سلفادور دالي يعدّ لي فطوري!
[wpcc-script type=”36edbff4c13549da574abe92-text/javascript”]
(8:45 صباحاً حسب توقيت دمشق):
تسقط اللّوحة المعلّقة فوق سريري سقوطاً مدوّيّاً؛ ليس ثمّة رياح في أيّار! أنهض مذعورة بكتلة آلام مؤخّرة رأسي. فأصوّب انتباهي الغاضب صوب النّافذة؛ إنّها كما تركتها البارحة! أضغط موضع الإصابة فينزّ دمّ كثير. أهرع إلى المغسلة؛ لأعالج الأمر. أفتح الصّنبور إلى آخره ليطرد الأذى كلّه بينما أفعل ذلك أسمع وقع حذاء ورائي يروح جيئة وذهاباً في غرفتي. أستمرّ في تنظيف الجرح بريبة طفيفة؛ إذ ليس في المكان سواي، تلكزني عكّازٌ من خصري تصاحبها ضحكة وقحة.
أنا المسؤول عن إسقاط اللّوحة على رأسك. لست آسفاً لذلك.
عفواً!
أجفف يديّ بفستاني. أبلع ريقي بمشقة وأحسب أنّني واهمة. أحدّق بالرّجل ذي البذلة الرّسميّة والقميص الحريريّ والشّارب الرّفيع الطّويل كالهررة.
أيّتها المسكينة! هل آلمتك حقّاً! آمل ذلك.
أمتلئ حنقاً وخوفاً. أصرخ بشدّة: ساااااااااااااااارق! يا بابا! يا نااااااس أغيثوني..
لكنّ أحداً لا يأتي لنجدتي. أمّا اللّئيم الّذي يقف قبالتي فيغرق في نوبة ضحك هستيريّة.
هل أنت جادّة بهذا؟ هل ثمّة شيء يُسرق هنا! أرجو أن تعتذري لوصفك الأحمق هذا لي. ألست بارعة في المعاني الضّمنيّة؟ لا أجد ذلك حقيقيّاً؛ إذ كيف بدا لك بأنني سارق، هل مظهري مخاتل؟
من أنت؟ ماذا تريد منّي؟
أقولها راعشة وأتراجع خطوة. يحذّرني من سكب الإفطار أرضاً بهذا الخوف غير المبرّر.
أنا سلفادور دالي.
يلفظ اسمه بلكنة إسبانيّة ممسكاُ شاربه الغريب
سلفادور! هل تسخر منّي؟ سأتّصل بالشّرطة.
هذا دالي. دالي وحسب، لا وقت لدينا. أنظري إلى السّاعة الذّائبة قرب سريرك!
ألتفت بحذر. أشهق. إنّها كذلك.
مهلاً.. يفترض أنّك ميّت! بناءً على ذلك أنا أستحضرك إثر إصابة رأسي.
هراء.. هراء.. صغيرتي متى ستخرجين من الرّحم؟
يقولها متذمّراً ثمّ يتجاهلني ليسحب ورقة من دفتر مذكّراتي.
مكانك! لا تتحرّكي. سأرسمك.
يمرّ الصّمت بيننا هواءً مهادناً. أتحرّك عمداً لأوقف ذلك، لا يبالي بل ينهمك أكثر في لوحتي.
سأتركها لك للذّكرى. إنّها تشبهك!
آمل ألا تكون كما رسمت غالا؛ أكره لحم الضّأن.
يبتسم بمكر.
غالا لا يُدانيها أحد. «ما زلت أستطيع أنّ أقيس الأعمدة النّحيلة لكبريائها والرّقة، وأعمدة الدّرابزين الجامحة لطفولتها، والدّرجات السّماويّة لابتسامتها».
الله! رسّام وشاعر ولهان.. هه.
جاهلة! أما زال الألم حاضراً؟
قليلاً.
للأسف. ليته كان أشدّ.
عفواً؟ لماذا تصرّ على إيذائي؟
امممم.. آذيتك في الجسد ما يعني أنّها لا شيء مقابل المهانة الّتي سبّبتها لي.
أنا؟
حادثة لا تعني لك شيئاً لكنّها تُعْمِلُ في داخلي أشواكاً
أحسب نفسي مسالمة سيّد دالي. أظنّك مخطئاً في العنوان.
يا بؤس ذاكرتك! بالمناسبة، سأغضّ الطّرف عن التّعريض في كلامك.
أرتبك. يظلّ جامداً في القسوة.
لا يمكن أنّ ننسى ذلك اليوم؛ أنا وأنت. لا تقصيه بعيداً عن وعيك!
كيف كنّا معاً سيد دالي؟ هل أنت مخمور؟
أفٍ. أنا أضيق بك ذرعاً.
هلّا وضّحت لي أكثر، من فضلك.
عندما قرأ لك والدك الموقّر نصّك البكر؛ ذلك الّذي كنت تطيرين بجناح فراشة فيه. لقد كان طاحونة الهواء النّقيّ فيك، قال متوجّساً خيفة توّجهك: أنت تكتبين بسيريالية! وركض إلى عقر مكتبته ليحمل لك المغاير لذلك وألفته.
آه. تذكّرت! يومها، ذهبت إلى المكتبة العامة، سألت العجوز هناك عن كتاب حولها، فأراني لوحاتك بفوضاها داخل كتاب يشرحها! لم أفهم الكلام عنها كان صعباً وعسيراً على ابنة الرّابعة عشرة! بدا طلبي مثار فضول لكنني كتمت ذلك إثر ما رأيت من فنّك.
توقفي. عدّت أشعر ببصاقك يملأ لوحاتي.
أنا آسفة. لا أقصد ذلك. كنت أجهل مقاصدها وبدت شتيمة بين شفتي والدي! فكرهتك.
شتيمة أخرى! لكن لماذا تعلّقين لوحة إصرار الذّاكرة فوق سريرك؟
مستحيل! أنا لا أفعل ذلك!
أها. أنت لا تبصرين! ذلك شأن آخر.
إسمع سيد دالي. سأوضّح لك الأمر: نحن مختلفان اختلافك عن أخيك سلفادور ما أراده والدي آنذاك كوني أمتح من الحلم فيتكاثف المعنى في وعيي فأجدني غارقة في الاستعارات المركبة. هذا كلّ شيء.
مصابة بالهلوسة!
ربّما. الحمّى الإبداعيّة.
يلتقط كرزة من إحدى الصّحون المغطاة على مائدة الإفطار ثمّ يجلس على الكرسيّ الهزّاز.
لماذا توصدين نوافذك بإحكام؟
ربّما، أمان أكثر.
أووه. لا أخفيك الخفاش الجميل ليس سيئاً، دعيه يدخل إلى المتن، واطردي النّمل لا حاجة لتأملك لها طوال الضّجر!
فجأة، يدخل في بكاء محموم على خفاشه الّذي في طفولته. يتوقف. يقفز من مكانه. يمشّط شاربه، يهذب ملابسه، ويخرج من الغرفة. أقف ذاهلة. أناديه.
دالي … داااالي… هل تصالحنا؟
أراه يغادر بعربة خشبيّة وظهره يشفّ عن الحيّ الدّمشقيّ الّذي أسكنه! تفتح جارتنا نافذتها على دهشة؛ إذ ليس في الشّارع سوى صدى منديلي الملوّح بالوداع. أنزوي إلى داخل غرفتي خجلى؛ لأثّبت اللّوحة الّتي رسمها لي عوضاً عن تلك المتهشّمة.
(8:45 صباحاً حسب توقيت دمشق).
أهمّ بتناول فطوري: بيض مقليّ دون مقلاة ولوحة (مسخ.. أعضاؤه التّشريحيّة: عقل، ويد، وعين) تحدّق بي طويلاً كلّ يوم بدون معنى أبلغه!
٭ شاعرة سورية