طيب جبار: فلسفة القصيدة هي اغتراب الإنسان في المجتمع
[wpcc-script type=”6eaf5bb9fbe0b22b8d9138c0-text/javascript”]
يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري، أن الشعر هو ما لا انتهاء لما يعنيه وقد يكمنُ سرُ الشعرِ في ما يحتويه من معانِ ودلالات مُتعددة، وثورته على اللغة العادية وارتياده آفاقا مجهولة، لأنَّ الشعر مجهول يبحثُ عن مجهول، على حد قول محمد علي شمس الدين، لذا لا يمكنُ الاستغناء عن الشعر طالما معرفة ذاك المجهول تراود الإنسان. فكانت الأسبقية في الأدب الكردي كغيره من الآداب الأخرى للشعر، فبرزت أسماء شعرية أغنت اللغة بإبداعها، فالشاعرُ طيب جبار من الأصوات الشعرية التي حافظت على خصوصيتها، إذ يكتبُ الشعر ليحتفي بالذات بعيدا عن الصخب والعبارات المشحونة بالنفس الأيديولوجي، وهذا ما لفت نظر النقاد إلى إبداعه الشعري، إذ نشرت دراسات عديدة عن مجاميعه الشعرية التي ترجمها الناقد عبد الله برزنجي إلى اللغة العربية، كما صدرت مؤلفات نقدية حول تجربة الشاعر منها «رائحة الالتفات»، «المرشد إلى الظلام».
■ من الهندسة انتقلت إلى الشعر ولم يعد لديك اهتمام بمجال اختصاصك إلا بالقدر الذي يعزز عندك الذائقة الأدبية، هل أصبحت مقتنعا بأن كل الوظائف مدمرة للروح بأستثناء الشعر؟
□ عفوا، أنا من الشعر جئتُ إلى الهندسة. كنت أكتب الشعر قبل أن اصبح مهندسا، أو حتى قبل أن أكون طالبا في كلية الهندسة. بدأت كتابة الشعر في بداية سنة 1970، واصبحتُ طالبا في كلية الهندسة أواسط سنة 1972 وتخرجت سنة 1976. عندما بدأت كتابة الشعر لم تكن الهندسة من اهتماماتي، ولم أفكر فيها، ولكن كنت مهتما بالرسم الزخرفي، أي أن الشعر داهمني قبل الهندسة، وكنت أكتب الشعر خلال دراستي الجامعية وبعد التخرج أيضا. نعم الوظائف والمهن مدمرة للروح إلى حد كبير، إذ تُبعدك عن مدار اهتماماتك الذاتية، ومن خلال ممارستي للهندسة كمهنة توصلتُ إلى قناعة أن هناك مشتركات بين الشعر والهندسة، الشعر فن، كذلك الهندسة علم وفن، كلاهما يحاولان خلق صورة جديدة، إذا كانت أداة الشعر هي الكلمة فإنّ أداة الهندسة هي المواد الطبيعية، الشعر يخلق صورة معنوية تمنحك المتعة والدهشة، والهندسة بدورها تقدمُ صورة مادية ماتعة ومُفيدة. الشعر يتعامل معنويا مع كافة مفردات الطبيعة والإنسان بواسطة اللغة، لخلق الصورة الجديدة وتوفير المتعة والإدهاش والسعادة الروحية، الهندسة تتعامل على المستوى المادي مع المُعطيات الطبيعية.
■ استعادة الذكريات ركن أساسي في موضوعاتك الشعرية، ويبدو هذا واضحا في مجموعتك «ذات الزمــــان.. الظــلام كان أبيض»، هل أن معظم الشعراء لا يجيدون خارج الشعر مساحة أخرى لسرد ذكرياتهم؟
□ هذا رأي أكثرية النقاد والمفكرين بأن المصدر الرئيسي للإبداع هو الخيال والذاكرة، وكلاهما يلعبان دورا مهما لديّ في خلق الصورة وكتابة الشعر. إذا كانت (العبقرية هي استعادة الطفولة قصدا) كما يقول بودلير، فإن الشعر هو أيضا كذلك، بالتأكيد الذاكرة هي موئل الإبداع، وأنا أستعيدُ سنوات الطفولة والبراءة والطبيعة الخلابة المتغيرة خلال الفصول الأربعة لقريتي القريبة من مدينة كركوك، الواقعة في منطقة سهلية محاطة بالهضاب والتلول والوديان والينابيع، فإن مكونات هذه البيئة بكل أشكالها تُرافقني وصورها تنبضُ في ذاكرتي. أعتقدُ أن مُحترف الشاعر هو ذاكرته ومخيلته لابتكار صور بديعة وبريئة ودافئة، تخلق الدهشة والإعجاب والفرح لدى المتلقي. نعم الشعراء يحبون سرد ذكرياتهم من خلال الشعر وليس السرد النثري.
الشعر يخلق صورة معنوية تمنحك المتعة والدهشة، والهندسة بدورها تقدمُ صورة مادية ماتعة ومُفيدة
■ بخلاف مجايليك من الشعراء تغيب قصائد تعبوية في نتاجك الشعري، كيف خرجت من أطر هذه الأنماط الشعرية التي راجت لمدة غير قصيرة؟
□ أنا لديّ قصة غريبة مع الشعر، قصتي تنقسم إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى (1970-1987) التي ضاعت أكثر قصائدي التي كتبتها في تلك المرحلة بسبب الظروف السياسية والنضال الكردي المسلح خلال تلك الفترة. المرحلة الثانية (1987-2008) وهي فترة التوقف عن كتابة الشعر، ولكن لم أتوقف عن القراءة في مجالات متنوعة، مع الاهتمام الأكبر بالشعر، كما دأبتُ على نشر دراسات ومقالات نقدية عن الأدب والشعر والهندسة. المرحلة الثالثة (2008- إلى الآن) وهي مرحلة العودة مرة أخرى إلى كتابة الشعر، ولكن بصورة مختلفة عن قصائد المرحلة الأولى وبأسلوب مُغاير لما كان سائدا في المشهد الشعري آنذاك. واستنفدت القصائد التعبوية رصيدها لذا فمن الطبيعي العودة إلى الهموم الإنسانية والجمالية والفردانية. إنَّ جُلَّ القصائد التي كتبتها في المرحلة الأخيرة والمترجمة إلى اللغة العربية تختلف عن قصائدي السابقة، وحاولت الخروج من النمطية. ولستُ ضمن المشهد الشعري السائد وهم يعترفون بذلك.
■ عندما تكتب قصائد سياسية تختار أسلوبا تهكميا، ألا توجد طريقة أخرى لمقاربة موضوع السياسة غير التهكم والسخرية اللاذعة؟
□ جميع قصائدي في المرحلة الاولى تقريبا قصائد سياسية وتعبوية مؤيدة للكفاح التحرري الكردي، جمعتها في ديوان واحد باسم «مرثية الرماد». أما في المرحلة الأخيرة فإن قصائدي بعيدة عن السياسة نوعا ما، رغم أن السياسة في العراق وكردستان العراق تطرق أبوابنا يوميا، مهما حاولنا الابتعاد، وأن لا نفتح الباب فتدخل من الشباك، لذلك دخلت السياسة بعض قصائدي عنوة، مثل قصيدة «دعاية انتخابية» في مجموعة «ذات زمان .. الظلام كان أبيض» حيث القصيدة على شكل قوائم حزبية مشاركة في الانتخابات، ولكن بصور وجمل شعرية جمالية بعيدة عن السياسة، وفيها نوع من التهكم والسخرية من الأحزاب والانتخابات، حيث تجتمع جميع القوائم في المقطع الأخير في قائمة واحدة (الكل)، الكل يرددون الشعارات الجوفاء والتعهدات الفارغة. أنا لا أحب أن أكتب قصائد سياسية مباشرة تحمل شعارات وأفكار مستهلكة.
■ يجول شبح الموت في فضاء قصائدك وأنت تتخيل سيناريو اللحظة التي تنتهي فيها أيامك، وما تتوقعه يوحي بمشاهد آخروية. لماذا استباق هذا الموقف مستبصرا حيثياته، هل الدافع هو الرغبة لسرد حدث لا يمكنك سرده حين يقع؟
□ إن شبح الموت موجود لدى أكثرية الكتاب والشعراء لجميع الشعوب قديما وحديثا، لأن الموت يقين وحيد وحقيقة خالدة وأنا لا أشاطرك الرأي بأن الموت يجول في أجواء قصائدي، لأنني بصراحة لا أفكر كثيرا بالموت لحد الآن، مازلتُ أرى نفسي شابا نشيطا رغم تقدم العمر، وإن قصيدتي الطويلة المشهورة «يوم أموت» تتحدث عن يوم مماتي وماذا يحدث في ذلك اليوم وليس الموت، وإن فلسفة القصيدة هي اغتراب الإنسان في المجتمع الذي لم يكن ولن يكون وفيا معه، رغم ما قدمتَ له من التضحيات، فيوم موتي مكونات وظواهر الطبيعة تبكي وتتأسف على رحيلي وتقيم لي مراسم الدفن والعزاء وليس الإنسان.
■ المباغتة الناشئة من المفارقات اللغوية وإعادة ترتيب العلاقة بين الكلمات هي ما تستأثر بنصوصك الشعرية. من أين تأتي هذا الرغبة لنزع الصفات المألوفة من المعطيات وتقديمها في صيغ وعبارات مغايرة؟
□ الإبداع هو خلق شيء جديد لم يكن موجودا، والشعر لا يكون شعرا بدون خلق أواصر جديدة بين الكلمات، سواء بالمفارقات اللغوية أو إنشاء علاقات جديدة بين الأشياء الحسية وظواهر الطبيعة والعلاقات الإنسانية وتحويل المألوف إلى غير المألوف وبالعكس، ناهيك عن ضرورة خلق لغة جديدة بموازاة لغة متداولة، فالشاعرُ يستمدُ مواده اللغوية من قراءاته المُتشعبة ومشاهداته اليومية. وإذا لم ينجح الشــاعرُ في تثوير اللغة بناء على مخزونه الثقافي، لا يتمكنُ من تقديم شيء مُختلف فبالتالي لن تكون صوره الشعرية جديدة، بل تبدو فارغة من عنصر اللذة والدهشة والإعجاب لدى المتلقي.
وكما قلتُ سابقا فأنا اعتمد على ذاكرتي ومخيلتي في كتابة قصائدي، لذا ترى أن قصائدي مختلفة وأعتمد كثيرا على الصور غير الواقعية الميتافيزيقية، التي تتجسد بسهولة في ذهن المتلقي وليست الصور الغامضة المعقدة، ولا أعتمد على الأفكار والطروحات والشعارات الواقعية المستهلكة.
■ لا تنحصر قراءاتك في المجال الشعري فقط، بل تتابع الرواية أكثر من الشعر. ماذا يضيف فن الرواية إلى أفق الشعر؟
□ نعم أنا أقرأ الرواية وأتابعها، وكذلك أقرأ في مجالات عدة، خاصة في مجال النقد الأدبي والتاريخ والفلسفة، قراءاتي متنوعة، كل هذه الروافد، خاصة الرواية قد لا تكون عناصر أساسية لديّ لكتابة الشعر، وإنما أستطيع أن اعتبرها عوامل تمدني بأجواء صافية تساعدني للدخول إلى كهف الشعر. في رأيي أن الشعر ليست له مصادر كتابية أو هوامش توضيحية، بل هو إلهام وإشراقات تأتيني في مواعيد وأماكن غير محددة، وإن بعض انطباعاتي اليومية وحواراتي مع الناس غالبا ما تكون نواة تنبثقُ منها الصور والقصائد، علاوة على الدور الرئيسي للمخيلة والذاكرة.