ضباب العواطف والابتزاز العاطفي

الابتزاز العاطفي صورة قوية من صور الاستغلال، ويقوم فيه أشخاص مقربون منّا بتهديدنا بأن يعاقبونا على عدم فعل ما يريدون، ويعلم ممارسو الابتزاز العاطفي مقدار تقديرنا لعلاقاتنا بهم، ويعلمون أوتارنا الحساسة وأسرارنا الدفينة، وقد يكون هؤلاء الأشخاص آباءنا، أو أزواجنا، أو رؤساءنا، أو شركاءنا في العمل، أو أصدقاءنا أو أحبابنا، وأياً كان مقدار اهتمامهم بنا، فهم يستخدمون هذه المعرفة الخاصة في نيل ما يريدون، ألا وهو امتثالنا لهم، كما تقول سوزان فورورد في كتابها الابتزاز العاطفي.

Share your love

وإن مجرّد وجود ابتزاز عاطفي في علاقة مُقرّبة لا يعني أنّ هذه العلاقة محكوم عليها بالفشل والانتهاء، ولكنه يعني ببساطة أننا نحتاج لأن نعترف اعترافاً صريحاً بالسلوك الذي يُسبّب لنا الألم ونُصحّحه، وأن نعيد وضع هذه العلاقات على أرض أكثر صلابة، فإشعال الأنوار على العلاقات التي يشوبها ضباب الابتزاز العاطفي كفيل بإنهاء هذا الابتزاز وهو أساسي لبداية الحل، وليس لكل مبتز الأسلوب ذاته أو سمات الشخصية ذاتها، فمنهم سلبيون، وبعضهم عدوانيون للغاية، وبعضهم مباشرون وبعضهم ماكرون للغاية، وأيضاً إن الخوف والخوف من الخسارة، والخوف من التغيير، والخوف من الرفض، والخوف من فقدان السلطة، هو أرضية مشتركة تمتد تحت هؤلاء المبتزين.

ويمكن لأحداث أن تكون محفزّة للابتزاز، مثل رفض من الحبيب أو فقدان الوظيفة أو الطلاق أو التقاعد أو المرض، يمكنها أن تحول شخصاً مقرباً إلى مبتز، وهو يتطلّب طرفين حتى يتم هذا الابتزاز فدورنا يمكن أن يزيده أو أن يلاشيه.

وللأسف فإنّ الإذعان لسلوك المبتز هو مكافأة له، وفي كل مرة نكافئ فيها أحداً على تصرّف معين، سواء كنا مدركين أو غير مدركين لذلك، فإننا نؤكد له بكل السبل الممكنة أنه في إمكانه تكرار ما فعله معنا من قبل.

وينتشر الابتزاز العاطفي كما تنتشر فروع شجرة اللبلاب، ويمكن لفروعه اللولبية أن تلتف حول كل جانب من جوانب حياتنا، فإذا كنا نذعن للابتزاز العاطفي في العمل، فربما نعود للمنزل وننفس عن غضبنا في أولادنا، وإذا كنا نحظى بعلاقة فاشلة مع آبائنا، فربما نصب جام غضبنا على وسلبيتنا على شركاء حياتنا، لا يمكننا أن نضع صراعاً ما في صندوق ونكتب عليه المدير أو الزوج ونحتفظ بهذا الصندوق لما تبقى لنا من حياتنا، وربما نزيد من معاناتنا الشخصية التي تدفعنا لأن نصبح مبتزين، لننفس عن إحباطاتنا في شخص أضعف أو أكثر حساسية منا.

إنّ الثمن الذي ندفعه في كل مرة نستسلم فيها للابتزاز العاطفي هو ثمن باهظ جداً، ولعل أسوأ ما يمكن أن يحدث لنا في كل مرة نستسلم فيها للابتزاز العاطفي هو أننا نخسر الشعور بالنزاهة والتواصل مع بوصلتنا الداخلية، التي تساعدنا على تحديد القيم والسلوكيات التي ينبغي أن نتبعها.

فثمن خضوعنا للابتزاز العاطفي باهض جداً، فشعورك بالذنب هو بالفعل شعور أناني، وهو ما يوحيه إليك المبتزون، وتخلصك من شعورك بالذنب يعد مفتاحاً للتخلص من هذا الابتزاز، وبدون شعورك بالذنب فإن المبتز لا حيلة له.

ويمرّ الابتزاز العاطفي بستّ مراحل وهي الطلب والمقاومة والضغط وثم التهديدات والإذعان والتكرار، وكثير من الابتزاز يكون مخفياً وغير واضح جداً، وإنما يبقى ابتزازاً، لذلك علينا بإشعال النور على ضباب هذا الابتزاز العاطفي، وهناك فرق بين فرض الطلبات والابتزاز العاطفي، وليس كل فرض للطلبات أو الرغبات يصنف على أنه ابتزاز عاطفي وإن كان يشبهه إلى حد كبير، فلا ضير في أن تطلب من شخص ما ألا يتحدث عن موضوع حساس، ولكن ماذا لو تضمن الصراع شيئاً أكثر جدية مثل علاقة أحد الزوجين بشخص آخر، أو مشكلة إدمان شخص ما للمخدرات، أو عدم أمانة شخص ما في العمل؟

في مثل هذه الحالات، قد يتفوه الطرفان بأشياء بغيضة لبعضهما البعض، وقد يبدو وضع الحدود على أنه ابتزاز عاطفي لأن المشاعر قوية للغاية، وحتى في مثل هذه الحالات، فإن الفرق واضح بين وضع حدود مناسبة وبين الابتزاز العاطفي، وإن الفهم أو التعاطف مع المبتز عاطفياً لن يجديا نفعاً، بل هما في الواقع يصبان البنزين على نار الابتزاز.

وينقسم الابتزاز لأربعة أقسام وهي المعاقبون، وهم الذين يخبروننا بأنه يجب أن نقوم بعمل ما وإن لم نفعله فإنه سيترتّب عليه عواقب، وهذا النوع واضح وظاهر وهو النوع العدواني، وهناك نوع آخر وهم المعاقبون للذات وهم الذين يُهدّدون بأنهم سيلحقون الضرر بأنفسهم إن لم نرضخ لهم، وهناك نوع آخر وهو ما يطلق عليه بالمعاملة الصامتة، فالمعاقبون الصامتون يبنون حائط سدّ بيننا وبينهم خلف وجه خال من التعبيرات ويتفادون تحمّل أي مسؤولية عن المشاعر التي نشعر بها تجاههم، وهناك نوع آخر من الابتزاز وهم المعانون، وهم يتّخذون موقفاً فحواه أنّهم إذا شعروا بالبؤس أو المرض أو عدم السعادة، أو كان حظهم سيئاً، فهناك حل واحد فقط وهو أن نعطيهم ما يريدون، حتى لو لم يخبرونا بما يريدونه.

 

اقرأ أيضاً: 3 مهارات يتقنها الأشخاص الذين يتمتعون بالذكاء العاطفي

وهناك نوع آخر من المبتزون وهم المُغرون الذين يغروننا ويشجعوننا ويعدوننا بالحب أو النقود أو التقدم الوظيفي، وهم على مبدأ العصا والجزرة، ولا يقتصرون في إغراءاتهم على الأشياء المادية لكي نرضخ لهم ونُنفّذ ما يريدون بل قد يستخدمون الجزرة العاطفية من حب وتقبل وغيرها من المشاعر، وأياً كان أسلوب الابتزاز فهو يدمر سعادتنا، وعلينا بالتخلص منه نهائياً.

ويعمد المبتزين أياً كان نوعهم على تعزيز مشاعر الخوف والالتزام والشعور بالذنب لدينا، وهو ما يسمى بالضباب الحاجب الذي يجعلنا نرتبك ونشعر بعدم الراحة، ومن الخوف من الغضب وهو لا يقتصر على غضب الآخرين فحسب بل نخاف من غضبنا نحن، ومنها الاستجابات الشرطية، ومن شعور الالتزام شعور الدين الدائم الذي يستغله المبتزون.

والشعور بالذنب هو القنبلة النيوترونية للمبتز، فهو ربما يبقي العلاقات قائمة، لكنه يقوض الثقة والحميمية اللتين تجعلاننا نريد أن نكون طرفاً في هذه العلاقات، ولكي ينشر المبتزون الضباب على مشاعرنا ليشعرونا بالخوف والالتزام والذنب فإنهم يذهبون للالتفاف، وبمعنى آخر نحن الطالحون وهم الصالحون، بالإضافة لتشويه المبتزين لسمعة الأشخاص المستهدفين، فإنهم يمارسون ضغطاً من خلال تحدي شخصيتنا ودوافعنا وقيمنا، ويصيب المبتز حالة من الحرمان فهو يعتقد بأنه إذا لم يصمم على الحصول على ما يريده، فإنه لا يملك أي فرصة للسيطرة، وإن الأشخاص الذين واجهوا خسارة وحرماناً كبيرين في طفولتهم عادة ما يصبحون كثيري المطالب على المستوى العاطفي وعالة على الآخرين بشكل واضح كبالغين كي يتجنبوا الإحساس بالرفض أو الهجر أو التجاهل.

وقد يكون عدم القدرة على تحمل الإحباط استجابة أيضاً للشكوك والضغوط الحديثة نسبياً، حيث تزداد احتمالية حدوث ابتزاز زيادة مهولة خلال أزمات مثل الانفصال أو الطلاق، وفقدان الوظيفة، والمرض، والتقاعد، التي تقوض إحساس المبتزين بأنفسهم كأشخاص ذوي قيمة.

قد لا يشكل الابتزاز العاطفي تهديداً للحياة، ولكنه يسلبنا أغلى ممتلكاتنا، وهي نزاهتنا، والنزاهة هي مستودع قيمنا وبوصلتنا الأخلاقية، وهي التي توضح الصواب والخطأ بالنسبة لنا.

وهذه بعض التأكيدات لتعزيز النزاهة:

أنا أدافع عما أؤمن به، أنا لا أدع الخوف يدير حياتي، أنا أواجه الأشخاص الذين تسببوا في إيذائي، أنا أحدد شخصيتي ولا أسمح للآخرين بالقيام بذلك، أنا أفي بالوعود التي أقدمها لنفسي، أنا أحمي صحتي النفسية والعاطفية، أنا لا أخون الآخرين، أنا أقول الحقيقة…

واحترام نزاهتنا وحمايتها ليس أمراً سهلاً، حيث إن المبتزين يشوشون على نظام الإرشاد بداخلنا عن طريق إحداث ارتباك وجلبة، وبينما يفعلون ذلك، نبدو كأننا نفقد التواصل مع جوانب المعرفة داخلنا، فإذا بنا نوبخ أنفسنا حين ندرك أننا استسلمنا مرة أخرى، والابتزاز العاطفي يتركنا مشحونين بالمشاعر المتأججة المكبوتة، وكما يقول صلاح الراشد فإنك إذا خضعت للابتزاز العاطفي فاستعد للمزيد منه.

وعندما لا نحمي أجسادنا، فهي ترسل لنا إشارة من خلال الألم لكي ننتبه، ونحن نعرف أن الاستسلام للابتزاز العاطفي يجعلنا نخون أنفسنا واستقامتنا، لكننا نميل إلى التغاضي عن الطريقة التي قد نخون بها من نهتم بأمرهم وذلك عن محاولة تهدئة المبتزين أو تجنب النقد.

والابتزاز العاطفي يمتص الأمان من العلاقة، ونعني بالأمان حسن النية والثقة وهما العنصران اللذان يتيحان لنا أن نكشف عن أنفسنا لشخص ما دون الخوف من أن تتم معاملة أفكارنا ومشاعرنا العميقة باهتمام ولا شيء غير ذلك، أما هذان العنصران وما سيتبقى فهو علاقة سطحية خالية من الصراحة العاطفية التي تمكننا من أن نكون على سجيتنا مع الطرف الآخر.

ومن الكلمات التي تقوي تحملنا للابتزاز “أنا أستطيع التحمل”، وربما تبدو تلك الكلمات الثلاث غير مهمة، لكن إذا تم استخدامها استخداماً صحيحاً، يمكنها أن تصبح أحد أسلحة مقاومة الابتزاز العاطفي، وهي ذات فاعلية لأنها تعارض اعتقاداً يقودنا للموافقة على طلبات من يبتزوننا، وهي فكرة أننا لا نستطيع تحمل الضغط.

فاسأل نفسك هل تقول هذه الكلمات عندما تتعرض للابتزاز؟

أخبر نفسي بأن الاستسلام ليس بالأمر الجلل.         
أخبر نفسي بأنه لا بأس أن أستسلم إذا كان ذلك سيدفع الشخص الآخر لأن يسكت.         
أخبر نفسي بأن ما أريده خطأ.   
أخبر نفسي بأن الأمر لا يستحق أن أخوض معركة.
سأستسلم الآن لأنني سأتخذ موقفاً لاحقاً.     
أخبر نفسي بأنه من الأفضل أن أستسلم على أن أؤذي مشاعر الطرف الآخر.        
لا أدافع عن نفسي. أفقد قوتي.   
أقوم بأشياء لأرضي الآخرين وأصبح مرتبكاً بشأن ما أريده. أذعن.          
أتخلى عن الأشخاص والأنشطة التي أهتم بها لإرضاء المبتز.

فاستبدل التصريحات القديمة بالجديدة لتتخلص من الابتزاز:

القديم: “أنا أخبر نفسي بأن ما أريده خطأ”    
الجديد: “سأطلب ما أريده، حتى إذا غضب المبتز”

القديم: “سأستسلم الآن لأنني سأتخذ موقفاً لاحقاً” 
الجديد: “سأتمسك برأيي وأتخذ موقفاً الآن”

القديم: “أقوم بأشياء لأرضي الآخرين وأصبح مرتبكاً بشأن ما أريده”
الجديد: “أنا أقوم بأشياء لأرضي نفسي وكذلك الآخرين، وأنا واضح بشأن ما أريده”

فأنا أقاوم الابتزاز العاطفي وأشعر بالقوّة والثقة والفخر والبهجة.

وعندما تتعرّض للابتزاز، فتوقف كأن تقول للمبتز “لا أستطيع أن أجيبك الآن، أحتاج لبعض الوقت للتفكير”، وراقب، وبمجرد أن تفصل نفسك عن دراما الابتزاز، تصبح في موضع يتيح لك جمع المعلومات التي تساعدك على تحديد الطريقة التي سترد بها على المبتز، وخلال الوقت الذي اكتسبته لاتخاذ قرارك، ستحتاج إلى أن تصبح مراقباً على نفسك وعلى الطرف الآخر، وعند تحليلك للموقف فإنه سيقع ضمن ثلاثة حالات وهي إما أنه ليس بالأمر الجلل، أو أنه يحتوي على مسائل مهمة، ونزاهتك على المحك، أو أنه يتضمن إحدى مسائل الحياة الرئيسية، والاستسلام أو الاستسلام سيلحق الضرر بالآخرين.

وضع استراتيجية، وهناك أربع استراتيجيات لوقف الابتزاز العاطفي وهي التواصل غير الدفاعي، وعمل تحالف مع الخصم، والمقايضة، واستخدام الدعابة، فلنوقف الابتزاز العاطفي من عالمنا ولنخلق جواً نظيفاً لكنه جو متفتح ولا يخدعنا أحد فيه.

فقانون الابتزاز العاطفي هو التحدي، ولن أقبل شعرة ابتزاز، ولن أقبل أكون تحت رحمة المبتز، لأنني إن واجهت خطئي أهون عليّ من أعيش باقي عمري تحت الاستفزاز، لأنه لن يتوقف إلا بتحديه، فتخلص من ضباب العواطف.

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!