عام كورونا استعاد التّلفزيون من بوابة الموت: (سوبر تلفزيون) على قياس سوبرمان نيتشه

المتابعون لصناعة التلفزيون خلال العقد الماضي (2011-2020) وكأنهّم يتابعون «سرد أحداث موت معلن» ـ على غرار اسم رواية ماركيز الشهيرة -. إذ مع الصعود المتعاظم لشبكات التّواصل الاجتماعي، وانتشار أجهزة الهواتف الذكيّة وتكاثر منصّات البث الرقمي عبر الإنترنت (نتفليكس وأخواتها) كانت الشاشة الفضيّة تفقد رويداً رويداً مكانتها التي تبوأت خلال الخمسين سنة الأخيرة على عرش […]

عام كورونا استعاد التّلفزيون من بوابة الموت: (سوبر تلفزيون) على قياس سوبرمان نيتشه

[wpcc-script type=”98e85c1354a81684e0020818-text/javascript”]

المتابعون لصناعة التلفزيون خلال العقد الماضي (2011-2020) وكأنهّم يتابعون «سرد أحداث موت معلن» ـ على غرار اسم رواية ماركيز الشهيرة -. إذ مع الصعود المتعاظم لشبكات التّواصل الاجتماعي، وانتشار أجهزة الهواتف الذكيّة وتكاثر منصّات البث الرقمي عبر الإنترنت (نتفليكس وأخواتها) كانت الشاشة الفضيّة تفقد رويداً رويداً مكانتها التي تبوأت خلال الخمسين سنة الأخيرة على عرش وسائل الإعلام. وهي تلقت ضربة كادت تكون قاصمة في النصف الثاني من العقد الحالي بعدما تبيّن دور القنوات الكبرى في تلفيق ونشر الأخبار الكاذبة على نحو أفقدها ثقة مشاهديها وأكسبها نقمتهم، حتى أن بيل غيتس – مؤسس مايكروسوفت – ذهب إلى حد وصف التّلفزيون بالواقف على عتبة بوابة الموت، وأنها مسألة وقت وجيز قبل أن تطيح به تطبيقات التكنولوجيا الجديدة إلى هاوية التاريخ الممتلئة بالأجهزة والمعدات والأفكار التي كان لها يومها ثمّ غابت.
عام «كورونا» – الذي نودعه اليوم دون أن نودع معه الفيروس المُعولّم، خلط كل الأوراق، بعدما دفعنا جميعاً إلى العزلة وفرض علينا طرائق جديدة لناحية العمل والتعلّم والترفيه والتسوّق وغيرها، حتى كاد معظمنا يتحوّل إلى رحالة يقضي نهاره بالتنقّل عبر غرف صحراء الفضاء السيبيري القاحلة. في هذه العزلة – التواصليّة اعتدنا التعامل مع كاميرا صغيرة لتصبح بوابتنا على العالم، وأتعبنا ونحن في منازلنا التنقّل بين الأجهزة (كمبيوتر، هاتف ذكيّ، تلفزيون، آيباد، ..) وبين التطبيقات المختلفة (مؤتمرات، أخبار، موسيقى، قراءة، غوغلة، وتواصل اجتماعيّ..) وتضاعف زمن جلوسنا أمام الشاشات (على تنوعها) بمقدار الضّعف – كما لاحظت دراسة ألمانيّة حديثة -. في هذا الوقت تحديداً تقاطعت الطرائق الجديدة – الأشبه بالتحضيرات – بحكم الواقع الموضوعي المحض مع التقدّم المضطرد في قدرة التكنولوجيا الحديثة على اجتراح الحلول الإبداعيّة، لتنقل التّلفزيون من ضيق جهاز يقبع في حيّز التواصل الأحادي التوجه إلى اتساع فضاء تفاعليّ عريض النطاق، متعدد الوظائف، ثلاثيّ الأبعاد، قادر على منح المستخدم إشباعاً شخصيّاً مصمَم على قياس الفرد وحاجاته ومزاجاته.

كما سوبرمان نيتشه، لقد أتى عصر السوبر – تلفزيون

تماماً كما كان توّقع الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه بأن نجاة البشر من فنائهم المحتّم وتفاهة وجودهم لا تكون سوى بارتقائهم إلى مرتبة أعلى – السوبرمان كما ترجمها الأنغلوفون وإن كان المعنى بالألمانيّة لغة نيتشه مختلف بعض الشىء – فإن عودة التلفزيون من الموت ليحيا ستكون عبر ترقّ وترفيع وتحوّل بنيوي إلى وسيلة فائقة الكفاءة، تشبه في تفوّقها أجهزة الهواتف الذكيّة الحاليّة مقارنة بهواتف القرص السلكيّة العتيقة.
السوبر تلفزيونات الآتيّة وفق توقعات خبراء المستقبليّات ستكون بمثابة عقدة تجربة العيش والتواصل اليومي ومركز لشبكة ترابط اجتماعي تفاعليّ الطابع عابر للحدود بين الخاص والعام. وحسب توقعات خبراء فإن ذلك يعني بالضرورة تحولاً شاملاً في تجربة وسائط الإعلام، إذ سينتهي تماماً حكم جداول البرمجة الزمنيّة على المشاهدين وسيكون بمقدور الأجهزة الجديدة تقديم برمجة مرتبطة بتفضيلات المستعملين لناحية المحتوى والمصدر والتوقيت. ليس ذلك فقط بل وإطلاق برامجهم الخاصة، وربما محطّات تلفزيون شخصيّة لنقل برامج مسجلّة أو حيّة مع إمكان التنقل بين عدّة اشخاص يعملون في أماكن متباعدة بما فيها هواتفهم المحمولة أو كاميراتهم الذكيّة مع ربط البثّ بشبكة الإنترنت على نحو يجعل مداه النّظري الكوكب برمتّه، وإمكان الاستعانة لحظياً بالمواد المتوفرة على الشبكة. وفي موازاة ذلك فإن إمكانية التفاعل مع (الجمهور) المستهدف ستكون فوريّة سواء عبر تواصل شخصي أو من خلال شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، الأمر الذي سيفرض على محطة التلفزيون التقليدي التحوّل إلى منتج ومستودع للمواد التي يمكن ربما لمشتركين وفق نظام ما – مجانيّ أو مدفوع – استخدامها وفق حاجتهم وتوقيتهم الشخصي.

لا صوت يعلو فوق صوت السوبر- تلفزيون

في عالم التلفزيون المتفوّق الجديد هذا ستقرر تقنيّة الأجهزة وحدها صيغة ونموذج صناعة المحتوى الذي ستبهت الحدود فيه بين المؤسسات الإعلاميّة. فمحطّة تلفزيونية مثل (سي إن إن) قد تجد لها منافساً في إنتاج المحتوى الإخباري المصّور من قبل ما نعتبره اليوم صحيفة كـ»نيويورك تايمز» مثلاً، فيما ستجد نيتفليكس ومنصات البث الرقمي على الإنترنت أن لا شيء يمنعها من توفير برامج حيّة إلى جانب أكداس الأفلام والمسلسلات والوثائقيّات التي تحتفظ بها، فيما سيختار عقل التلفزيون – أي الكمبيوتر الذكيّ الذي يديره – تسلسلاً لمواد من جميع هذي المصادر إن بقيت على استقلالها لتتناسب ومستعمل معيّن بحيث يوفّر له تفضيلاته من المواد دون الالتزام بمصدر وحيد.
وفي هذا السيّاق، ستتحول مهمّة المؤسسة الإعلاميّة تدريجيّاً إلى إنتاج المادة حصراً دون التدخّل في برمجة عرضها، وسيكون لذلك عليها مضاعفة جهودها لتقديم محتوى ذي قيمة – ومصداقيّة – بالنسبة للجمهور المستهدف بحيث يقصده المشاهد الذي يكون تحت رقابة شاملة لناحية طريقة الاستهلاك وبالتالي توفير معلومات فوريّة عن مدى وطريقة تفاعل المشاهدين مع مختلف المواد المعدّة للعرض كما ردود أفعالهم على مواقع التواصل مثلاً حول ما شاهدوه.

أكثر من مجرّد ترفيه: هنا قلب المنزل ومقر العمل

مهمّة السوبر- تلفزيون ستتجاوز المفهوم التقليدي لجهاز الترفيه ليصبح كما مركز السيطرة وإدارة بيئة الأفراد: مركز ألعاب معقّدة، ونقطة التحكم بمختلف أجهزة المكان، وبوابة تسوّق تفاعليّة، ومركز مؤتمرات فيديو متطوّر ثلاثي الأبعاد، ومقسم اتصالات ونقطة تبادل معلومات بين الأطراف المعنية المختلفة سواء سكان المنزل الواحد، أو الصف المدرسيّ الواحد أو أي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي الأخرى، ومكتبة لمواد مختلفة سواء بصريّة أو سمعيّة مقروءة، ومعزف موسيقى تناسب المزاج والوقت، وربما صديقاً افتراضياً يجيب على الأسئلة وينفّذ الطلبات، ويلعب دور المحاور الذّكي عند الحاجة. وبالطبّع فإن الله وحده يعلم ما هي التفاعلات المبدعة التي ستنتج عن اجتماع كل هذه النّوافذ الممكنة في مكان واحد ناتج هو من حيث المبدأ عن تفاعل ديالكتيكيّ غنيّ ومحمّل بالممكنات بين التلفزيون – الحالي – والإنترنت.

(السوبر تلفزيون) سيمر في ربوعنا محملاً بالعواقب

قد يصعب في الحقيقة توقع العواقب المفاهيمية والثقافيّة لوصول (السوبر تلفزيون) إلى العالم العربي، لكن الأكيد بأن فجوة معرفيّة ستتفاقم بين الطبقات القادرة ماديّاً على الالتحاق بهذه الثورة التقنيّة وتلك المعدمة، فجوة ستأخذ بعض الوقت كي يمكن ردمها، وهذا يعني على مستوى ما تعميقاً للاستقطاب القائم بين طبقات المجتمع سواء لناحية تلقي المعارف أو فرص العمل أو حتى إمكان مدّ البنية التحتيّة اللازمة للانتقال إلى الشكل الإعلامي الجديد.
إعلاميّاً فإن (السوبر تلفزيون) يحمل وعوداً باتساع مساحة الهواء المفتوح وإنتاج المحتوى العربيّ إلى نطاق غير محدود بحيث سيتسنى للعديد من الأفراد والمجموعات إطلاق محتوى بديل ومختلف وموازي دون القيود الماديّة الضخمة للإنتاج والبث التلفزيوني بصورته الحاليّة، وهو ما سيضع المؤسسات الإعلاميّة العربيّة تحت ضغوط هائلة للتنافس حصريّاً على كفاءة المحتوى ومضمونه الأيديولوجي ليناسب جمهوراً ملكاً: أمامه خيارات لا تعد – نظريّاً – ولا تحصى.
بالطبع فإن الولادة الفعليّة للـ(سوبرتلفزيون) قد تستغرق بعض الوقت، لكن الحاجة إلى خدماته – وبفضل كابوس كورونا تحديداً – تزداد إلحاحاً يوماً بعد يوم، كما أنّ التكنولوجيّات المطلوبة أغلبها متوفّرة عمليّاً أو هي ليست بعيدة أبداً عن التّبلور، ولذا فإن نافذة الوقت المفتوحة لجميع الأطراف منتجين ومستهلكين للمحتوى كي يكونوا قادرين على خوض صراع البقاء في العصر الآتي بدأت تضيق بالفعل.

 إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *