شهادة: الشعر والأسئلة الكبرى
[wpcc-script type=”7dfa5ee4ab005637e63b81d8-text/javascript”]
أظنني لم أدرك أن الشعر هو طريقي الأول إلا في عام 1993م، أما قبل تلك الفترة فقد كنت مشغولاً بأشياء كثيرة، وكانت تتنازعني في هذا العمر المبكر رغبات عدة للمستقبل في أن أكون قاصاً أو روائياً أو كاتباًمسرحياً، ولكن في ذلك العام تحددت رغبتي الأدبية، وارتبطتُ بالشعر الذي أعيه ولا أعقله ارتباط التابع بالمتبوع، وكان ذلك كافياً ليرتبط وجودي بهذا الغامض الآسر منذ ذلك الأمد.
انطلاقاً من هذا العام الصاخب المليء بالأحداث والانكسارات السياسية والذي ترك آثاراً قويةً على تجربتي وعلى تحولاتها المختلفة، وكردّ فعل للمهزوم الذي يبحث عن سند يواسيه أو يرتمي في أحضانه، فقد أصبح الشعر أمامي أفقاً مفتوحاً لا حدود له.
خطوةٌ أُخرى ستدفعني إلى الكتابة في هذه المرحلة، وهي إحساسي العميق بحالة الحيرة والقلق والهزيمة وبؤس الفقراء وشقائهم، ورفضي لتقاليد المجتمع وممارساته الخاطئة التي بدأت تملاُ قلبي حزناً وألماً، وإحساسي الصادق بالمسؤولية العميقة تجاه وطني وشعبي، وهو إحساسٌ مستندٌ إلى قيم وطنية سامية وأهداف نبيلة.
ها أنا أتذكّر تلك السنوات البعيدة من تاريخ مسيرتي الأدبية، ولا أريد هنا أن أكون وثائقياً تماماً، فالذكرياتُ القديمة لا تندمل بسهولة، كما أن الأحلام القديمة لا تموت أيضاً، حتى وإن كتبنا عن موتها ورثيناها، وأنا أدرك أن الحديث عن النفس صعبٌ وأنه يشبه الإبحار في عرض محيط شاسع صخّاب، ولكنني سأحاول في هذه الشهادة تكوين المشهد الفوتوغرافي العام لتجربتي الشعرية ودوافعها غير المتناهية، مستنفراً لتحقيق هذه الغاية حدسي وحواسي الخمس، منطلقاً من ذاتي إلى العالم الرحب الفسيح.
ومن محاسن الصُدفْ أن تأتي هذه الشهادة بالتزامن مع مرور عشرة أعوام بالتمام والكمال على صدور مجموعتي الشعرية الأولى ‘أرض مشاكسة’ والصادرة في عام 2003م عن دار أزمنة وبدعم من وزارة الثقافة الأردنية، والتي أعطتني عند صدورها إحساساً رائعاً بأنني كتبتُ عملاً إشكالياً، خاصة حين بدأ الكثيرون يصافحونها بحرارة، وهي قصائد تنطوي على ضدية شعرية، أو رفض شعري لأشياء ومسلّمات كثيرة سياسية واجتماعية ووجودية أيضاً، بل لعلها إشارة من إشارات صعلكة شعرية معاصرة تقول مقولَتَها بلغة مكثفة موحية غنية بالانفعال والإحساس المنطلق والنشوة المجنحة.
وأعترفُ اليوم بأنني في الفترة الأولى من نتاجي كنتُ مشدوداً إلى التراث، وكانت ظلالهُ تحيطُ بي، في كل قصيدةٍ أكتبها، ولكني ما لبثتُ أن انفتحتُ على عوالم جديدة عندما أخذت اطالع بشغف الآداب الأجنبية، وشعراء الغرب الكبار، فقرأتُ الكثير في مجال الشعر والنقد والرواية والفكر والتاريخ والمسرح، وكان لهذه القراءات فيما بعد أثرٌ عاصفٌ في تشكيل وعيي وتطوير أدواتي الإبداعية، وتمثل ذلك في ديوان ‘مدينة الرماد’ والذي كان نتاجاً لهذ القراءات المرهقة التي لقّحتُ بها ذهني في ذلك الوقت، فجاءت قصائد الديوان متأججة، تعلي من شأن البساطة العميقة، وتحتفي بالعابر واليومي، كأنما هي لوحة ذات فضاء غير منغلق.
بعد ذلك، توالت كتاباتي الشعرية، وتنوعَّت، فجاء ديوانُ ‘كلام الليل والنهار’ مختلفاً في طريقة بنائه الفني، فقد انطلقتُ فيه من موقف فني شديد الوضوح محدد السمات، مستعملاً لتحقيق هذه الغاية لغةً تحريضيةً مباشرةً تمزج الكتابة السياسية بالحالة الإنسانية التي تفجرُّها وذلك من أجل الوصول إلى نوع من التمازج والتراضي بين الموسيقى والطلاقة التعبيرية، وبين الإحساس والفكرة، وبين الشعر ووظيفته، بين الفن وغايته، وبذلك استطاعت قصائد الديوان المتمردة أن تعلن عصيانها على السائد الشعري آنذاك، وأن تلقي حجراً في الماء الراكد، وأن تخترق حصون النقاد وأسوارهم المغلقة.
وفي العام 2008 كانت النقلة الأساسية في التجربة وذلك عندما بدأتُ أعي أن كل هذا الشعر أصبح لا يفي بما أُريد، ولا بما أُحس أنه يكاد يفرض نفسه عليّ، وعلى المشهد الشعري كذلك، سواءٌ في عناصره المكونة أم في رؤيته للعالم، مما جعلني أتمردّ عليه وأُدرجه تحت مصطلح الحساسية القديمة أو الحساسية التقليدية، وهذا لا يعني بالطبع أني تبرأتُ من أعمالي الأولى، ولكنّي اكتفيتُ بالتمرُّد عليها وبالإنحياز إلى الإختلاف والتفرُّد.
وهكذا أصبح للاختلاف مذاقٌ حلو، وأصبحتُ أسمعُ أصواتاً بعيدة ما زال صداها يرنُّ في أذنيَّ حتى هذه اللحظة، وأظنُ أن بدايات هذا كانت في ديوان ‘تماثيل عرجاء’ والذي اصطبغ بصبغة التأمل والمعرفة العميقة والالتفات إلى أهمية الموروث الشعبي من أغاني وحكايات ومواويل والدور الذي يلعبه هذا الموروث في إثراء وإضاءة القصيدة وفي إعطاءها بُعداً تشكيلياً يحمل إيقاع الحياة ونبضها.
أما ديواني الأخير ‘الكتابة على الماء والطين’ والصادر في العاصمة عمان عام 2012م عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع، فهو يحمل رؤية شعرية حية، وثقافة معاصرة متأملة، سائحة في بحار المعرفة، مفتونةً بالفلسفة، مُحبةً للتاريخ والأنثربولوجيا، مولعةً بالأساطير التي هي مصدر إغناء هام للشعر، إذ عن طريق الثقافة وحدها تنهض القصيدة وجوداً حسياً ملموساً، يمكن لمسه، ورؤيته، وتشممه، ولو سئلت عن مدى توفيقي في هذا الديوان لقلت أنني استطعت فيه أن أُصفّي لغتي وانفعالي وأفكاري من كل فضول.
وتجدرُ الإشارةُ هنا إلى أن اللغة بما تتضمنه من بنيةٍ صوتيةٍ ومن نسيجٍ سحريٍ موسيقيٍ كان لها دورٌ جوهريٌ في إيصال رؤيتي إلى القارئ، وتقديري أن الشاعر الحقيقي يحتاج إلى تملك تام ومطلق للغة، وليس مناطَ هذه الأهمية عندي مناطاً شكلياً، إذ عن طريق اللغة المتوهجة وعبرها تتنامى القصيدة، ولا شيء غير اللغة ورنينها الدافئ يواجه القارئ، فيملأ روحه وعقله بالدهشة، ويبعث فيه الإحساس بالجمال أو الأسى الغامض، فنحن نعرف أنه لا فكرة ولا حِس بدون لغة شفافة عميقة ومشحونة بالألوان والأصوات، وأنا هنا، لا أعني أن القصيدة لغةٌ فقط، أو أن هذه اللغة هي كل ما تحمله القصيدة، فاللغة بحد ذاتها كينونة، ولكني أود القول أن كل ما تشتمل عليه القصيدة، وكل عنصر من عناصر نسيجها على مستوى الصورة والإيقاع والتوزيع البصري، يكمن هناك، وراء لغتها.
وأنا رُغم صداقتي الممتدة للشعر قارئاً وكاتباً زُهاء عشرين عاماً، ما زلت أواجه الإبداع بمزيج من القلق واللذة، وحين أصل إلى جوهر الشعر الطاهر النقيّ، فإنني أصلُ إلى هناك مرهقاً، مبللاً برذاذ اللغة، ومكسواً بفضائها الغائم، وحين تنتهي القصيدة أبدأ في اكتشافها من جديد، وأمرُّ عليها مرةً بعد أُخرى، فأعيدُ وأنقِّحُ التفاصيل، وأطوي الصفحات وأمزقها مراتٍ ومراتْ، ومن ثم أضعُ عليها لمستي الأخيرة قبل أن ترى النور في غدها الذي سيأتي.
وها إنني اليوم، أجدني قد جرّبتُ أشياء كثيرة، واستفدت من تجارب الشعر العربي والغربي على حدّ السواء دون أن أكون تابعاً لها، وخضت في بحار الرمز الذي لم يفارقني حتى الآن، كما جرّبتُ المباشرة والخطابية الملتهبةَ أحياناً أخرى، وكتبت ألواناً من الشعر المشحون بالدلالات والتعابير والصور، وحاولت ألواناً من المعمار في القصيدة، وغرّدتُ خارج السرب طويلاً، حتى صارت كتابتي عُرضةً لتجريبٍ لا يستقرُّ على حال، وجهدتُ سنوات عديدة حتى أصير شاعراً له مذاقه الخاص، وعالمه الخاص، ولكني مازلتُ أعتقد أن هناك الكثير مما أستطيعه، وأن تجربتي الشعرية لم تستوفِ تمامها بعد.
هذه، في ما أظن، بعض الملامح الأساسية القلقة والحائرة والتي ما زالت عالقةً في خزائن الذاكرة، وتسري في العروق مدجَّجة بالأشواك، وما زالت بحاجةٍ إلى هتافٍ عميق في إطارٍ غنائيٍ حزينٍ مقهور حتى يصل صداها من حافة هذا السراب إلى تضاريس المكان المشتهى.