سؤال التشظي والهوية في أعمال التشكيلي العراقي ستار نعمة

التعبير عن الغربة: يتأسس العمل الفني عند التشكيلي العراقي، المقيم في بلجيكا، ستار نعمة، على البحث الدائم في الحقل البصري، دونما انقطاع ولا ثبات. إذ عبر مسار طويل استطاع هذا نعمة أن يجد لنفسه موطئ قدم داخل كرتوغرافيا المشهد التشكيلي العربي المعاصر. إذ إنه شغوف بالحفر والنبش في العوالم الخفية للفن. وهو الأمر الذي قاده […]

سؤال التشظي والهوية في أعمال التشكيلي العراقي ستار نعمة

[wpcc-script type=”a407e6ccfbc83113b18cee03-text/javascript”]

التعبير عن الغربة: يتأسس العمل الفني عند التشكيلي العراقي، المقيم في بلجيكا، ستار نعمة، على البحث الدائم في الحقل البصري، دونما انقطاع ولا ثبات. إذ عبر مسار طويل استطاع هذا نعمة أن يجد لنفسه موطئ قدم داخل كرتوغرافيا المشهد التشكيلي العربي المعاصر. إذ إنه شغوف بالحفر والنبش في العوالم الخفية للفن. وهو الأمر الذي قاده إلى الفن المعاصر، هذا البراديغم الذي لا أسوار فيه ولا حدود مرسومة، مفتوح على كل الحساسيات الرهيفة وكل التيارات وكل الأساليب، حيث إن اللاشيء وكل شيء فيه يصيران فنا. لا يبتغي ستار نعمة أي أفق، فالفن عنده هو الأفق، أي أنه مفتوح على كل الاحتمالات وكل الممكنات وحتى المستحيل. لهذا هو مسكون بمفهوم التشظي، وليس من الغرابة أن يقول في أحد حواراته: «أعتمد التشظي كتعبير عن غربتنا، ولا أقصد الغربة الجغرافية فقط، بل غربتنا كبشر في عالم غامض مسكون ومحتشد بالأسئلة والظلمة العميقة في ذواتنا». إذن يغدو إبراز التشظي نوعا من معالجة لحالة الاغتراب التي يحياها الإنسان، بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية والنفسية، داخل قالب فني معاصر.

التغليف والتشظي:
يعدّ التشظي من أهم المواضيع التي يتطرق إليها فن ما بعد الحداثة (الفن المعاصر)، وذلك لارتباط هذا الفن بشكل كبير بالهش والهامشي في الحياة الإنسانية، أي بالمنسي وغير المفكر فيه من قبل الفن الحديث والفن الكلاسيكي. إذ إن الانشطار الذي أحدثته الحداثة على المستويات الكبرى، للذات والعقلانية والعدمية، وفك الارتباط مع السماء «وما تلاه من تشرذم وبداية التشظي المعرفي الذي زاد من انفصام الإنسان المعاصر، وعمل علـى ظهـور ملامح شكلية جديدة في الثقافة، كان أهمها التفككية التي حفلت بها فلسفة ما بعـد الحداثة، التي آمنت بالتشظي والتنوع والبعثرة، والتفكك وغياب المركز أحدث نوعا من التشظي على كل المستويات». كل هذا أوجب إبرازه وإخراجه إلى بؤرة الضوء، حتى يتسنى لنا إدراك الأبعاد الإنسانية الخفية، التي استحالت على الحداثة عينها. وما سعيُ ستار نعمة إلا إلى العمل على هذا البعد، شأنه في هذا شأن فنانين عراقيين وعرب معاصرين، من خلال أعمال فنية تتخذ لنفسها حضورا عبر تجسيد معاصر: الأنستلايشن (فن التنصيب) خاصة. إذ كما يقول إياد محمود حيدر قد «تبنى الفنان العراقي المعاصر (1980–2005) الطروحات الفلسفية والمناهج النقدية الحديثـة والتشظيات التي جاءت بها مرحلـة ما بعد الحداثة، ما أحدث فضاء رحبا للعلامات والإشارات والرموز ذات النزعة التفكيكية».
يكمن اشتغال ستار نعمة على موضوع التشظي، فيما نلمسه ونحن نَطّـلِعُ على أعماله التصويرية الفوتوغرافية، حيث يعمد إلى تصوير «موديلاته» على مرحلتين: عارية ومرتدية للملابس. ومن ثم يقوم لتركيب الصورتين فوق بعضهما بعضا (الثانية فوق الأولى)، محدثا تمزقات تكشف عن بعض من الجسد العاري. وهو هنا يحاول أن يضعنا إزاء الاغتراب الذي نعيشه تجاه أجسادنا، حيث لا بد من أن نخرج من أجسادنا المكسوة باللباس الذي يحدد انتماءاتنا الطبقية، ويصنفنا إلى فئات اجتماعية، وفي الوقت ذاته فالفن المعاصر هو فن الكشف عن الجسد وإبرازه، بعدما تخلينا عن كل القوى التي تؤطره وتسجنه في محددات لاهوتية أو طبقية. فلا ينتمي الجسد إلا إلى الدنيوي، ولا يتأتى للإنسان الحضور والوجود إلا باعتباره جسدا. إنه جسد يتعرّف على العالم ولا يتعرف عليه العالم إلا باعتباره جسدا. وليس من الصدفة أن يعنون هذا العمل بـ«التغليف»، أي تغليف الجسد بألبسة/ معتقدات تؤطره وجعله قاصرا على الخروج إلى الوجود كما يجب.

اغتراب الوجوه:
وفي عمل آخر «وجوه» (2019)، جعل نعمة جسده موضوعا وموديلا، حيث قام بتصوير نفسه في حالة الجلوس، وخلفه على الجدار صور لبورتريهات تعود له (صور شخصية)، لكنها مختلفة الزمن والمظهر، وقد عمد إلى تمزيق ملامح وجهه، تاركا فراغا محتملا لكل البورتريهات لتملأه. وذلك دلالة على التعدد والتشظي الذي يحياه الإنسان الواحد، فالجسد هو الجسد نفسه، لكن الوجه يختلف من مرحلة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر، ومن حالة نفسية إلى حالة أخرى، بل هل الجسد هو الجسد نفسه؟ ونحن نتحدث عن تغيّر الخلايا وتجددها… ليس الإنسان على ثبات ولا على استقرار إنه في تغير مستمر، ويلعب الزمن دورا كبيرا في هذا التغير، إذ «لا يمكن عبور النهر نفسه مرتين!» كما يقول هيراقليطيس. والنهر هنا هو تجربتنا في الحياة، وإنه العمر والزمن، وإنه كل تلك الأبعاد الزمنية التي تتحكم في التغيّر الذي يطرأ عليها، والذي يحدث فينا تشظيا واغترابا، أو كما يقول الشاعر المغربي عبد الله زريقة: فالوجه الذي تخرج به في الصباح /لا تعود به في المساء /وغطاء السرير الذي تركت /سيصبح كفنا بعد قليل /والوقت يسيل من أنبوب ماء صدئ.
إننا بالتالي لا نكاد نكون نحن مع تغيّر الزمن، وتقلبات الدهر، إننا منذرون إلى التغيّر والتبدل والاغتراب. إذ إن الاغتراب (والعزلة الجوهرية) كما يرى الكاتب الفرنسي موريس بلانشو تعد محفزا للإبداع، بل إن الكائن وإن كان في حالة عزلة فهو ليس وحيدا، يقول «حين أكون لوحدي، لا أكون وحيدا». بالتالي فالإبداع هو نتاج التعدد المتولد عن التشظي الذي يعيشه الكائن، إنه نتاج لذوات متعددة، لـ«وجوه» متعددة. فالمبدع إذن هو مقيم في العبور، ومجبول على الاغتراب. وفي عمل «وجوه»، نحن أمام حالات العبور، وحالات التشظي التي عاشها وعرفها الفنان. الذي ما هو إلا كينونة تعيش بين عالمين، عالمه الداخلي والعالم المعتاد. إنه «بين البين»، لا يقيم في عالم واحد ولا يعيش بذات واحدة، إنه متشظ ومغترب. وهذا الأمر هو ما نلامسه بدقة في إحدى أعماله الأخيرة، حيث عمد ستار نعمة إلى تصوير نفسه جالسا، وفي الآن ذاته صور الفضاء فارغا، ومن ثم قام بتركيب الصورتين فوق بعضهما، ممزقا أغلبية صورة جسده، تاركا الفضاء الخلفي يبزر من خلال الصورة الثانية. فيغيب بالتالي الفنان في الفضاء، بل إنه يصير شفافا غير ظاهرا فيها، إنه بالتالي معرض إلى التشظي والاختفاء. إنه هناك وليس هناك، موجود وغير موجود. إنه في عزلة جوهرية، على حد تعبير بلانشو.

يعمل ستار نعمة على فن التصوير الصباغي، لكن عبر الاهتمام بالجسد في حالاته الإيروسية، جسد شبقي وعار، غير خاضع لأي تابو أو أي محرمات وأي سِتار وتغليف. ومن جانب آخر فهو يعمد إلى ذات الاشتغال لكن عبر تقنية الكولاج (الإلصاق).

تنصيبات لإعادة تشكيل العالم:
إلى جانب كل هذا الاشتغال الجمالي، يعمل ستار نعمة على فن التصوير الصباغي، لكن عبر الاهتمام بالجسد في حالاته الإيروسية، جسد شبقي وعار، غير خاضع لأي تابو أو أي محرمات وأي سِتار وتغليف. ومن جانب آخر فهو يعمد إلى ذات الاشتغال لكن عبر تقنية الكولاج (الإلصاق)، حيث يعيد إلصاق أطراف الجسد الواحد في ترتيب فوضوي، نوع من الاشتغال الدادائي الجديد (نيو- دادايزم)، لكن بلا أي نوع من السردية محددة أو تأطير رؤيوي، حيث إن العمل مستقل بذاته وقابل للتأويل المتعدد واللامتناهي، غير خاضع لأي التزام معين. بعيدا عن التصوير الصباغي والتصوير بالكولاج والفوتوغرافي، يعمد هذا «الحفار» إلى العمل على تنصيبات فنية، يروم بها إحداث صدمات في ذهن المتلقي، أساسها إحداث الدهشة وجعله إزاء ضرورة طرح الأسئلة، وهذه هي مهمة الفنان الأولى.
من بين تنصيباته الفنية نقف عند تنصيبتين، الأولى متعلقة بتنصيبة ‘الإطار الفارغ» (مهرجان المحرس الدولي للفنون / تونس 2019)، حيث إنه قام بإحداث فراغ في جدار، ومن ثمة قام بتعليق إطار خشبي فوق ذلك الفراغ، جاعلا المتلقي يقف أمام إطار فارغ من أي رسم، بل إنه لا يرى إلا ما وراء الجدار. كأني به يحاول أن يحرر اللوحة من كل تلك التصورات التي ظلت مرتبطة بها، ويجعلها تخرج من «قفصها»، بل إنه يحدث شرخا عميقا في عالم اللوحة، عارضا، بدل الألوان والأشكال، الفراغ «مؤطرا». وعلى خلاف إيف كلاين الذي سبق وأقام معرضا فارغا من اللوحات، فستار نعمة يحاول أن يجعل المتلقي أمام ضرورة إعادة رؤية العالم المتواري خلف الإطار، فاللوحة تكاد تكون سِتارا حاجبا يمنعنا عن إدراك العالم ورؤيته، ورؤية الآخرين. فالفراغ هنا يحضر باعتباره مرآة كاشفة، تعكس لنا العالم الذي علينا رؤيته، عالمنا كما هو. يخلق بالتالي الفراغ المؤطر لقطة متحركة، لقطة سينمائية حية، نراها وترانا، ونرى عبرها ونُرى عبرها. ولأننا دائما في حاجة لإطار معين لرؤية العالم، لأيديولوجيا معينة لفعل ذلك، فالفراغ هو البديل، أي أن نبصر العالم والآخر وهو يتحرك بلا أي تصور مسبق، فقط أن نقف ونبصر من خلال الإطار الفارغ، لا تصورات مسبقة فيه ولا محددات ولا أيديولوجيا…. ولا حتى جدران. أما التنصيبة الثانية، فتتعلق بتلك التي أنشأها في معرض الكتاب في بغداد (يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2019)، إذ عرض ستة أعمدة من الكتب، تتخذ أشكالا بشرية، محوّلا مزق الكتب والأوراق والأغلفة إلى منحوتات ورقية ضخمة، في حلقة دائرية. جاعلا إياها مستقرة على الكتب، في مفارقة مدهشة، حيث أن هذه المنحوتات هي من مزق الكتب التي تقف عليها، لتتعالى أكثر وتسمو، كأني به يحاول أن يخبرنا أن القيمة التي يكتسيها الكائن الإنساني، ليست من انتمائه الطبقي ولا الطائفي، بل بما راكمه من معرف وما قرأه من كتب. على منوال المثال القائل: «قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت».
وليس من باب الصدفة أن يجعل الفنان تنصيبته تتخذ شكلا دائريا، وذلك راجع لما تحمله الدائرة من معان مرتبطة باللانهاية، والبدء اللامتناهي، إذ لا نفتأ نعود إلى نقطة البداية حتى نعاود الدوران. وما تقودنا إليه القراءة سوى إلى القراءة من جديد. إنه فعل لا نهاية فيه وله.
يندرج هذا المنجز ضمن خانة «الأعمال في الفضاء»، حيث أنها أعمال تتماهى والفضاء الذي أنشئت فيه وله، خالقا نوعا من التكامل المتبادل، إذ يصعب فصلها عن المكان. إنها بالتالي أعمال مفاهيمية، تسعى إلى التطرق إلى الموضوع من معطى مفاهيمي، يجعل المتلقي جزءا من معالجته. لهذا لم يستثن هذا الفنان المتلقي، الذي عمد إلى استفزازه وجعله ينخرط في العملية الإبداعية، إذ إنه جعل على رأس كل عمود مرآة مائلة بزاوية معينة تسمح للمشاهد بأن يرى نفسه من خلالها. حيث يستشعر المتلقي نفسه داخل العمل، أو كأنه هو نفسه الشخصية /العمود الورقي. إذا هذه التنصيبة تكاد تكون «نحن» بتعددنا واختلافنا، إنها مرآة لذواتنا، تشبهنا لأننا نرى من خلالها أنفسنا، فنصير وإيها شخصا واحدا. ما يجعلنا نرى الواقع وذواتنا بطريقة جديدة، ونعيد طرح الأسئلة المتعلقة بالهوية، وبالخصوص في دولة كالعراق التي تعرف غنى وتنوعا هوياتيا كبيرا جدا. حيث إن المرآة هي الأداة المناسبة بشكل مثالي لمعالجة الفضاء والشكل، لخلق غموض تصويري، كما تُوفر الأداة المثالية لتحليل الأنا. وهو ما يلخص المسعى الفني في مجمله للفنان التشكيلي العراقي ستار نعمة.

٭ شاعر وباحث جمالي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *