في الانعزالِ المنزلي منفعةٌ ومضرة، وحسنة وسيئة، استاءَ أقوامٌ وسُرَّ آخرون، ولكن ما باليد حيلة فهو الدواء الشرعي، والقانون الصحي والرسمي، والواجبُ التعاون بلا ضيقة ولا تأفف [فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل اللهُ فيه خيرا كثيرا].
• وخيرُنا من اغتنمَ تلك العزلة، وحوَّل الحَجر الى “حِجر واع” ، وحِجى ثاقب، وتقدم معرفي، وتزكيةٍ روحية. فنمّى عقلَه، وضاعفَ مطالعته، واكتسبَ وجدّ وتقدم وثابر، فما فاز إلا “روادُ الأوقات”، ومغتنمو الأزمنة، ومبادرو الأزمات.
• فمنّا من طالعَ عشرات الكتب، وفينا باحثونَ محققون، وكتَّاب مؤلفون، ومشاركون بالدورات التطويرية، ومنا من خلا بأسرته تعليمًا وتهذيبًا وتزكية، فعرَفهم عن كثَب، واستمالَهم بلا تعب.
• وأناس ملّوا الجلوسَ فعكفوا على الرياضة، ومشَوا في الأحياء أو في فناء الدار، فخففوا وانشرحوا.
• وآخرون اشتغلوا بسقي زروعهم، مع سقيهم لعقولهم، فأنبتوا الزرعَ والعقل، وكلاهما محتاج للسقاء والغذاء والرخاء، وكان صاحبُكم من هذا الصنف، يدفع مللَ البيت بالسقي، والتلذذ بمنظر الشُجيرات.
• يطالعُ ويكتب حتى يزوره التعب، فيهبّ إلى شجيراته، فيطعمها، ويحسن إليها، قد اتخذها صديقا في زمن عزّ فيه الأصدقاء، وبتنا لصقاءَ بيوتنا، ورفقاءَ كتبنا وأوراقنا.
• تعرّفَ من خلالها على حياة النباتاتِ، وعظمِ حاجتها إلى الماء، واستروحَ جمالَها وظلالها وخضرتها، وتعلم أيضًا كيف أن العقلَ كالشجرة، والقلب كتلك الزرعة، ومثلهما الإيمان، لا تنمو إلا بزادٍ وبِر وصلات، كذلك السقي لا تطيبُ حياته إلا بانسكاب القطرات، وجريانِ الأمواه على تلكمُ الفلوات.
• فبينما السقاء ماضٍ، لم يهمل السقاء العقلي، والانكباب على الكتب والورق، وبري الأقلام، فهي منحةٌ لا تعوض، وحق طلاب العلم وأئمة المساجد، استثمارها الاسثمار الأمثل والأروع.
• وما أشدَّ بأسَ الذي قرأَ واكتشف، وصنَف وختم، وزاد وأربَى، بحيث عالج وحشةَ الانعزال، وداوى كآبة الوَحدة والتباعد، فما يداوي “كورونا” إلا تحويل عزلته إلى وعي علمي وذكاء قرائي، يحصد النتائج، والثمار اليانعات.
• والسؤالُ الذي طُرح بين طلاب العلم ماذا قرأتم؟ وكيف استفدتم؟وما الكتب التي صنفتم؟ وكانت ثمةَ مخرجات مفرحة، وجولات تسر السامعين، وتبهج الناظرين.
• والأسى كل الأسى على من بدد وقته، وأضاعَ ساعاته، واكتفى بالعكوفِ الطعامي، والإجادة الغذائية؛ ولا ريب أنها حسرةٌ وندامة، فقد فوت خيرا، وبدد كنوزًا سانحة، وكانت ثمينة، لا تقدر بثمن.
• وأسوأُ من ذلك من بكى على انعزاله، وتألم من الكابة الجاثمة أشهرًا، وبات يعدد نعما فقدها، كفقدان المساجد والأصدقاء- وقد كان مقصّرا- ولَم يسارع التوبة، أو يلازم سجادته والاستغفار [وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون] .
• والحجرُ أشبه ما يكون بالحبس الذي حول بعض الناس إلى “حفاظ وعباد”، من جراء الخلوة التامة، وقلة التلاقي والكلام؛ فلم يبق إلا قلمٌ ناثر، ولسان ذاكر، أبحرَ بهما إبحارا مباركًا، أنتج به دُررا وثُمُرا.
• وأذكرُ هنا إنتاجاتِ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، العجيبة في سجنه، وما كتبه بالفحم ، وأصدره من مجلدات ورسائل نادرة مذهلة، وصفها ابن عبد الهادي بأنها كثيرة ذات اتصال بمحبسه المهجور.
• وكذاك الحافظ السَرخْسي الحنفي رحمه اللهُ”صاحب المبسوط” ، والذي أملاه من سجنه في قعر البئر! وكذلك الشيخ الألباني رحمه الله، حقق صحيح مسلم وراجعه في سجنه، وفرح بذلك فرحًا شديدا.
• وبرغم عودة “الحياة بحذر”، لازالت “الأنباء متعارضة”، ويحذر أكثرها من عودة الوباء في دورة ثانية، جنبنا الله وإياكم فتكها، وحمى بلادَ المسلمين قاطبة.
• فعلينا الترقب والتأهب، وصياغة خارطة للعمل والاستفادة تكون “استباقية”، لا سيما طلبة العلم، وأصحاب الهم المعرفي والبنائي … بحيث لا يتكرر إهمالٌ وقعوا فيه، ولا تسويف لبّس عليهم، وأثنى عزماتهم، والله المستعان.
• والشكرُ المكلّل، يزدانُ لجهات ووزارات ومواقع، كثفت من الدورات التدريبية، وفتحت آفاقا في “الاستفادة الالكترونية”، بحيث تتعلم وأنت تحتسي الشاي، وتكتسبُ مهارة وأنت في خضم شغل منزلي، وبين أهلك وأبنائك… فأي نعمةٌ ساقها الله لنا، [وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنة] ولله الحمد والمنة.
__________
باختصـارفي المـقـال