عزيزة علي

عمان – يذهب الشاعر والناقد المغربي د.صلاح بوسريف الى أن الكتابات النظرية والنقدية تحتاج اليوم إلى مراجعات في المفاهيم والرؤى والتصورات، خصوصا ما يتعلق بالشعر. وما نقرؤه من كتابات في هذا السياق، هي كتابات لم تخرج عن نصوص السبعينيات وما قبلها، وكأن لا شيء تغير في الشعر، وأن ما حدث من تحولات في تلك الحقبة من الزمن، هو نفسه ما يجري من تحولات في الوضع الشعري الراهن.
ويشير بوسريف، في مقدمة كتابه الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، بعنوان “شعرية الصمت- الأفق الشعري للكتابة”، إلى أن النقاد اكتفوا بحصر ما يقرؤونه من شعر، في ذلك الزمن، ولم يخرجوا من ماضيهم، هذا، لينظروا في الكتابات والتجارب التي جاءت بعد السبعينيات من القرن الماضي، بما في ذلك المقترحات النظرية، التي جاءت محايثة لبعض هذه التجارب.
ويدعو المؤلف إلى عادة قراءة الشعر في نصوصه، وفي تجاربه، وفي الأعمال الشعرية التي تشكل أفق تجربة لها ملامحها، سواء من حيث الإنتاج، أو من حيث القيمة الإبداعية، لافتا الى أن من يقتربون، اليوم، من الشعر، يكتفون بأدوات وآليات ومفاهيم قراءة التجارب السابقة نفسها، وكأننا إزاء معيار جديد تضمره هذه القراءات في ذهابها إلى الشعر، مثل معيار الموزون والنثري، والشعر واللاشعر، وهذا، في حد ذاته، تعبير عن الوعي النقدي المحافظ، الذي اقتنع بالمكتسبات، أو ما اعتبره مكتسبات.
ويرى بوسريف أن هذا النمط الذي يفرزه العقل ويذهب إليه، لا يجد من يستمع إليه، أو يتأمله ويقرؤه، لأن النمط يتحول، بحكم العادة إلى نظام، هو ما يحكم الرؤية والفهم، وهو ما تعمل المؤسسة على قبوله، باعتباره نظاما، وطريقة في تصريف المعاني والأفكار؛ فالشعر، اليوم، غير شعر: الرواد، والبناء، اليوم، غير بناء الأمس. والمعمار الشعري، ليس هو معمار “القصيدة”، فالثاني مأهول ومسكون، والأول في طور البناء، هو بداية دائمة، ومساحات الفراغ، وما فيه من تجويفات وبياضات، هو أكثر مما فيه من امتلاء واكتظاظ.
وينوه المؤلف إلى وجود مسافة بينهما وعلينا أن نأخذها في الاعتبار، قبل أن نحكم ونصنف ونستنبط ما في المقترحات الشعرية المغايرة والجذرية، من اختراقات، ليس قياسا بما سبقها، حتى لا نسقط في معيارية ما سبق، بل بما حدث في هذه الأعمال والتجارب من انتهاكات، ومن جرأة في توسيع دوال الشعر، والخروج به من “القصيدة” إلى الكتابة، ومن الكلام إلى الصمت، ومن هيمنة اللغة، إلى حضور الدوال المحايثة لها، مثل الفراغات والبياضات، والأشكال والرسوم.
ويرى بوسريف أن ما يحدث في توزيع الدوال، وما تتبادله من مواقع، وغيرها من العناصر البانية للنص، والتي يتجلى فيها الوعي الكتابي، لا الإملائي الصوتي التي هو من صميم “القصيدة”، التي لم يتخلص السابقون من المعاصرين من هيمنتها على ثقافتهم وتكوينهم، وعلى وعيهم الشعري الجمالي.
يقول المؤلف إن طبيعة المدينة الحديثة، أجبرتنا على العيش في صخب الشوارع والأزقة والفضاءات العامة التي لا مساحة فيها للصمت والفراغ، هي مدن صاخبة، مساحات الصمت فيها لم تعد متاحة، إلا في الأطراف، أو بعض الأطراف التي تسمح للصمت، وعندما نطفو على السطح، نسمعه، نتملى به، ومن خلاله نستشعر قهر ما نحن داخله من ضجيج ولغط.
ويرى بوسريف أن هذا الوضع انعكس على كتابتنا، على الرواية والقصة والمسرح، كما انعكس على الموسيقى، التي صارت في أغلبها امتلاء وأصواتا عالية، لا مساحة فيها للصمت أو السكون. التموج في البحر، هو في جوهره حركات يعقبها سكون، اللحظة التي نلتقط فيها السكون أو الصمت، هي اللحظة ذاتها التي فيها ندرك إيقاع الصوت، إيقاع الموجات التي تنكسر على الشاطئ وتذبل أو تتلاشى.
ويعتبر المؤلف أن الوجود على الأرض، لم يعد وجودا بالصمت والفراغ. فقد الوجود صفاءه وانسجامه، لتهيمن الثرثرة والصراخ والضجيج والأصوات العالية الحادة والقاسية على السمع والجسد، لافتا الى أن لغة الصمت أصيبت بالصراخ، بالتشوش والاضطراب، لتتحول إلى صخب وثرثرة مجردة من كل حس إنساني وعاطفي، وتحولها إلى محض أصوات قاسية خالية من الحياة، لأنها فقدت الصمت الذي يمنحها الحياة.
ويبين بوسريف أن الصمت، هو نفسه البياض، ونقط الحذف، والعلامات والإشارات التي لا تقرأ بل تدرك، لأنها إيماءات توحي بشيء ما، لا تقوله أو تكتبه. الصمت، بهذا المعنى، يقول ما تكون الكلمات غير كافية لترجمته، كما يقول دافيد لوبروطون، في كتابه “الصمت لغة المعنى والوجود”، بل إنه “مرادف للسر”، وفي جوهره “إبداع إذا ما ترك الكاتب الصفحة البيضاء، حيث القارئ ينتظر جوابا وإذا ما استعمل كثيرا نقط التعليق أو الحذف كما هو الحال في الأدب الياباني”.