ظاهرة مَرَضَيّة في نشأة الجماعات

جماعات الدعوة كثيرة، ونشأة جماعات جديدة سمة بارزة من سمات الدعوة المعاصرة، وتكوّن جماعات للدعوة ليس خطأ ولا مرضًا، فالدعوة تحتاج إلى جهود كثيرة متنوعة، ولا يمكن لمؤسسة رسمية أو مؤسستين، أو جماعة أو جماعتين أو ثلاثة فقط ...

جماعات الدعوة كثيرة، ونشأة جماعات جديدة سمة بارزة من سمات الدعوة المعاصرة، وتكوّن جماعات للدعوة ليس خطأ ولا مرضاً، فالدعوة تحتاج إلى جهود كثيرة متنوعة، ولا يمكن لمؤسسة رسمية أو مؤسستين، أو جماعة أو جماعتين أو ثلاثة فقط القيام بمسؤولية الدعوة وتغطية جميع متطلباتها، بل لا يمكن للمؤسسات والجماعات وحدها أن تغطي حاجات الدعوة دون وجود دعاة مستقلين غير منتمين لجماعات، وذلك لتنوع ساحات الدعوة واختلاف البيئات والظروف.
لكن هناك ظاهرة مرضية وغير صحية في تكوّن الجماعات الدعوية ونشأتها، هي أحد أسباب التنازع والشقاق بين الجماعات العاملة في ساحة الدعوة، وأحد معوقات الصحوة والنهضة الإسلامية عموماً، هذه الظاهرة هي تكوّن أكثر جماعات الدعوة المعاصرة، على مدى العقود الخمسة الماضية، لأسباب غير مقبولة ونشأتها بصورة غير صحية، وعلى الرغم من ذلك كبر عدد منها حتى صار تياراً، ومنها ما صار تنظيماً، ومنها ما كان محدود الانتشار، وهكذا تعددت الجماعات والتيارات والاتجاهات الدعوية المتضادة .
ومع إحسان الظن بحقيقة النيات، والتقدير الكبير لكل من بذلوا ويبذلون جهودهم في الدعوة الإسلامية؛ فإن الخلافات والمنازعات، وكثرة توالد الجماعات المتضادة في الساحة الدعوية أمر لا يستطيع أحد إنكاره أو التهوين من شأنه، بل أعداؤنا يعرفون مدى ما وصلت إليه الساحة الدعوية من تمزق، ومن أشهر من سجل ذلك ريتشارد هرير دكمجيان في كتابه (الأصولية في العالم العربي)، ولا سيما في طبعته الثانية عام 1995م، والتي قام فيها بدراسة 108 جماعات إسلامية.

ولن يحار فكرك في كشف أسباب ظهور أغلب الجماعات؛ لأنها غالباً لا تتعدى الصور الآتية:

– نشأة جماعة بسبب شخصية بارزة:
حيث يبرز شخص له صفات قيادية قوية، ويتمتع بمهارات عالية في الإقناع، فيلتف حوله أشخاص معجبون به وبقدراته الخطابية على رغم قلة باعه في العلوم الشرعية، ثم تنشأ الجماعة!

– نشأة جماعة بسبب كتاب:
تنشأ الجماعة هنا بعد قراءة شخص أو أشخاص لكتاب، فيعجب به لما يرى فيه من براعة في تحليل الواقع، وطرح الحلول لأزمات المسلمين، فيصبح الكتاب هو قبلة الجماعة لا يرون فكراً غير فكره، ولا حلولاً غير حلوله لمشكلات الأمة، ولا منهجاً غير منهجه!

– نشأة جماعة رد فعل لما تراه أخطاء لجماعة أخرى:
فهناك العديد من الجماعات التي نشأت بسبب أن شخصاً رأى جماعته الأم قاصرة عن تحقيق الأهداف، أو وقعت في ما يراه أخطاء لا تُحتمل، أو بسبب نزاعات داخلية شخصية أو دعوية، وهكذا.. أخطاء لدى جماعة من الجماعات يحدث رد فعل لدى بعض أتباعها، فينشقون ويكونون جماعة، ولو اقتصرت الجماعة الجديدة على اتخاذ منهج آخر في الدعوة لعلاج قصور أو خطأ لهان الأمر، ولكنها تنشق لتكون جماعة مضادة، لا همّ لها سوى أن تكون مخالفة للجماعة الأولى.
هذه أغلب صور نشأة كثير من جماعات الدعوة، وهي نشأة غير صحية لأنها قائمة على أسباب لا تتصل بواقع الدعوة وأهدافها الحقيقية، كما أنها في الغالب أسباب لا تقوم على أساس علمي مدروس، ولذلك يكثر وقوع كثير منها في الانحرافات والأخطاء بسبب القصور الشديد في العلوم الشرعية، ولذلك لم تقم تلك الجماعات ولا تقوم غالباً إلا بدورين:
المواجهة مع الجماعات الأخر والدخول معها في حروب كلامية وفكرية، والمواجهة مع السلطات، أو التعاون مع بعضها ضد الجماعات الأخر، والنتيجة منح أعداء الدعوة فرصة يستغلونها لتشويه الدعوة والدعاة ومحاربتهم، وتضييع الجهود والأوقات بعيداً عن تعليم الناس الدين والعمل على هدايتهم، وحمايتهم من الانحراف والفساد.
كما أن تلك الأسباب في نشأة الجماعات يترتب عليها أمراض كثيرة وآفات عظيمة تأكل الأخضر واليابس في ساحة الدعوة، وتمزق روابط الأخوة، وتقطع التناصح والتراحم بين المسلمين، ولو ألقينا نظرة فاحصة لكثير من الجماعات العاملة في الدعوة، ولواقع الدعوة عبر العقود الخمسة الماضية في العالم الإسلامي؛ فسنرى تلك الآثار الخطيرة للنشأة غير الصحية لتكوّن الجماعات:
– أن تلك الجماعات التي نشأت نشأة غير صحيحة تسعى لتحقيق مكاسب خاصة، تتمثل في تكثير الأتباع، والدعوة لمنهج الجماعة لا نشر الإسلام بدرجة أولى.
– أنها تتنافس على المنتمين القدامى غالباً، فالجماعة الجديدة سواء كانت منشقة أو غير ذلك، تسعى أولاً لضم أعضاء جدد من أعضاء الجماعات الأخر.
– أن كل جماعة تدّعي أن الحق معها وحدها، وأن الآخرين على ضلال مبين.
– أن كل جماعة تربي أتباعها على عداء الجماعات الأخر، وشحن نفوسهم ببغض الآخرين وتنقيص قدرهم وتسفيه عقولهم وتخطئة مناهجهم.
– أن جهود الجماعات الدعوية يضيع أغلبه في تحقيق ما سبق، وفي التنافس مع الجماعات الأخر والنزاعات الداخلية والخارجية، ولا يتبقى لدعوة العامة ونشر الإسلام وتعاليمه ومقاومة تيارات التغريب والإلحاد والفساد غير القليل من الوقت والجهد.
– أضف إلى ذلك تصدير النزاعات التاريخية بين الجماعات الدعوية إلى خارج بلد المنشأ، فترى الصراع التاريخي موجوداً لدى أتباع الجماعات في بلاد مثل إنجلترا وأمريكا وغيرهما من الدول، وذلك في أماكن الدراسة والمساجد، بل انتقل الصراع إلى الإعلام في الصحف ومنتديات الشبكة العالمية الإنترنت.
– أضف إلى ذلك أن الصراع يظل متوارثاً حتى في أجيال ولدت بعد ظهور أسبابه بسنوات.
ولا حاجة بنا إلى ضرب أمثلة فالواقع طافح ومليء بها.

إن نشأة الجماعات بهذه الأسباب لا يؤدي فقط إلى تأخر الدعوة، بل يؤدي إلى ارتكاب المنكرات، والوقوع في المحرمات، فمع وجود التنازع جراء الأسباب السابقة تُستباح الغيبة، ويكثر البهتان، ويظهر قول الزور، ولو شئت فنظرة واحدة في بعض المنتديات على مواقع الجماعات تكفيك لتدرك مدى ما وصلت إليه نفوس كثيرين من تعصب وتباغض وتجرؤ على تسفيه الدعاة واتهامهم والتحذير منهم لأنهم من جماعة أخرى، وقد لا تصدق مدى ما يصل إليه العداء، وإهدار حقوق الأخوة الإسلامية لو قرر بعض المنتمين لجماعة من الجماعات انتهاج منهج آخر في الدعوة، أو رأى توجيه نفسه لما يراه نافعاً لنفسه وللمسلمين بطريقة مستقلة. كل هذا وغيره يجري تحت ما تزينه كل جماعة لنفسها باسم مصلحة الدعوة وحماية الجماعة ومواجهة أعداء الدعوة.

إن كثيراً من الجماعات ولا سيما الجماعات الصغيرة قائمة على هذه الأسباب المرضية، بل يستمد كثير منها وجوده من تفعيل هذا السبب دوماً لأنه أصل وجود الجماعة، فالجماعة التي قامت بسبب نزاع في الرأي تجدها دوماً تحافظ على وجود سبب النزاع وتعظّم فيه، فلذلك يكون نقد الجماعة الأخرى منهجاً ثابتاً يتم تلقينه للمنتمين الجدد، والجماعة التي نشأت بسبب الإعجاب بكتاب تراها تقدس ذلك الكتاب، وتقدمه على كل قول وفكر ورأي، وتربي عليه أتباعها، والجماعة التي قامت على أساس الإعجاب بشخص تراها تمجد هذا الشخص وتربي أتباعها على الولاء له حياً وميتاً، لا تقبل له نقداً أو معارضة ففكره فوق كل فكر ورأيه فوق كل رأي.. إنها مأساة وأزمة دعوية خطيرة!

كفى الدعوة زمناً ضاعت فيه الجهود وأهدرت الأوقات في صراعات غير مسوّغة ولا مقبولة شرعاً، وكفى الدعاة زمناً سيطرت فيه على كثير من أعمالهم الدعوية ألوان من الهوى والتعصب وحب الزعامة والغرور.

ولا يقع اللوم على الذين ينشؤون جماعات لسبب من الأسباب المرَضية السابقة وحدهم، بل يقع أيضاً على عاتق الجماعات الأولى أو الأم، لأن جمود تلك الجماعات على فكر إداري واحد للدعوة والدعاة، وضيقها بالمخالف، والتعصب لمنهج لا يرون الحق إلا من خلاله؛ هو سبب من أسباب تنازع الدعاة وتفرقهم، لأن الجمود في إدارة الدعوة والمناهج الدعوية يؤدي إلى تصادم لا محالة مع الواقع المتجدد للساحة الدعوية، وما لم يحدث تطوير مستمر وإدراك لمتطلبات الواقع المتغير، وتحقيق لصفة المرونة في إدارة الدعوة والمناهج الدعوية؛ فسوف تنشطر الجماعة إلى جماعات متناحرة يهلك بعضها بعضاً.

وما حاجة المسلمين إلى جماعة يكون كل همها إثبات أن الجماعات الأخر على ضلال وبذل الجهد الكبير لإثبات ذلك، واتخاذ التحذير من عدد من الكتب أو المؤلفين هدفاً رئيساً للدعوة تُفرد له الخطب والمحاضرات والكتب والرسائل! ولا أدري ما الفائدة التي سوف تعود على المسلمين والإسلام من جماعة تنشأ رد فعل لنزاعات شخصية بين الدعاة! غير زيادة عدد الجماعات المتهارشة، وإحداث الفرقة بين المسلمين، وإشغالهم بما لا طائل تحته من الناحية العملية.

إن الدعوة لها قداستها وخطورتها، فهي عمل الأنبياء _عليهم السلام_، ولا ينبغي لأحد أن يقتحم ساحتها إلا بهدف الدعوة إلى الله، ولا ينبغي لأحد أن يُقدم عليها إلا على بصيرة، قال _تعالى_: “قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” [يوسف: 108]. أما أن تكون تلك الأسباب المرَضية هي الأساس لتكوين الجماعات، بهدف التجميع وتكثير الأتباع، وجر الشباب إلى نزاعات وخصومات، وشغلهم بأفكار خاصة وتصورات شخصية أعجبت صاحبها؛ فهذا يعني التمزق والتفرق، والإخفاق الذريع والسقوط المريع، في هذه المرحلة العصيـبة التي تمر بها الأمة الإسلامية وهي في أشد الحاجة إلى نشر الإسلام، وتحبيب الناس فيه، وجمع الصفوف، وتأليف القلوب، قال _تعالى_: “وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” [آل عمران: 105].

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *