سورة الصحراء

إلى جاك لاكريار (ذكرى سور) في البدء قلتُ كأنّه سيحلُّ سلسلةً تواربُ بابَها، ويزيحُ شيئا قُفْلها النقّالَ؛ قلتُ سيفتحُ الصحراءَ لي. ووقفتُ أسألُ كيف أدخل بابَها؟ هذا رواقٌ أسطوانيٌّ، وبابٌ من زجاجٍ.. تلْوَ بابٍ من زجاجٍ.. تلْوَ بابٍ من زجاجٍ، تلْوَ.. والصحراءُ شكلُ الدفِّ في شمسِ الصباح ولا مَعالِمَ.. لا صُوَى.. إلاّ سهوبَ مزاحفٍ هزْلى […]

سورة الصحراء

[wpcc-script type=”1e18c580af3d04c2ab3936ed-text/javascript”]

إلى جاك لاكريار (ذكرى سور)

في البدء قلتُ كأنّه سيحلُّ سلسلةً تواربُ بابَها، ويزيحُ شيئا قُفْلها النقّالَ؛
قلتُ سيفتحُ الصحراءَ لي.
ووقفتُ أسألُ كيف أدخل بابَها؟
هذا رواقٌ أسطوانيٌّ، وبابٌ من زجاجٍ.. تلْوَ بابٍ من زجاجٍ.. تلْوَ بابٍ من زجاجٍ، تلْوَ.. والصحراءُ شكلُ الدفِّ في شمسِ الصباح
ولا مَعالِمَ.. لا صُوَى.. إلاّ سهوبَ مزاحفٍ هزْلى
قوافلُ تلك؟ أم مدنٌ تَنَقّلُ بين كثبانِ الرمالِ، ببدوها.. وجِمالِها.. وكلابها؟
كانت تسوخُ بعيدةً.. وتدورُ في رملٍ يتيمٍ.. وهي تطحَنُ أو تغوصُ قريبةً.. ونساؤُها في الأزرقِ النيليِّ أقواسُ السماءِ،
نباتُها البريُّ أحمرَ.. ثمّ أبيضَ.. ثمّ أغبرَ.. ثمّ أسمرَ.. ثمّ أصفرَ.. إذ يهيجُ..
وهنّ أقواسُ الندى
٭ ٭ ٭
أسرابُ وِرْشانٍ.. على بئرٍ تحُومُ
وتلك عاداتُ الطيورِ، كما يقول أبي.. مُحلّقةً تنقّبُ
حيثُ كان الماءُ..كان الطينُ جثّتَهُ
وظلُّ أبٍ يُلَعّبُ خيلهُ حينا
يدرّبُ بازهُ للصيد حينا
هكذا خمّنتُ
إذ يتخبّط الأطفالُ تحت النخلِ في حوض صغير، حذوهُ
حوضٌ لتربية المَحار
لشاردِ الأمطارِ؟ أم؟
٭ ٭ ٭
هذا الصباحُ.. كأنّه بدءُ النهار وختْمُهُ
أُزُرٌ مخطّطة.. لجَمّالينَ مُتّزرينَ.. وهي تحُولُ في شمسِ الضبابِ ومائه.. الأطفال في نقّالةٍ.. متحلّقين.. يرتّلونَ
كأنّما الكلماتُ تنفر كالطرائدِ.. وهي تعوي.. كلُّ صوتٍ كان يحملُ لونهُ
(لي بَكرةُ التذهيبِ.. لي في القيروان بعيدةً..
كتبٌ على إيقاع دُولابِ النحاسِ، تدورُ مثل الرملِ.. في الكتّابِ
إذْ كنّا نهزُّ رؤوسَنا الوسْنى صعودًا
أو نزولاً كالجيادِ.. اللهُ في أصواتِنا يجري
وفي ألواحِنا مخطوطةً.. مَمْحوّةً أبدا
وينعسُ مثلَنا..وينامُ.. في سجّادِنا.. حيث الظلال بنا تدورُ معا.. وتطرحُ ريشَها)
٭ ٭ ٭
لابدّ للكلمات من طُعْمٍ إذن.. ومكاسرٍ من نخلةٍ
كي نستدلَّ بها.. علينا.. والطرائد نحنُ..
والكلماتُ عِجْل سائمٌ.. وطعامهُ لبنُ الحياةِ..
لسانُ غاباتِ النخيلِ.. الأرضُ من ألقِ السّلِيسِ ونجْمةِ الصوّانِ.. حتى الأحمرِ الرمّانِ.. والخبّازِ هذا الأرجوانيِّ الشفيفِ مضمّدًا
فبنفسجيًّا.. كستنائيًّا..
وأبعدَ ثمّ صيّادٌ يصوّبُ بندقيّتهِ الفتيلةِ.. لابِدٌ في الدغلِ (ذكرى من أبي..
وأنا صغيرٌ.. في قرون غزالةٍ.. يقف الدمُ.. الطفلُ الذي قد كنتُهُ.. ما زال يُجهش فيَّ.. في نومي.. وكنت أصيحُ: لا.. وأبي يجلجلُ ضاحكا:ها قد أصبتكِ أنتِ.. يا..)
٭ ٭ ٭
الرملُ مثلُ عمودِ ماءٍ وهو ينطحُ غيمَهُ
الرملٌ مثلي لا ينامُ.. الرملُ مثلي الآن ماءٌ خامدٌ، أو راكدٌ، أو كامدٌ
لكنّما للرملِ صوتُ الرملِ؛ صمتُ هديرهِ.. تجترّهُ الصحراءُ لي..
أنا ما انْحنَى لِتَقادُمٍ ظَهْرِي/ وأسرارِي الأخيرةُ لي/ لهذا الأبيضِ الورديِّ يا ابنةَ حضرموتَ.. قرابِك اللبنيِّ أنتِ/ حريرُهُ المغْليُّ لي/ ونسيجُهُ المبيضُّ لي/والبرعمُ الثمَريُّ نهدٌ ناتئٌ/ تقويمُهُ الفلكيُّ لي.
لو كان لي منقاشُ نحّاتٍ لزخرفةِ القِرابِ.. إذنْ أنا زخرفتهُ لكِ.. إنّما للبحر كالصحراءِ، حالاتٌ كحالاتي، انحسارٌ كانحساري..إنّما للبحر يا ابنةَ حضرموتَ، هياجُنا الاثنينِ في المدّ المحاقيِّ الربيعيِّ..الزمانُ بنا يضيقُ معا.. ولي في فرْجة الفخذينِ، ما للموجِ؛ أعرافُ الخيول البيض.. لي مدُّ الرمالِ وجزرُها.. لي منكِ طعمُ طيورِها الوحشيُّ.. لي هذا الندى الفضيُّ.. حبّكِ.. لي أنا خبزُ الذبيحةِ.. ماؤه.
٭ ٭ ٭
لَوْ أُدركنَّ الصيفَ يا ابنةَ حضرموتَ؟ وكيف لي؟
وأنا رهينُ القيروان؟ ولمْ أصادقْ بحرَها..
كانتْ موانئها قلاعَ مراكبٍ للطائرِ المحبوسِ؟
(آدم قد أتى حوّاءه في سدرةٍ، إذْ رنّقتْ في عينِها سِنةٌ؛ فخلّت بينه وقِرابَها.. حتى إذا حطّا على فيْضِ الرمال كما يحطّ الطيرُ؛ كانت أمّنا الصحراء.. جنّتنا)
وها أنَذَا.. هنا بالبابِ.. لا الصحراءُ رحْمَتُها قَرِيبٌ منك أو منّي،
ولا هيَ منكِ أو منّي بَعِيدٌ..
واقفًا بالبابِ أسألُ كيف أدخلُ، وهو يُوصَدُ؟ والسماءُ تَغِيمُ.. إذ تُزجي الرمالَ..الليلُ يهبطُ.. كان أخضرَ.. ثمّ أسودَ.. ثمّ أبيضَ كالرماد بها.. تُشَبِّعُ نارَهُ فينا، نَواةُ مذنّبٍ مغمورةٌ بالظلّ..
ذاك لحاؤها؟ أم ذاك مِن ماضي النجومِ؟
سِراجُ نارِ كان يَنْجُم في الصُدورِ.. ولطخة زُرْقُمٍ عمياءُ؟
كنت أقول مدّخرُ الغيومِ لهم/ ولي من حُجْنةِ الأشجارِ/ ما اختزنَ النخيلُ لتمرهِ/ والنخلُ أخضرُ دائما.. والأخضرُ الأبديُّ كان وصيّةً.. أو رشْمةً.. من شاردِ الأمطار، أو من برقِها/ والنخلُ فضْلةُ آدمٍ.. صلصالهُ/ لي ما وراءَ الليلِ، خلف مِدادِهِ/ أعني ظلالَ غيومهِ إذ تَمَّحي.
٭ ٭ ٭
بالبابِ لي ما للسليلِ.. سليلِ أبناءِ السبيلِ.. أنا..
أهذي جرّةٌ لنبيذِ نخلكَ؟ أعطنِي منه المزيدَ.. وَسَقِّنِي
كفنِي أنا سعفُ النخيلِ، وساقهُ التابوتُ.. إذ يعلو النشيدُ بنا..
على إيقاعِ رقْصِ مُطقطقاتٍ.. وهو يسلَخُ لحمَنا..
حيث الجرارُ تدورُ بي..
٭ ٭ ٭
هذا احتضارِي أم تخومُ الأرضِ؟
والبدوّيُّ خلف الباب لي:
لا حدّ في الصحراء.. حدٌّ داخليٌّ مثل جسمكَ.. من فمٍ.. أنفٍ.. وعين..
تبدأ الصحراءُ.. تدخلُ..
قلت: والجلدُ؟
المشمّعُ.. أو وِقاءُ الريحِ..
والصحراءُ؟
شيءٌ كالقصيدةِ.. داخلٌ لا خارجٌ فيها ولا منها، لهُ..
الشعراءُ؟ مَنْ؟
أسماكُ أنهارٍ تَنَفّسُ في الهواءِ، وفي شَفِيفِ زُجاجِهِ..
لا ساقَ للشعراء.. هم كالنجمِ.. برّيًّا وبحريًّا..
لهمْ متعرّجُ الطرقاتِ.. آخرُ رحلة حتّى مصبِّ النهر.. مثلكَ..
والقصيدةُ؟
عشبةٌ منحوتةٌ في الصخرِ..
قلْ هي حفرةٌ لعبورنا.. ملأى.. بماء الليلِ..
تعرف أنّني ما كنت بالعدّاء..
حيث الأَرضُ في الصحراءِ مثلُ دوابّهمْ جرداءُ.. مثلُ ظهورها ملساءُ..
ملءَ فروجِها تجري.. وتعرف أنتَ أنّي لا جوادٌ لي..
ولا بازٍ أدرّبهُ لصيدي..
أنت تعرفُ أنّني ما كنت يوما كاهنًا
متفحّصًا أمعاءَها.. أحشاءَها الزرقاءَ.. أو عرّافَها..
هي لم تكن قطّ الضحيّةَ.. أمّنا الصحراءُ.. والصحراءُ من لا شيءَ تخلق كلّ شيءٍ.. وهي في مدّ الرمال وجزرها هذا الإلهُ وعرشه من دوننا.. الصحراء ماضي الأرض.. إذ تهبُ الزمانَ زمانَه وزمانَها..
والموتُ.. قُلْ؟
هو عَوْدُنا الأبديُّ.. والأبديُّ هشٌّ.. إذ يموتُ بموتِنا..
لكنّما للموت أبّهةٌ.. كما لو أنّه الباقي..
إذن… هَلْ أَدْخُلَنْ؟ أنا خادمُ الصحراءِ..
لكنْ بي عَمًى منها نهاريٌّ.. وعيٌّ من رُهابِ الليل.. أشيائي معلّقة بها ما بين أبيضِها وأسودِها.. ذرعتُ الوقتَ من طرَفٍ إلى طرَفٍ..
وهذا الوقتُ ملمومٌ ( كما لو أنّه حجرُ ابن مُقْبِلَ)..
حالمًا مستيقظًا.. في محبَسِ الوحشِ الإلهيِّ.. انتظاري طالَ في أبوابِها..
لكنّ هذا البابَ.. كيفَ بفتحِهِ؟
البابُ !
كان مُواربًا.. لكَ أنتَ وحْدكَ.. كيفَ لم تدخلْ إذنْ؟
٭ كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *