آيريس بموهبة مشتعلة ووجدان حار وجسد حالم، لا تحده حدود ووجه أشبه بمنحوتة فنية يجب إطالة تأملها وعينين عميقتين لا نهاية لموحياتهما، وكان هدية ثمينة من القدر لمصمم الباليه الباحث عن التجديد، وبموته الفاجع في عام 1992 فقد بيجار جزءاً كبيراً من روحه، وفقدت رقصاته من كان يمنحها تلك الروح وتلك الحياة، ربما تتفوق العروض الحديثة من حيث تطور التنفيذ وبراعة التكنيك، ولياقة الراقص الذي بات أشبه بالرياضي المحترف بعضلاته البارزة، على العكس من جورج دون الذي كان مدخناً شرهاً، لكن روحه كانت تمكنه من أداء أصعب الحركات التي تصل إلى حد الطيران في الهواء، ولا مثيل لاستجابته العاطفية للرقصة التي كان يؤديها، وتعد بوليرو من أشهر رقصاته التي برع فيها، كما برع في أداء دور «كريشنا» وعشقه لرادها في باليه «باكتي» وكذلك في دور روميو في باليه «روميو وجولييت».
وبوليرو كمصطلح قد تكون رقصة إسبانية قديمة وقد تكون أحد القوالب الموسيقية الإسبانية أيضاً، فالموسيقار الإسباني فيسنتي أميغو، الذي يعد من أشهر عازفي الغيتار في الوقت الحالي لديه أكثر من بوليرو من تأليفه، كما ان راقص الفلامنكو الإسباني «فاروقيتو» يقدم بعض رقصاته فوق طاولة مستديرة أيضاً، لكن بوليرو رافيل وبيجار ليس إسبانياً، وإن استهلم بعض الأمور فالنتيجة والأثر والانطباع والإحساس ليس إسبانياً، وفي الرقص نرى أن الملامح الشرقية هي الأكثر بروزاً، وتتعدد الحركات الأساسية التي من الممكن بسهولة جداً أن تتطور إلى رقص شرقي، كملامسة القدم للأرض بضربات خفيفة ودوران الجسد ارتكازاً على هذه الضربات، وكذلك حركة الذراعين إلى الأعلى وتحريك عضلات البطن والوركين أحياناً، كما تقدم المجموعة في النهاية بعض الحركات التي تتشابه كثيراً مع رقص الدبكة.
قام بيجار بتصميم رقصة مختلفة غامضة وسحرية، تبدأ ببطء شديد بحركات بسيطة محدودة للذراعين ثم تحريك القدمين ودفع الساقين وتحريك بقية أجزاء الجسد تدريجياً وصولاً إلى أعلى نقطة في الرقص، كما نلمح اتخاذ الذراعين لشكل الأجنحة وهي حركة متكررة لدى بيجار في أكثر من باليه، وتشبه رفع الطائر لجناحيه عندما يكون واقفاً على الأرض ولا يطير، وفي الجزء الأخير من الرقصة تتصاعد الموسيقى والحركة والإحساس إلى أقصى درجة، ويكون التكرار على الإيقاع الثابت قد بلغ حده منذ البداية البطيئة والتصاعد التدريجي حتى الذروة، والغريب أن المتلقي لا يمل هذا التكرار ويشعر بالرغبة في المزيد والمزيد ولا يريد التوقف، فلتعزف هذه الموسيقى إلى الأبد وليرقص هذا الجسد إلى ما لانهاية، لكن فجأة يسقط الجسد على الأرض وتصمت الموسيقى.

٭ كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *