أتطوّع للعمل ثلاث ساعات إضافية، ليس لأنّي بحاجة إلى المال (لديّ كثيرٌ قليلٌ منه)، بل لتقليل ساعات الضجر. أقرّر في المساء الدخول في قصة حبّ، ليس لأني نسخة عصرية من عمر أبي ربيعة، بل لتبديد الفراغ. أختار حرباً دائرة على الفضائية التي تشتري النكد، فأنضمّ إلى أحد طرفيها بصفة مقاتل مآزر، ليس لأنّي ابن “الصاعقة”، بل لأنه لم يبق ولو شعرة واحدة في خدّي يمكن لمحاولة نزعها ملء أوقات الملل.
ثم أكتشف في ساعة الضجر، حين أفكّر في أمر الضجر (والفراغ والملل والسأم والسآمة)، أن الضجر لا يبدأ عندما ننتهي من العمل، أو حين تتخطى قصة الحبّ حافة الدمع، كما أنه لا “يزدهر” في أيام السلم والرخاء، ولا “يتكاثر” بعد موسم الزيتون. ففي “فلسفتي” هذه التي اكتسبتها في ساعات الملل، أستطيع تعريف الضجر بأنه الوقت الذي تتوقف فيه بإرادتك عن العمل، واللحظة التي توقف فيها بكفّك قصة الحبّ قبل الخاتمة. الضجر (في أحايين كثيرة) مثل أن يداهمك الدمع أثناء قيادة السيارة.
وعندما تضجر (أو يداهمك الدمع) ستبدّد الضجر بتعريف الهراء والعبث، ثمّ تحدد مواقيت اللاجدوى، وفي أحد هذه المواقيت ستشرح لصديقك الضَّجِر علامات الخواء. ستكتبُ في كتابك الأزرق منشوراً مليئاً بالأخطاء الإملائية والذهنية في مديح البلادة (ستعرّفها بأن يمتد الرماد حتى منتصف السيجارة المنسيّة في فمك). ستسخر أيضاً وأنت تعبث بلحيتك المهملة من مفردة النجاح، فتسمّيها “الفشل” ذلك الذي يبدأ بعد “النجاح” في الثانوية العامة، أما “الفائدة” فتشهق ضحكتك وأنت تحصرها بما يضاف سنوياً إلى حسابك البنكيّ.
في الضجر تُعيد تقييم نفسك. ماذا لو تخلّفت صباح غد عن الالتحاق بالنهار الجديد. لن يفتقدك أحد (وأحدٌ هنا لا تعني أهلك وأصدقاءك وآخر حبيبة لك). ستقول إن بلدك لن يخسر بغيابك عالِماً أو قامة أو موهبة، فأنتَ في خمسين عاماً لن تكون أكثر من عدّاء خاسر في سباق المائة متر حواجز. سيقول صديقك الضجر إن فائدتك هي اكتمال السباق، فتردّ بأن السباق سيتواصل حتى لو تعثرت في المتر الواحد والخمسين.. ولن يداهم الدمع أحداً (وأحد هنا لا تعني أحداً سواك).
توضيح الكاتب:
لستُ مسؤولاً، صديقي القارئ، عن الطاقة السلبية التي تسرّبت إلى نفسك بعد قراءتك لهذا المقال المكتوب في ساعة ضجر. فقد كان لزاماً أن أملأ هذه الزاوية، وتصادفت لحظة الكتابة مع شعوري الفادح بالعدم. لكنّي بمجرّد أن انتهيت من كتابة المقال، وبعدما أرسلته إلى الصحيفة، هاتفني صديق، وخرجنا للحاق بأضواء السهر في السحر وألقينا السلام على ألف قمر، وعندما عدت أضفتُ إلى المقال هذه النصيحة المجرّبة: في ساعة الضجر كُفّ عن الكتابة أو الحديث.. انشغل مثلاً في إيجاد الفرق بين السأم والسآمة!