سبتة ومليلية : جذور الصراع وآفاق المستقبل

سبتة ومليلية جذور الصراع وآفاق المستقبل على الرغم من أن العلاقات الإقتصادية بين المغرب وإسبانيا تعتبر في حالة جيدة ويشهد عليها واقع الإستثمار الإسباني بالمغرب - بحيث أن إسبانيا تعد الشريك الإقتصادي الثاني بالنسبة للمغرب بعد فرنسا التي تعد الشريك الأول - فإن العلاقات السياسية والديبلوماسية بين البلدين..

سبتة ومليلية : جذور الصراع وآفاق المستقبل

على الرغم من أن العلاقات الإقتصادية بين المغرب وإسبانيا تعتبر في حالة جيدة ، ويشهد عليها واقع الإستثمار الإسباني بالمغرب – بحيث أن إسبانيا تعد الشريك الإقتصادي الثاني بالنسبة للمغرب بعد فرنسا ، التي تعد الشريك الأول – فإن العلاقات السياسية والديبلوماسية بين البلدين لا تتناسب وحجم التبادل الإقتصادي والتجاري ، وتعكس هذه العلاقات عمق الخلافات الجانبية العديدة التي تمتد في جذور التاريخ والحقبة الإستعمارية إبان النصف الأول من القرن الماضي ، لكن تظل قضية سبتة ومليلية وبعض الجزر أهم القضايا الثقيلة التي تجعل العلاقات بين المغرب وإسبانيا تتأرجح دوما بين الهدوء والتوثر .
وقد دلت التطورات الأخيرة في شهر يوليو الماضي بسبب أزمة جزيرة ليلى المغربية ، على أن ملف المناطق المغربية المحتلة يمكن أن يكون سببا للنزاع العسكري ، ويبقى مرشحا باستمرار لإشعال حرب في هذا الجزء من المتوسط .
ما هي خلفيات وجذور هذا الصراع ؟ ما هي المواقف الإسبانية والمغربية بشأن سبتة ومليلية والجزر الأخرى ؟ وما هي انعكاسات ملف المدينتين على الملفات الثنائية الأخرى ؟ وأخيرا ، أي مستقبل للعلاقات بين البلدين ؟.
أسئلة نحاول مقاربتها من خلال المقال التالي.
جذور صليبية للإحتلال
تعتبر مدينتا سبتة ومليلية إحدى مخلفات المجابهة بين العالم الإسلامي وأوربا الكاثوليكية في فترة الحروب الصليبية في القرن الخامس عشر الميلادي ، والتي كان البحر المتوسط مسرحا لها ، فمنذ وقت طويل ارتبط مصير المدينتين بالمضيق البحري العام الذي يربط المتوسط بالمحيط الأطلسي. وقد دفعت مدينة سبتة طوال مرحلة المواجهة بين أوربا والعالم الإسلامي من خلال الحملات الصليبية ثمن موقعها الجغرافي الإستراتيجي الذي جعلها بوابة العالم الإسلامي للزحف على أوربا ، ومنفذ الصليبيين لإحكام السيطرة على أراضي الإسلام ، ولعل أوربا النصرانية كانت تتطلع إلى احتلال هذا الثغر الإسلامي وتحويله إلى قلعة ضد تمدد أطراف العالم الإسلامي نحو القارة العجوز ، وهي تستعيد ذكرى عبور الفاتح ” طارق بن زياد ” منه نحو الأندلس في عام 711م .
وتعود بداية سقوط المدينتين تحت الإحتلال الأوربي النصراني إلى تضعضع إمارة بني الأحمر في غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي حين بدأ الخلاف يدب بين أمراء المسلمين في الأندلس ” وصاح فوق كل غصن ديك ” بتعبير لسان الدين بن الخطيب في وصف حالة هذا التهارج والإقتتال بين الأمراء ، فانتهز زعماء قشتالة – إسبانيا حاليا – والبرتغال الفرصة للقضاء على الوجود الإسلامي في هذه البقاع الإسلامية ، فيما سمي بحروب الإسترداد ،وكانت غرناطة آخر هذه القلاع التي سقطت عام 1492م . والمعروف تاريخيا أنه بعد سقوط الأندلس ، أطلق بابا الفاتيكان يد إسبانيا في الساحل المتوسطي للمغرب ، والبرتغال في الساحل الأطلسي. وعلى حين سقطت سبتة في يد البرتغاليين عام 1410م ، بقيت مليلية تقاوم جيوش الإسبان حتى سقطت عام 1497م ، في إطار خطة عامة للإسبان والبرتغاليين لمحاصرة أقاليم الغرب الإسلامي واحتلال أراضيه ، ومن تم تحويلها إلى النصرانية عملا بوصية الملكة ” إزابيلا ” الكاثوليكية المذهب ، والتي نصت على ضرورة قيام الكاثوليك بغزو بلاد المغرب وتحويل المسلمين المغاربة إلى الدين النصراني ، ورفع علم الصليب المسيحي عليه بدلا من أعلام الهلال الإسلامي. وظلت سبتة تحت الإحتلال البرتغالي في يد الإسبان عام 1735م ، فدخلت تحت التاج الإسباني ولم تخرج إلى اليوم .
وقد حاول المغاربة في القرون التالية لاحتلال المدينتين استعادتهما من قبضة الغزو الصليبي النصراني ، وكان أبرز هذه المحاولات محاولة المولى إسماعيل في القرن السادس عشر الميلادي ، حيث حاصر المسلمون في هذه الفترة مدينة سبتة ولم يقدر لهم أن يفتحوها ، وكذلك محاولة المولى محمد بن عبد الله عام 1774م لمحاصرة مدينة مليلية ، ولم يفلح المسلمون في تخليصها من يد الإسبان .
وقد بذل سكان المدينتين من المسلمين جهودا كبيرة للتمرد على واقع الاحتلال في نهايات القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين ، وبين عامي 1921و1926م قاد البطل المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي ثورة ضد الإسبان في الشمال المغربي ، لكن إسبانيا تصدت لها بالتحالف مع دول أوربية أخرى بعد أن أشعلت ثورته شرارة الجهاد في المدينتين . وحاول الجنرال فرانكو دغدغة المشاعر القومية لسكان سبتة ومليلية لدعمه في حربه ضد حكومة الجبهة الشعبية ، إذ وعدهم بمنحهم الإستقلال إذا ما تولى السلطة في إسبانيا ، واستطاع بذلك تجنيد الآلاف منهم في الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936م دون أن يفي بوعده لهم.
وهكذا ظل هذان الثغران المسلمان يدفعان الثمن باستمرار في كل مرة ، مرة لموقعهما الجغرافي على الواجهة بين أوربا وإفريقيا ، ومرة لوقوفهما مع الجنرال فرانكو ، وثالثة بسبب زحف المسلمين من سبتة نحو شبه الجزيرة الإيبيرية .
خطة أسبنة المدينتين
منذ احتلال المدينتين بذلت جهود متصلة لطمس المعالم الإسلامية فيهما ، جهود لا تتميز في شيء عن تلك التي بذلها الصليبيون والتتر والمغول في كل بقعة إسلامية وضعوا أيديهم عليها ، أو تلك التي يبذلها الصهاينة في فلسطين اليوم، فدكت الصوامع وهدمت المساجد . ويذكر المؤرخون أنه عندما سقطت مدينة سبتة كانت مآثرها تفوق مآثر القيروان ، إذ كان بها ألف مسجد ونحو مائتين وخمسين مكتبة ، ولم يبق من هذه المعالم الحضارية الإسلامية سوى مساجد قليلة لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة ، بينما حرف الإسبان اسمها إلى ” سيوتا ” .
وقد وضعت إسبانيا إجراءات قانونية عدة للحد من هجرة المسلمين نحو المدينتين ، بهدف محو الوجود الإسلامي بالتدرج ، وشجعت بالمقابل الهجرة الإسبانية وهجرة اليهود الذين تزايد عددهم في الستينيات والسبعينيات خصوصا في مدينة سبتة ، كما ضيقت على السكان المسلمين هناك ومنعتهم من تراخيص البناء وحاصرت نشاطاتهم الدينية والثقافية .
وللحد من أعداد المسلمسن في مدينة سبتة أصدرت سلطات مدريد قانونا يعتبر بموجبه كل من يولد في مدينة سبتة إسباني الهوية .
وخلال سنوات الاحتلال لم تكف إسبانيا عن سياسة ” أسبنة ” المدينتين نهائيا لابتلاعهما وتغيير هويتهما العمرانية والسكانية ، عازمة على تأبيد الاحتلال ووضع غطاء الشرعية عليه ، مستبقة أي مطالبة مغربية باستعادة المدينتين ، وفارضة أمرا واقعا سيكون إلى جانبها في أي مفاوضات مع المغرب بهذا الشأن ، وكان الجنرالات الإسبان يعلنون دائما أن حكومتهم ” لن تعيد المدينتين بالسهولة نفسها التي تخلت بها فرنسا عن الجزائر الفرنسية ” .
اتفاق مدريد السري
في شهر نوفمبر عام 1975م طالب ” خوان كارلوس ” لدى تتويجه ملكا على عرش إسبانيا بعد القضاء على نظام ” فرانكو ” بضروة استعادة السيادة الإسبانية على جبل طارق الذي تحتله بريطانيا مند سنة 1713م ، وقد دفع هذا الموقف السلطات المغربية إلى التفكير جديا في مصير المدينتين السليبتين ، ومنذ ذلك الوقت لم يفتأ الملك الحسن الثاني يعلن باستمرار أن حل قضية جبل طارق بين إسبانيا وبريطانيا سيكون بداية الحل لقضية سبتة ومليلية بشكل أوتوماتيكي ، على اعتبار أن ما تطالب به إسبانيا تجاه بريطانيا يدفعها إلى تفهم الموقف المغربي تجاهها .
لكن قضية الصحراء التي دخلها المغرب في تلك السنة حالت بينه وبين طرح مصير المدينتين حتى لا يضع كل البيض في سلة واحدة ويخسر الملفين معا ، لأن الصحراء كانت خاضعة لإسبانيا . وخلال المفاوضات التي كانت تجرى بين الرباط ومدريد سنة 1975م بشان الأقاليم الصحراوية ، اشترطت إسبانيا على النظام المغربي الإلتزام بشرطين أساسيين : الأول أن يسمح المغرب لأسطول الصيد الإسباني بالصيد في المياه الصحراوية المغربية المقابلة لجزر الكناري ، والثاني : أن يمتنع المغرب عن طرح ملف سبتة ومليلية قبل مرور عشر سنوات على اتفاقيات مدريد التي وقعت عام 1976م .
وقد ظلت هذه البنود السرية في الإتفاق تمنع المغرب من طرح موضوع حقوقه السيادية في المدينتين المحتلتين ، لكنها في المقابل أطلقت يد إسبانيا لتسريع وتيرة “الأسبنة” في المدينتين خلال تلك العشرية المذكورة ووصلت ذروتها عام 1985م حين منحت إسبانيا المدينتين وضعية ” المدن المستقلة “. وقد وضع حزب الإتحاد الإشتراكي الإسباني الحاكم خلال فترة الثمانينيات في عهد ” فيليب جونثاليت ” مخططا سريا لتغيير الأوضاع في المدينتين لصالح الحكومة الإسبانية ، استعدادا لانتهاء مدة اتفاقية مدريد في عام 1986م . وشمل هذا المخطط عرقلة امتلاك المغاربة للممتلكات العقارية في المدينتين ، والطرد الممنهج لهم وإبعادهم إلى المغرب ، حيث أقدمت في عام 1983م مثلا على طرد 1500 مغربي ، ومنع دخولهم من جديد . وفي أكتوبر 1985م بدأت إسبانيا في تطبيق قانون الأجانب المقيمين بالمدينتين ، والذي يعتبر المغاربة هناك أجانب فوق الأراضي الإسبانية ، وعلق أحد الكتاب الإسبان على هذا القانون قائلا : ” لقد وضعت إسبانيا مغاربة المدينتين في موقف حرج للغاية ، إما أن يقبلوا أن يصبحوا أجانب على أرضهم المغتصبة ، أو يتم ترحيلهم وراء الحدود ” ، وأدى ذلك إلى انتفاضات في صفوف المغاربة المسلمين خلفت سقوط شهداء في صفوفهم في يناير 1987م وهي السنة التي طرح فيها الحسن الثاني اقتراحا بتكوين خلية مشتركة للحوار بين البلدين حول مستقبل المدينتين ، لكن مدريد رفضت الإقتراح .
سيناريوهات المواجهة
الموقف الإسباني من المدينتين يبقى دائما ممزوجا بالنظرة الغربية النصرانية للعالم الإسلامي ، فرغم أمد الإحتلال الطويل ، فإن الإسبان ينظرون إلى المدينتين نظرة الشك والإرتياب باعتبارهما خطرا إسلاميا محتملا ، سواء جاء هذا الخطر من الداخل ، من السكان المسلمين ، الذين يعبرون بين الحين والآخر عن رفضهم لواقع الإحتلال ، أو جاء من المغرب .
وفي جميع الأحوال ، فإن الخطر يتمثل لدى الإسبان في إمكان ربط مطلب استعادة أو تحرير المدينتين بالخلفيات الصليبية ، وإعطائه أبعادا دينية .
ويطلق الإسبان على المغاربة المقيمين في المدينتين ” المورو ” وهي تسمية مأخوذة من كلمة ” موريسك ” التي تعني في القاموس الإسباني بقايا المسلمين من عهد سقوط الأندلس ، غير أنهم حرفوها ليصبح معناها” المسلم” أو العربي ، وأضافوا كلمة أخرى هي”مالو” التي تعني الشرير ليصبح معنى عبارة”مورو مالو” هو ” المسلم الشرير” ، بل إن قديس إسبانيا هو ” سانتو ياجو ماتا موروس ” أي القديس ” ياجو ” قاتل الموروس ” جمع مورو ” .
هذه الخلفية الدينية هي الثابتة في النظرة الإسبانية إلى المغرب والسكان المسلمين في المدينتين ، وتبقى مشحونة بكل نزعات الكراهية نحو الإسلام والمسلمين ، وتحكم الإستراتيجية الإسبانية حيال مصير ومستقبل المدينتين .
ويرى الإسبان أن المغرب يمثل الإمتداد الطبيعي للإستعمار الإسباني بعد أن ضيعت لإسبانيا إمبراطوريتها في أمريكا ، وقد أظهر استطلاع للرأي أنجز في إسبانيا عام 1996م أن 62% من الإسبان يعتقدون أن البلد الذي يشكل خطرا عليهم هو المغرب ، وقال 71% من المستجوبين إن الخطر الرئيسي ينبعث من المغرب العربي .
ويعتقد الخبراء العسكريون والسياسيون الإسبان أن الحرب مع المغرب بسبب المدينتين قد تهدد الأمن في منطقة البحر الأبيض المتوسط نظرا للأبعاد الدينية والحضارية التي يمكن أن تنشأ عن هذا النزاع .
ففي أوائل الثمانينيات أصدر صحافي إسباني يدعى ” داو منغوديلبينو” كتابا عنوانه ” المغرب وإسبانيا أو الحرب العالمية الثالثة ” أكد فيه أنه بالرغم من المظاهر الإيجابية للعلاقات بين مدريد والرباط ، فإن شبح الحرب بسبب النزاع حول مدينتي سبتة ومليلية أمر لا يمكن تجاوزه ، لاسيما أن هذه الحرب قد تورط أطرافا ثالثة بحكم انتماء المغرب إلى العالم العربي الإسلامي والإفريقي مما قد يوفر له الدعم الكافي ، في حين أن إسبانيا تنتمي إلى الدول المسيحية الغربية ، من هنا تكون هذه الحرب مرشحة للتدويل على نطاق واسع ، والتحول في إعتقاده إلى حرب حضارية مسيحية-إسلامية.
وقد أعدت المؤسسة العسكرية الإسبانية عام 1991م في أثناء حرب الخليج الثانية ، مخططا هجوميا حمل اسم ” المخطط الإستراتيجي المشترك ” ضد المغرب في حالة المواجهة ، يبين كيفية ضرب الأهداف الحيوية المغربية أثناء أي مواجهة محتملة ، ويشرح الجنرال ” دومنيك ريوطرد ” هذا المخطط قائلا : ” في حالة تعقد الأمور سيكون الواجب الاعتماد على أطراف أخرى ” في إشارة إلى دول خلف الشمال الأطلسي .
سبتة ومليلية في الإستراتيجية الأطلسية
منذ دخول إسبانيا حظيرة الإتحاد الأوربي في النصف الثاني من الثمانينيات تغير الدور الذي تحتله المدينتان في الفكر الإستراتيجي والعسكري الإسباني ، حيث أصبحتا تمثلان لها تهديدا محتملا وبرميل بارود على جبهتها الجنوبية . وقد قوى اندماج إسبانيا في الإتحاد الأوربي من نزعة ” الموروفوبيا ” أي التخوف من مسلمي المدينتين والمغرب بشكل خاص . ومع الترتيبات الجديدة التي دخلها البيت الأوربي في مطلع التسعينيات وتوقيع اتفاقية ” شينجن ” المتعلقة بالحدود بين الدول الأوربية تحولت المدينتان إلى عنصر في العقيدة الأمنية الأوربية تجاه منطقة الجنوب ، إذ نصت معاهدة شينجن صراحة أن المدينتين هما الحدود الجنوبية لأوربا .
وقد خولت هذه الترتيبات الجديدة في الإتحاد الأوربي والبحث الحثيث عن عقيدة عسكرية جديدة مشتركة لحلف شمال الأطلسي ، خولت لإسبانيا المزيد من الذرائع لتقوية احتلالها للمدينتين وإعطائه الشرعية الأوربية ، إذ أخذت تلوح بالتهديد الإسلامي القادم من الجنوب ، وبمركزها الجغرافي الإستراتيجي كمعبر مفتوح نحو الأراضي الأوربية ، وأخطار الهجرة القادمة من جنوب المتوسط ، وذلك لتحقيق هدفين : الأول هو تلقي الدعم الأوربي العسكري والمالي ، والثاني فرض الأمر الواقع على سكان المدينتين وأخذ التأييد الأوروبي والأطلسي لاحتلالها لهما .
ووجدت إسبانيا بذلك المجال متاحا أمامها لإضافة جدار مادي يفصل المدينتين عن الوطن الأصلي الشرعي لهما ، أي المغرب ، بعد الجدار النفسي والوجداني الذي أقامته طوال المراحل السابقة ، وفي عام 1998م اطلقت أعمال تسييح المنطقة الفاصلة بين مليلية ومدينة الناظور المغربية في الشمال بشريط مزدوج من الأسلاك الشائكة يصل ارتفاعه إلى أربعة أمتار وطوله ستة كيلومترات ، مجهزة بأحدث وسائل المراقبة التكنولوجية تضم أربعة وسبعين كاميرا فيديو وآليات إلكترونية حساسة للمراقبة تستطيع ضبط أي جسم غريب لدى اقترابه من السياج الفولاذي ، وكانت نسبة التمويل الأوربي لهذه الأشغال تصل إلى 75 بالمائة ، مقابل 25بالمائة نسبة التمويل الإسباني ، وهو السياج الثاني بعد السياج المزدوج الذي أقيم على الحدود بين مدينة سبتة والمغرب ، وقد علق أحد مسؤولي حزب اليسار الموحد الإسباني في مدينة سبتة على عملية التسييج قائلا: ” إن مدريد وبروكسيل – إشارة إلى الإتحاد الأوربي – تفرضان علينا القيام بدور لا نبتغيه لأنفسنا دور “كلاب حراسة” شينجن ” .
وفي قمة واشنطن لحلف شمال الأطلسي التي عقدت بمناسبة الذكرى الخمسين لإنشائه قبل ثلاث سنوات ، والتي تم فيها تحديد المفهوم الجديد للأمن بالنسبة لدول الحلف في القرن الحادي والعشرين ، تضمنت المنظومة الجديدة للحلف مهمة الدفاع عن سبتة ومليلية في حال وقوع نزاع بين إسبانيا ودول المغرب العربي ، وكتبت صحيفة ” لاراثون” الإسبانية في شهر مايو 1999م تقول : إن أي هجوم على المدينتين ” سيجبر الجيش الإسباني على التدخل فورا بأمر دستوري ، وستحظى حكومة مدريد ابتداءا من الآن بالمساعدة المستعجلة من طرف قوات الحلفاء في الأطلسي ” .
ومنذ بداية التسعينيات أصبحت نقطة الحدود المسماة ” باب سبتة ” بين سبتة والمغرب هي الحد الجغرافي للإتحاد الأوربي ، وعلقت على مدخل المدينة لوحة معدنية كبيرة مكتوب عليها : ” أهلا بكم في الإتحاد الأوربي ” . وكانت صحيفة ” الموندو ” الإسبانية قد نشرت مطلع 1998م مضمون وثيقة سرية لحلف الأطلسي تبرز تحويل مدينتي سبتة ومليلية إلى قاعدتين للتدخل في المغرب وشمال إفريقيا ، وذلك في إطار المخطط الأمني الإستراتيجي الجديد للحلف المتعلق بحق التدخل في أي بقعة جغرافية في العالم تهدد مصالح دوله .
سبتة ومليلية وجبل طارق
ومن الواضح أن واقع الإحتلال الإسباني للمدينتين المغربيتين ليس إلا جزءا من أطماع استعمارية واسعة تحكم سياسة مدريد تجاه المغرب ، جارتها الجنوبية ، فمن المعروف أن الجنرال فرانكو قال خلال أيامه الأخيرة في 1975م في أوج النزاع حول قضية الصحراء ” لتضع إسبانيا جيرانها في اليد ” . فالنزعة الإستعمارية التسلطية نحو الجنوب لم تغادر أجندة أوروبا بعد ، والتي ما زالت تحلم بجنوب راضخ وكسيح ، وما قضية الصيد البحري واستغلال الثروة السمكية المغربية في حوض المتوسط إلا دليلا واحدا عليها ، وقد قال أحد البرلمانيين الإسبان بشأن قضية الصيد : ” إن المغرب اختار توقيف العمل مع إسبانيا باتفاقية الصيد البحري ومعنى ذلك أنه اختار أن يعرض شعبها للجوع . إنها الحرب وعلينا أن نعمل بالمثل مع المغرب”، وعندما فشلت المفاوضات بين الرباط ومدريد في يناير 2000م بشأن موضوع إعادة تجديد اتفاقية الصيد ، وجه رئيس الوزراء الإسباني خوسي ماريا أزنار تهديدا مباشرا إلى المغرب ، قال فيه : ” إن فشل المفاوضات ستكون له عواقب سلبية ” ، دون الإفصاح عن طبيعة هذه العواقب ، وبعد بضعة أشهر تحركت السياسة الإسبانية المعادية للمغرب .
وقد مثلت قضية الصحراء التي أربكت السياسة الخارجية للمغرب منذ منتصف السبعينيات ورقة الضغط الرئيسية في يد إسبانيا ، إذ عملت هذه الأخيرة على دعم جبهة البوليساريو المطالبة بدولة مستقلة في الصحراء ، ويعود ذلك إلى رغبة مدريد في إشغال المغرب عن المطالبة بحقوقه الشرعية في سبتة ومليلية ، اعتقادا منها بأن حسم هذه القضية سيجعل المغرب يتفرغ لاستعادة ثغوره الشمالية المحتلة وتركيز جهوده عليها ، وهو ما يعني أن إسبانيا تريد كسب المزيد من الوقت بجرجرة المغرب في موضوع الصحراء بما يمكنها من تحضير الشروط الكفيلة بحسم ملف المدينتين حسب رغبتها في حال إذا ما اضطرت إلى ذلك يوما ما .
وتدرك إسبانيا جيدا أن الحقوق الثابتة للمغرب في سبتة ومليلية لن تثنيه أبدا عن رفع مطالبه في المنتظم الدولي ، وهذا ما يفسر ربما كون الدستور الإسباني لم يضع حدودا للتراب الإسباني والمناطق المكونة للدولة ، وترك الباب مفتوحا أمام إمكان إعادة المدينتين إلى المغرب أو الإستقلال .غير أن إسبانيا تراهن على نجاح سياستها في أسبنة المدينتين سكانيا وعمرانيا واقتصاديا وثقافيا لخلق واقع مختلف بجعل سكان المدينتين يطالبون بالإستقلال الذاتي عن المغرب وإسبانيا معا إذا اقتضى الأمر، فإسبانيا لا تريد إعادة المدينتين إلى المغرب بكل بساطة ، ولكن تريد حلا على غرار ما حدث في تيمور الشرقية ، أي باستفتاء ترعاه الأمم المتحدة ، وحسب رؤيتها الحالية فإن النتيجة لن تكون لصالح المغرب بسبب التغيرات الكبيرة التي خضعت لها المدينتان . ولتأكيد هذه الهوية الجديدة للثغرين المسلمين نظمت إسبانيا عام 1997م احتفالا ضخما بمناسبة الذكرى الخمسمائة لاحتلال مدينة مليلية ، رافقه الكثير من الدوي الإعلامي في إسبانيا ، والتذكير بخطر المسلمين في الجنوب .
والمفارقة الغريبة في هذه القضية ، أن إسبانيا ظلت باستمرار تطالب بحقوقها التاريخية في صخرة جبل طارق الخاضعة للإحتلال البريطاني منذ القرن الثامن عشر بالذرائع نفسها والحجج التي ترفضها للمغاربة ، أي الإمتداد التاريخي والتواصل الجغرافي والجذور الديمجرافية . وإذا كانت مطالبة إسبانيا باستعادة صخرة جبل طارق ترتكز على واقعة تاريخية وقانونية هي اتفاقية أوتريخت عام 1713م التي تسلمت بريطانيا بموجبها الصخرة من المملكة القشتالية ، فإن قضية سبتة ومليلية قضية استعمار ولا ترتكز على أي مبرر قانوني أو شرعية تاريخية معينة ، إذ لم يسبق لأي سلطان مغربي طوال القرون الماضية أن قبل التنازل عن تلك الثغور المحتلة لفائدة الملوك الإسبان ، بل على العكس من ذلك ، قاد سلاطين المغرب حملات عسكرية لاستعادة المدينتين ، ولم يحصل أن خمدت مقاومة المغاربة للواقع الإستعماري ، أو تخلوا عن مطلب استرجاعهما .
إسبانيا ترفض الحوار
شكلت الأزمة التي اندلعت في شهر يوليو الماضي بسبب الغزو العسكري الإسباني لجزيرة ليلى قرب السواحل المغربية بحوالي 150 مترا مناسبة لفتح ملف مدينتي سبتة ومليلية ، وقد استثمرت الديبلوماسية المغربية أزمة الجزيرة لتذكير الرأي العام الدولي بالواقع الإستعماري الجاثم على المدينتين ، كأقدم استعمار أوربي في المتوسط ، ولم يتردد العاهل المغربي محمد السادس في خطاب له يوم 30 من نفس الشهر عن التأكيد الصريح على ضرورة وضع هذا الملف الشائك قيد الحوار مع إسبانيا ، من أجل تصفيته النهائية، وتجديد إقتراح والده بتكوين”خلية تفكير” بشأن المدينتين .
لكن إسبانيا جددت ما كانت تؤكده دائما ، من أن سبتة ومليلية مدينتان إسبانيتان ، وصرحت وزيرة الخارجية الإسبانية آنا بلاثيو أن ” سبتة ومليلية جزء من الإتحاد الأوربي ، على عكس جبل طارق مثلا ” ، وقالت بأن المفاوضات مع المغرب ، والمقررة خلال شهر سبتمبر، لن تتعرض لموضوع المدينتين أو لقضية الصحراء ، بل لموضوع قوارب الهجرة السرية والمخدرات والتهريب .
وأمام التعنت الإسباني ، وإصرار المغرب على استعادة المدينتين واستكمال وحدته الترابية ، تظل جميع الإحتمالات واردة ، بما فيها النزاع العسكري ، وبين هذه الإحتمالات ، تبقى قضية سبتة ومليلية شاهدة على الماضي الصليبي في المتوسط ، وبؤرة من بؤر ” صدام الحضارات ” .
Source: islamweb.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *