صناعة الجمال الخطي في منجز المصري خضير البورسعيدي
[wpcc-script type=”bd39d4aa10695740ab65f29d-text/javascript”]

يعتبر الفنان خضير البورسعيدي هرما شامخا بمنجزاته الكبيرة في الخط العربي في العالم، فهو يشتغل بمفردات لغته الخطية على نحو كلي من الجمال، إذ يقدم نماذج خطية غاية في الروعة، تجعل أعماله تتبدى في نطاق جمالي ساحر، مقرون بالقواعد الصارمة، ومنمق بالزخارف البهية، ليشكل مساحة شاسعة في العالم من إبداعه الفريد المخالف للمألوف، مرتكِزا على فضاء فني يعج بطقوس تعبيرية دائمة البناء والتجديد. ولا شك في أن السمات الجمالية التي يتمتع بها الخط العربي بأنواعه المختلفة، سما بها المبدع إلى مصاف الذروة الفنية عالميا، بما يقدمه في هذا الاتجاه من أشكال خطية وصيغ بنائية حديثة يُعصرن بها الأسلوب ليتّجه نحو عوالم فنية جديدة تُوجّه الطريقة التعبيرية، وتقود إلى جعل التراث الحضاري العربي الإسلامي مجالا إبداعيا حيويا متجددا. وتتبدى هذه التجربة الغنية في مجال الخط العربي رائدة في العالم العربي قياسا بمكانة المبدع وخبرته، وقياسا بما طبع به المجال الفني من جماليات رائقة وزخرفات فاتنة وأشكال مبهجة. فمجمل أعماله يحكمها الالتزام بالضوابط الخطية وتحكمها القواعد الصارمة. كما أن خبرة المبدع خضير البورسعيدي تفصح عن عدد من التراكيب الخطية المقيدة بالقواعد، والمدججة بالجماليات المتنوعة، خاصة في خط الثلث؛ الخط الأجمل والأصعب في الأنواع الخطية العربية، وفي الخط الديواني، وفي غيرهما من الأنواع الخطية العربية، التي يشكلها المبدع وفق خاصيات جمالية معاصرة، ما يؤشر إلى تطويع الحروف للألوان والأشكال، وتطويع الألوان لخدمة الخط العربي في نطاق تناسقي بين الأشكال والخطوط والمادة الفنية المعاصرة، بمعية الزخارف والمنمنمات العربية الأصيلة، إذ تشكل جميعها إيقاعات ذات سمفونية مبهجة، تلامس السمع كما النفس، وهي تبدأ من عملية البناء الفضائي وتفضي إلى مسلك إبداعي بديع، تحكمه القوة التعبيرية، وتستحوذ عليه الصفات الجمالية بتعددية شكلية متناسقة. وكل ذلك يتأتى بالتقنيات العالية التي يوظفها المبدع، وتفصح عنها بشكل جلي الاستعمالات الخطية واللونية والتنوع في الشكل وطرائق الوضع، والأشكال المتنوعة. وهي تُبرز قدرته التحكمية في الفضاء. كما أن الربط بين مختلف المفردات الخطية، والربط بين مجموعة من العناصر الشكلية، والاستخدامات التحولية، يشكل نقلة إبداعية نوعية في مجال الخط العربي، وتنم عن تحكمه القوي في الإنجاز.
ومن منظور آخر- فإن مراسه ييسر تدبير المجال الجمالي في ما يخص تناسق الألوان وشكلية مزج الحروف والدوائر والمربعات والمستطيلات، وفق القواعد المتعارف عليها، ووفق الأشكال المستحدثة بنوع من التجاور والتمازج والتماسك، وبنوع من التوازن الإبداعي، مع إضفاءات من التنغيم والتكامل والانسجام. إنه مسلك جمالي في تجربة المبدع الخطية يتخطى بها المستهلَك ويحدث من خلالها أسلوبا خطيا معاصرا متفاعلا مع الأنساق الجمالية المتنوعة. وهو منجز خطي جمالي يقوم على رؤى جمالية وفلسفية، ويقوم على أساس من التوظيفات الخاصة؛ يلامس الجانب الوجداني بإيحائية وبتعبير فريد، وهو بذلك يدعم القوة التعبيرية على نحو من الجدة والحزم والصرامة الإبداعية التي تنطلق من قواعد الخط العربي وتنتهي إلى مسلك جمالي فاتن. ليقدم انطباعا لدى القارئ بأن الخطاط يعمل وفق رؤى مركزية، ووفق هندسة جمالية يوزعها وفق طرائقه الخاصة، حيث يجمع بين ما يقوم على القاعدة الخطية وما يقوم على الشكل والجمال. إنه مسار يمتد في الخط العربي ليروم عملية تشكُّل البناء الفني، قياسا بأهمية الحرف في تحديد المكونات الأسلوبية ذات القيمة الفنية التي تكتنز العديد من الدلالات البصرية التي تحتمل التأويلات الجمالية المتعددة. فسحرية الخط العربي في نطاقه المعاصر تتجسد في عملية الوضع المحكم والضبط الدقيق للأشكال داخل الفضاء، باحترام لمختلف عمليات التوظيف الجمالي من توزيع المساحة، وبسط الشحنات التراثية والنقاط والخطوط وعلامات الشكل وتصبيب الألوان الخلفية وعملية التنظيم الفارقي.
ويتبدى أن هذا التأطير يأتي في سياق التجربة الفنية الغنية للمبدع، وأيضا في نطاق البعد الرؤيوي لمسار الخط العربي وفق القواعد الثابتة، التي تجعل منه مُرتكزا للإبداع المستمر. إن ذلك يفصح عن درجات من الوعي الفني لدى الخطاط للعمل بهذه المقاربة. فالخط العربي بقواعده وتنوع مجاله حاضر في البناء الفني، وحاضر في البناء الشكلي، وحاضر بحمولته الجمالية في البناء العام للأعمال الإبداعية للمبدع خضير البورسعيدي. وهذا قطعا ينم عن الاجتهادات المتواصلة التي تجعل أعماله تنبني على مستحدثات تقنية معاصرة، لتضحى مثقلة بالإيحاءات والدلالات. فكونه يتخذ من المساحة ومن قيم السطح بعدا جماليا، ومن الحروف والشكل بؤرا جمالية، ومن الشكل العام إِيقاعا لَحنِيا لِلخط؛ كل ذلك يجعل من أعماله إطارا جماليا موحدا قوامه الانسجام بتمثيل للمقومات الجمالية المتنوعة للعمل الخطي، الذي يتمثل الحروف والمقاطع والكلمات، يسيطر جزء مِنها في الأعمال على كامل تكويناتها، بحيث يصبح مركَزا للجمال، وفق أنساق متناغمة مع كل تلك العناصر في المزاوجة بين ضروب متعددة من الخطوط ومن المفردات الفنية. فالمبدع يشتغل على رشاقة الحرف العربي، خاصة منه الثلث والديواني، وعلى حركيته، لينتج من ذلك جماليات وقيما تعبيرية صرفة. وبذلك تتراءى أعماله متحفا عربيا جماليا نتاج تطور كبير في مجال الخط العربي، تتبدى فيه اجتهادات نابعة من السيميولوجية المحلية، ومن المؤثرات الفنية المعاصرة. وهو ما يحيل إلى المشروع الذاتي للمبدع، الذي استطاع بخبرته العالية أن يؤسس صرحا جماليا للخط العربي في الفن العالمي المعاصر، ويرصعه بجواهر من التراث الثقافي العربي الإسلامي الأصيل بكل ما يكتنزه من منمنمات ذات جماليات فائقة، ويصبغه بالألوان المعاصرة، ويركبه بالتقنيات الحديثة، حتى أضحى في صفوة الفنون. وبذلك فإن حِرفية المبدع شكلت منجزا جماليا متفردا في سماء الإبداع العالمي المعاصر.
٭ كاتب مغربي