في الوقت الذي ينشغل “الكفّار” وتلسكوبهم “جيمس ويب” بالبحث عن مجرّات وكواكب أخرى، وحضارات وحيوات أخرى غير البشرية التي نعرفها، ويتقصّون عمر الكون، وكيف بدأ، تنشغل تلفزيوناتنا وبجهد واضح، وعمل حثيث، على إنجاز برامج طبخ تبث تقريباً على مدار الساعة، فكلما انتهت محطة فضائية عربية من برنامج طبخ بدأ “شيف” آخر على محطة أخرى برنامجه، بحيث يظل “المحتوى المعرفي الساخن والطازج” متواصلاً على مدار الليل والنهار!
بالمصادفة وبداعي الضجر كنت أشاهد إحدى القنوات ضحى الأربعاء، وكانت تبث برنامج طبخ، من هذا النوع الحديث الذي ترافق فيه مذيعة الشيف لتشجعه، وتقرأ له رسائل المشاهدين والمشاهدات، وحماستهم لخبراته العظيمة. لكن المفاجأة كانت حين نهضتُ لشأن قصير وعدت بعد دقيقتين، لأجد أن برنامجاً جديداً، مع شيف جديد ومذيعة أخرى، بدأ مباشرة ودون أي فاصل بين البرنامجين!
بل ربما أن الشيف الجديد استخدم ما بقي من خضراوات و”زيت قلي” تركها خلفه الشيف السابق!
تأكدتُ مراراً أن أحداً لم يُغيّر القناة، لأنه من غير المعقول ولا المنطقي ولا “المهني” أن تبث المحطة برنامجين متتاليين عن الطبخ في الساعة ذاتها، وإن كانت مكتبة المحطة خالية لهذا الحدّ، ودورتها البرامجية فقيرة وهزيلة لهذه الدرجة، فكان يمكن الاستعانة ببرنامج من الأرشيف عن الغابات أو الحيوانات أو محاربة التدخين أو عن الفقراء الذين لا يجدون ثمن المانجا أو التين الذي استخدمه الشيف في إعداد السلطة.. وقد سمعت أن ثمن الكيلو الواحد منه 8 دنانير!
(للعلم صحن السلطة تكون من التين والخس والمانجا وجوز عين الجمل وجبنة فيتا والرمان وزيت الزيتون، يعني بكلفة 15 ديناراً على الأقل. مع ترداد الشيف جملته الشهيرة التي بلا معنى: مو جايبين شي من برا! كله من البيت!! على أساس أن بيوت الأردنيين لا تخلو من هذه الأشياء).
لا أعرف إن كان العرب قد اكتشفوا المطبخ حديثاً، لأنه لا شيء يبرر هذا الانبهار بالطبخ إلى هذا الحدّ، وهذه الحماسة السخيفة التي تظهر بها مذيعات يتحدثن عن طبخات لم يسمع بها ثلثا الأردنيين ولم يذوقوا مكوناتها منذ سنوات!
لكن الواضح أن برامج الطبخ الكثيرة، التي لا تعدّ، ليس هدفها تعليم الناس الطبخ لغايات الأكل، فالموضة الآن ليست الأكل بسبب إسكات الجوع، بقدر ما أصبح الناس يطبخون لينشروا صور موائدهم ومطابخهم على “وسائل التواصل الاجتماعي”. فالكاميرا صارت ركناً أساسياً في الطبخ والمطبخ، قبل وأهمّ من زيت القلي أو تقلية البصل والثوم!
صار المنظر، والصورة، وشكل الطبق النهائي، هو الهدف، حتى لو كان غير صالح للأكل، فالمهم أنه صالح لـ”الانستغرام”، والأهم أن يجمع الألوان الزاهية، وقطع الفاكهة الملونة، و”الفليفلة” التي يجب أن تتكون من ثلاثة ألوان!
لكن لا أحد يكترث لنصف المشاهدين أو أكثر الذين لا يملكون ثمن صحن الفول للإفطار، وإن جازفوا بشراء كيلو “تين” أو ثلاث حبّات من الرمان فلن يضعوها بالتأكيد في صحن سلطة يوضع كإكسسوار إلى جانب “الطبق الرئيسي”!!
هذه السياسة الإعلامية تبدو وكأن من يديرها “مستشرقون”، لا يعرفون شيئاً عن وضع البلد، ووضع الناس، وعن أطباقهم الفقيرة وأولادهم الذين يباتون دون عشاء.
الأردنيون بحاجة لأن يتعرَّفوا على بعضهم.