الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
هذا هو المقال الثاني مما اقتبسناه واختصرناه من كتاب أدب الدنيا والدين نذكر فيه شيئا مما ذكره المؤلف رحمه الله في باب أدب التعلم.
اعلم أن العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجد فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب؛ لأن شرفه يثمر على صاحبه، وفضله ينمي على طالبه. قال الله تعالى:{قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر: 9). فمنع المساواة بين العالم والجاهل لما قد خص به العالم من فضيلة العلم.
وقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: الناس أبناء ما يحسنون. وقال مصعب بن الزبير: تعلم العلم فإن يكن لك مال كان لك جمالا وإن لم يكن لك مال كان لك مالا. وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بني تعلموا العلم فإن كنتم سادة فقتم، وإن كنتم وسطا سدتم، وإن كنتم سوقة عشتم.
وقال بعض الحكماء: العلم شرفٌ لا قدر له، والأدب مالٌ لا خوف عليه. وقال بعض الأدباء: العلم أفضل خلف، والعمل به أكمل شرف. وقال بعض البلغاء: تعلم العلم فإنه يقومك ويسددك صغيرا، ويقدمك ويسودك كبيرا، ويصلح زيفك وفاسدك، ويرغم عدوك وحاسدك، ويقوم عوجك وميلك، ويصحح همتك، وأملك.
وقال علي – رضي الله تعالى عنه -: قيمة كل امرئ ما يحسن. فأخذه الخليل فنظمه شعرا فقال:
لا يكون العلي مثل الدني … لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي
قيمة المرء قدر ما يحسن المرء … قضاء من الإمام علي
وقد قال ابن المعتز في منثور الحكم: العالم يعرف الجاهل؛ لأنه كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم؛ لأنه لم يكن عالما.
وأنشدني ابن لنكك لأبي بكر بن دريد:
جهلت فعاديت العلوم وأهلها … كذاك يعادي العلم من هو جاهله
ومن كان يهوى أن يرى متصدرا … ويكره لا أدري أصيبت مقاتله
وقيل لبزرجمهر: العلم أفضل أم المال؟ فقال: بل العلم . قيل: فما بالنا نرى العلماء على أبواب الأغنياء ولا نكاد نرى الأغنياء على أبواب العلماء؟ فقال: ذلك لمعرفة العلماء بمنفعة المال وجهل الأغنياء لفضل العلم . وقيل لبعض الحكماء: لم لا يجتمع العلم والمال؟ فقال : لعز الكمال. فأنشدت لبعض أهل هذا العصر:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله … فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحي بالعلم ميت … فليس له حتى النشور نشور
وقال يحيى بن خالد لابنه: عليك بكل نوع من العلم فخذ منه؛ فإن المرء عدو ما جهل، وأنا أكره أن تكون عدو شيء من العلم، وأنشد:
تفنن وخذ من كل علم فإنما … يفوق امرؤ في كل فن له علم
فأنت عدو للذي أنت جاهل … به ولعلم أنت تتقنه سلم
قال بعض الأدباء: كل عز لا يوطده علم مذلة، وكل علم لا يؤيده عقل مضلة.
وقال بعض علماء السلف: إذا أراد الله بالناس خيرا جعل العلم في ملوكهم، والملك في علمائهم. وقال بعض البلغاء: العلم عصمة الملوك؛ لأنه يمنعهم من الظلم، ويردهم إلى الحلم، ويصدهم عن الأذية، ويعطفهم على الرعية، فمن حقهم أن يعرفوا حقه، ويستبطنوا أهله. فأما المال فظل زائل وعارية مسترجعة وليس في كثرته فضيلة، ولو كانت فيه فضيلة لخص الله به من اصطفاه لرسالته، واجتباه لنبوته. وقد كان أكثر أنبياء الله تعالى مع ما خصهم الله به من كرامته وفضلهم على سائر خلقه، فقراء لا يجدون بلغة ولا يقدرون على شيء حتى صاروا في الفقر مثلا.
قال علي بن أبي طالب: العلم خير من المال. العلم يحرسك، وأنت تحرس المال. العلم حاكم والمال محكوم عليه. مات خزان الأموال وبقي خزان العلم أعيانهم مفقودة، وأشخاصهم في القلوب موجودة. وسئل بعض العلماء: أيما أفضل المال أم العلم؟ فقال: الجواب عن هذا أيما أفضل المال أم العقل .
وقال صالح بن عبد القدوس:
لا خير فيمن كان خير ثنائه … في الناس قولهم غني واجد
قيل في منثور الحكم: جهل الصغير معذور، وعلمه محقور، فأما الكبير فالجهل به أقبح، ونقصه عليه أفضح؛ لأن علو السن إذا لم يكسبه فضلا ولم يفده علما وكانت أيامه في الجهل ماضية، ومن الفضل خالية، كان الصغير أفضل منه؛ لأن الرجاء له أكثر، والأمل فيه أظهر، وحسبك نقصا في رجل يكون الصغير المساوي له في الجهل أفضل منه.
وقال بعض العلماء: من أحب العلم أحاطت به فضائله. وقال بعض الحكماء: من صاحب العلماء وقر، ومن جالس السفهاء حقر.
وقال رجل لأبي هريرة – رضي الله عنه -: أريد أن أتعلم العلم، وأخاف أن أضيعه. فقال: كفى بترك العلم إضاعة.
قال أبو تمام:
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل … ويكدي الفتى من دهره وهو عالم
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا … هلكن إذن من جهلهن البهائم
على أن العلم والعقل سعادة وإقبال، وإن قل معهما المال، وضاقت معهما الحال.
والجهل والحمق حرمان وإدبار وإن كثر معهما المال، واتسعت فيهما الحال؛ لأن السعادة ليست بكثرة المال؛ فكم من مكثر شقي ومُقل سعيد. وكيف يكون الجاهل الغني سعيدا والجهل يضعه؟. أم كيف يكون العالم الفقير شقيا والعلم يرفعه؟ وقد قيل في منثور الحكم: كم من ذليل أعزه علمه، ومن عزيز أذله جهله.
وقال بعض الحكماء: كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد قبحا. وقال بعض العلماء لبنيه: يا بني تعلموا العلم فإن لم تنالوا به من الدنيا حظا فلأن يذم الزمان لكم أحب إلي من أن يذم الزمان بكم. وقال بعض الأدباء: من لم يفد بالعلم مالا كسب به جمالا، وأنشد بعض أهل الأدب لابن طباطبا:
حسود مريض القلب يخفي أنينه … ويضحى كئيب البال عندي حزينه
يلوم علي أن رحت للعلم طالبا … أجمع من عند الرواة فنونه
فأعرف أبكار الكلام وعونه … وأحفظ مما أستفيد عيونه
ويزعم أن العلم لا يكسب الغنى … ويحسن بالجهل الذميم ظنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي … فقيمة كل الناس ما يحسنونه
وقال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شرا أعطاهم الجدل، ومنعهم العمل. وأنشد الرياشي لمصعب بن عبد الله:
أجادل كل معترض ظنين … وأجعل دينه غرضا لديني
وأترك ما عملت لرأي غيري … وليس الرأي كالعلم اليقين
وما أنا والخصومة وهي شيء … يصرف في الشمال وفي اليمين
فأما ما علمت فقد كفاني … وأما ما جهلت فجنبوني
وقد قالت الحكماء: أصل العلم الرغبة وثمرته السعادة، وأصل الزهد الرهبة وثمرته العبادة فإذا اقترن الزهد والعلم فقد تمت السعادة وعمت الفضيلة، وإن افترقا فيا ويح مفترقين ما أضر افتراقهما، وأقبح انفرادهما.
وقال مالك بن دينار: من لم يؤت من العلم ما يقمعه، فما أوتي منه لا ينفعه. وقال بعض الحكماء: الفقيه بغير ورع كالسراج يضيء البيت ويحرق نفسه.
ترق إلى صغير الأمر حتى … يرقيك الصغير إلى الكبير
فتعرف بالتفكر في صغير … كبيرا بعد معرفة الصغير
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: قلب الحدث كالأراضي الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته وإنما كان كذلك؛ لأن الصغير أفرغ قلبا، وأقل شغلا، وأيسر تبذلا، وأكثر تواضعا.
وقد قيل في منثور الحكم: المتواضع من طلاب العلم أكثرهم علما، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء. فأما أن يكون الصغير أضبط من الكبير إذا عري من هذه الموانع، وأوعى منه إذا خلا من هذه القواطع فلا.
حكي أن الأحنف بن قيس سمع رجلا يقول: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر. فقال الأحنف: الكبير أكثر عقلا ولكنه أشغل قلبا.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعُلُومُ مَطَالِعُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: قَلْبٌ مُفَكِّرُ، وَلِسَانٌ مُعَبِّرٌ، وَبَيَانٌ مُصَوِّرٌ.
قال بعض العلماء: من أكثر المذاكرة بالعلم لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم. وقال الشاعر:
إذا لم يذاكر ذو العلوم بعلمه … ولم يستفد علما نسي ما تعلما
فكم جامع للكتب في كل مذهب … يزيد مع الأيام في جمعه عمى.
قيل في منثور الحكم: من الفراغ تكون الصبوة. وقال بعض البلغاء: من أمضى يومه في غير حقٍ قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله أو حمد حصله، أو خير أسسه أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه . قال بعض الشعراء:
لقد أهاج الفراغ عليك شغلا … وأسباب البلاء من الفراغ
قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: أَتْعِبْ قَدَمَك، فَإِنْ تَعِبَ قَدَّمَك. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: إذَا اشْتَدَّ الْكَلَفُ، هَانَتْ الْكُلَفُ. وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنه:
لَا تَعْجِزَنَّ وَلَا يَدْخُلْك مُضْجِرَةٌ … فَالنُّجْحُ يَهْلِكُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالضَّجَرِ
وقد قيل: طلب الراحة قلة الاستراحة. وقال بعض الحكماء: أكمل الراحة ما كانت عن كد التعب، وأعز العلم ما كان عن ذل الطلب.