الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد ذكر المؤلف رحمه الله تعالى تحت عنوان مجانبة الكبر والإعجاب ما حاصله:
أنهما يسلبان الفضائل، ويكسبان الرذائل. وليس لمن استوليا عليه إصغاء لنصح، ولا قبول لتأديب؛ لأن الكبر يكون بالمنزلة، والعجب يكون بالفضيلة. فالمتكبر يُجل نفسه عن رتبة المتعلمين، والمعجب يستكثر فضله عن استزادة المتأدبين. فلذلك وجب تقديم القول فيهما بإبانة ما يُكسبانه من ذم، ويوجبانه من لوم.
فنقول: أما الكبر فيكسب المقت ويلهي عن التألف ويوغر صدور الإخوان، وحسبك بذلك سوءا عن استقصاء ذمه. ولذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم : ” إيَّاكم والكِبْرَ”. وقال: ” لا يدخُلُ الجنَّةَ عبدٌ في قلْبِهِ مثقالُ ذرَّةٍ مِنَ الكبرِ“.
وقال أزدشير بن بابك: ما الكبر إلا فضل حمق لم يدر صاحبه أين يذهب به فيصرفه إلى الكبر. وما أشبه ما قال بالحق.
وحكي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير نظر إلى المهلب بن أبي صفرة وعليه حلة يسحبها ويمشي الخيلاء فقال: يا أبا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال المهلب: أما تعرفني؟ فقال: بل أعرفك، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وحشوك فيما بين ذلك بول وعذرة. فأخذ ابن عوف هذا الكلام فنظمه شعرا فقال:
عجبت من معجب بصورته … وكان بالأمس نطفة مذره
وفي غد بعد حسن صورته … يصير في اللحد جيفة قذره
وهو على تيهه ونخوته … ما بين ثوبيه يحمل العذره
وأما الإعجاب فيخفي المحاسن ويظهر المساوئ ويكسب المذام ويصد عن الفضائل. وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم-: ” لا يدخُلُ الجنَّةَ عبدٌ في قلْبِهِ مثقالُ ذرَّةٍ مِنَ الكبرِ”. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب. وقال بزرجمهر: النعمة التي لا يحسد صاحبها عليها التواضع، والبلاء الذي لا يرحم صاحبه منه العجب.
وقال بعض الحكماء: عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله. وليس إلى ما يُكسبه الكبر من المقت حد، ولا إلى ما ينتهي إليه العجب من الجهل غاية، حتى إنه ليطفئ من المحاسن ما انتشر، ويسلب من الفضائل ما اشتهر. وناهيك بسيئة تحبط كل حسنة وبمذمة تهدم كل فضيلة، مع ما يثيره من حنق ويكسبه من حقد.
ولو تصور المعجب المتكبر ما فطر عليه من جبلة، وبلي به من مهنة، لخفض جناح نفسه واستبدل لينا من عتوه، وسكوتا من نفوره.
وأحق من كان للكبر مجانبا، وللإعجاب مباينا، من جل في الدنيا قدره، وعظم فيها خطره؛ لأنه قد يستقل بعالي همته كل كثير، ويستصغر معها كل كبير.
وقال محمد بن علي: لا ينبغي للشريف أن يرى شيئا من الدنيا لنفسه خطيرا فيكون بها نابها.
وقال ابن السماك لعيسى بن موسى: تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك. وكان يقال: اسمان متضادان بمعنى واحد: التواضع والشرف.
وللكبر أسباب: فمن أقوى أسبابه علو اليد، ونفوذ الأمر، وقلة مخالطة الأكفاء. وحكي أن قوما مشوا خلف علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – فقال: أبعدوا عني خفق نعالكم فإنها مفسدة لقلوب نوكى الرجال. ومشوا خلف ابن مسعود فقال ارجعوا فإنها زلة للتابع وفتنة للمتبوع.
وروى قيس بن حازم «أن رجلا أتي به للنبي – صلى الله عليه وسلم – فأصابته رعدة، فقال له – صلى الله عليه وسلم -: “هوِّنْ عليكَ ، فإِنَّي لستُ بمَلِكٍ ، إِنَّما أنا ابنُ امرأةٍ من قريشٍ ، كانتْ تأكُلُ القَديدَ“.
وإنما قال ذلك – صلى الله عليه وسلم – حسما لمواد الكبر، وقطعا لذرائع الإعجاب، وكسرا لأشر النفس، وتذليلا لسطوة الاستعلاء. ومثل ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه نادى الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: أيها الناس لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم فيقبض لي القبضة من التمر والزبيب فأظل اليوم وأي يوم. فقال له عبد الرحمن بن عوف والله يا أمير المؤمنين ما زدت على أن قصرت بنفسك. فقال عمر – رضي الله عنه -: ويحك يا ابن عوف إني خلوت فحدثتني نفسي، فقالت أنت أمير المؤمنين فمن ذا أفضل منك فأردت أن أعرفها نفسها.
وللإعجاب أسباب: فمن أقوى أسبابه كثرة مديح المتقربين وإطراء المتملقين الذين جعلوا النفاق عادة ومكسبا، والتملق خديعة وملعبا، فإذا وجدوه مقبولا في العقول الضعيفة أغروا أربابها باعتقاد كذبهم، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الاستهزاء بهم. وقد ورد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سمع رجلا يثْني على رَجُلٍ فَقالَ: “ويْلَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ أخِيكَ – ثَلَاثًا – مَن كانَ مِنكُم مَادِحًا لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أحْسِبُ فُلَانًا، واللَّهُ حَسِيبُهُ، ولَا أُزَكِّي علَى اللَّهِ أحَدًا، إنْ كانَ يَعْلَمُ“
وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – المدح ذبح. وقال ابن المقفع: قابِلُ المدح كمادح نفسه. وقال بعض الحكماء: من رضي أن يُمدح بما ليس فيه فقد أمكن الساخر منه. وروي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إياكم والتمادح“.
وقيل فيما أنزل الله عز وجل من الكتب السالفة: عجبت لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح، وعجبت لمن قيل فيه الشر وهو فيه كيف يغضب. وقال بعض الشعراء:
يا جاهلا غره إفراط مادحه … لا يغلبن جهل من أطراك علمك بك
أثنى وقال بلا علم أحاط به … وأنت أعلم بالمحصول من ريبك
وهذا أمر ينبغي للعاقل أن يضبط نفسه عن أن يستفزها، ويمنعها من تصديق المدح لها، فإن للنفس ميلا لحب الثناء وسماع المدح. وقال الشاعر:
يهوى الثناء مبرز ومقصر … حب الثناء طبيعة الإنسان
وليعلم أن المتقرب بالمدح يسرف مع القبول ويكف مع الإباء، فلا يغلبه حسن الظن على تصديق مدح هو أعرف بحقيقته ولتكن تهمة المادح أغلب عليه. فقَلَّ مدح كان جميعه صدقا، وقَلَّ ثناء كان له حقا. ولذلك كره أهل الفضل أن يطلقوا ألسنتهم بالثناء والمدح تحرزا من التجاوز فيه، وتنزيها عن التملق به.
وحكى الأصمعي أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – كان إذا مُدح قال: اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرا مما يحسبون واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون. وقال بعض الشعراء:
إذا المرء لم يمدحه حسن فعاله … فمادحه يهذي وإن كان مفصحا
وربما آل حب المدح بصاحبه إلى أن يصير مادح نفسه، إما لتوهمه أن الناس قد غفلوا عن فضله، وأخلوا بحقه.
وإما ليخدعهم بتدليس نفسه بالمدح والإطراء، فيعتقدون أن قوله حق متبع، وصدق مستمع. وإما لتلذذه بسماع الثناء وسرور نفسه بالمدح والإطراء، ما يتغنى بنفسه طربا إذا لم يسمع صوتا مطربا ولا غناء ممتعا. ولأي ذلك كان فهو الجهل الصريح، والنقص الفضيح. وقد قال بعض الشعراء:
وما شرف أن يمدح المرء نفسه … ولكن أعمالا تذم وتمدح
وما كل حين يصدق المرء ظنه … ولا كل أصحاب التجارة يربح
ولا كل من ترجو لغيبك حافظا … ولا كل من ضم الوديعة يصلح
وينبغي للعاقل أن يسترشد إخوان الصدق الذين هم أصفياء القلوب على ما ينبهونه عليه من مساوئه التي صرفه حسن الظن عنها. فإنهم أمكن نظرا، وأسلم فكرا، ويجعلون ما ينبهونه عليه من مساوئه عوضا عن تصديق المدح فيه.
وقد روى أنس بن مالك عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “المؤمن مرآة المؤمن إذا رأى فيه عيبا أصلحه“. وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول: رحم الله امرأ أهدى إلينا مساوئنا.
وقيل لبعض الحكماء: أتحب أن تهدى إليك عيوبك؟ قال: نعم، من ناصح.
فإذا قطع أسباب الكبر وحسم مواد العجب اعتاض بالكبر تواضعا وبالعجب توددا. وذلك من أوكد أسباب الكرامة وأقوى مواد النعم وأبلغ شافع إلى القلوب يعطفها إلى المحبة ويثنيها عن البغض.