طبيعة الشر وأهله العنف والحدّةُ مع أهل الخير والدعاة إلى الله ، وتاريخ دعوة المرسلين شاهد قوي في هذا الباب ، ولو ترك الأمر لأهل الشر لما رضوا بغير إبادة الحق وأهله ، ولكي يبقى للحق والخير ذكرٌ ووجود لابد أن يكون الإيمان قادرًا على الظهور والحركة، قادرًا على المقاومة ، متصفًا بالشجاعة في جميع المواقف والتصرفات؛ فإن البواعث الضعيفة لا تجدي أمام عواصف الحقد وعرامة البطش المنبعثة من أعماق الباطل .
وإذا لم يفلح الإيمان في تكوين أسس للخير قوية التيار ، غلابة النفوذ ، شديدة النفاذ ، فلن يكسب في ميدان الحياة معركة . فلكي ينتصر الطهر وتسود العدالة لابد أن يتعلق بهما الدعاة أشد من تعلق أهل العهر بعهرهم وأهل الظلم بظلمهم. وإذا كانت هناك نفوس درجت على العسف ، وتوحشت حتى لكأنها سباع مفترسة ، فلن يغني في صدها المقاومة المستأنسة ، أو دعوة يقوم بها صاحبها على استحياء . من أجل ذلك كانت الشجاعة خلقًا أصيلاً وشيمةً لا تنفك عن الداعية إلى الله وهو يتقلب بين الناس .
يقول الله تبارك وتعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }، فكلف الله الأمة ـ لتنال الخيرية ـ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كلفها أن تكون شجاعة في حماية الدين ، وردّ العادين المعتدين على حدوده ، فإذا انخذلت الأمة عن القيام بواجبها ، وتخلت عن أداء رسالتها سقطت من عين الله ، وأوشكت أن يعمها الله بعذاب ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : [إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقدتودع منها ] ,, وإذا كان هذا حق الأمة عامة ، فإن واجب الدعاة في هذا التكليف أثقل وأعظم وأجل ؛ إذ هم جيش الإسلام وحراس الإيمان ، وحاجتهم إلى الشجاعة للدفاع عن الحق لازم من لوازم وظيفتهم ، وواجب من واجبات دعوتهم .
الشجاعة لماذا؟size=3>
يحتاج الداعية إلى الشجاعة خاصة في موطنين :
الأول : الدفاع عن الدعوة ضد أعدائها في ميادين الجهاد ، وساحات الوغى ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كنا إذا احمر البأس ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه] ( رواه أحمد ). وكم للإسلام في هذا الباب من فارس همام وبطل مقدام ، يعجز القلم عن وصفهم والحساب عن عدهم .
الثاني : الصدع بالحق والجهر به دون خوف أو رهبة ، وهنا لابد للداعية أن يتمثل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : [لا يمنعن أحدًا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذاعلمه ]، وقوله عليه الصلاة والسلام : [ سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ]، وقوله : [أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر].
فالشجاعة في النطق بالحق والجهر به سيادة وريادة وجهاد وشهادة ، وإنما تنبعث هذه الشجاعة من اجتماع خلقين عظيمين:
أولهما:size=3> إيثار ما عند الله ، والاعتزاز بالعمل له ، وتفضيل ما عنده على أعطيات المغدقين ، والركون إلى جنابه عند تجبر الجبارين ؛ فهو صاحب القهر والسلطان ، والجلال والإكرام والجناب الذي لا يضام {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير }، وهذه ثمرة من ثمار العلم بالله ، ومعرفةصفات جماله ونعوت جلاله . فمن عرف قدر ما له عند الله آثره على ما سواه ، وقدمه على من عداه، ومن صدقت صلته بربه لم يبالِ أن يفتدي الحق بعمره ، مفضلاً أن يُقتَل شهيدًا على أن يُدفَن الحقُّ ،ولا يجد من ينصفه ويشرفه ويُعلي رايتَه .
وأما الخلق الثانيsize=3> الباعث علىالشجاعة فهو : اليأس مما في أيدي الناس ، والانطلاق من قيود الرغبة والرهبة ، والتخلص من ذل الطمع وشهوة التنعم . فكم ممن حرم الدعوة للحق طمعًا في نفع دنيوي ، أو بحثًا عن رضا من لا ينفع رضاه ولا يضر غضبه ، مؤثرًا شهوة النفس ومتع الحياة على الصدع بالحق ، ولو كان عفيف النفس ، راضيا بحظه من الله لتغير أمره ولتبدل حاله .
فاليأس مما في أيدي الناس هو العز والغنى ، والطمع فيما عندهم هو الفقر والعنا ، ولا يزال الرجل كريًما على الناس حتى يطمع في دينارهم ودرهمهم ،فإذا فعل استخفوا به ، وكرهوا حديثه ، وملوه وأبغضوه.
وعندما سئل أهل البصرة : بم سادكم الحسن ؟ قالوا : احتاج الناس علمه ، واستغنى عن دينارهم .. فقيل : ما أحسن هذا .
أمت مطامعي فأرحت نفسي … فإن النفس ما طمعت تهونsize=3>
وما أجمل ما قال علي بن عبد العزيز القاضي رحمه الله :
يقولون لي فيك انقباض وإنما … رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجمـا
أرى الناس من داناهم هان عندهم … ومن أكرمته عزةُ النفس أُكرما
ولم أقض حق العـلم إن كان كلما … بدا طمـعٌ صيرته لي سـُلَّمـا
وما كل برق لاح لي يستـفزني… ولا كـل من لاقيت أرضـاه منعما
إذا قيل هذا منهل قلت: قـد أرى … ولكن نفس الحـر تحتمل الظـما
أنهنـهها عن بعض ما لا يشينها … مخـافة أقوال العدا فيم أو لم ؟
ولم أبتذل في خدمة العـلم مهجتي … لأخـدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسـا وأجنيه ذلة ؟ … إذًا فاتباع الجهل قد كان أحـزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم … ولو عظموه في النفوس لعظـما
ولكـن أهانوه فهـان ودنسـوا… محيـاه بالأطمـاع حتى تجهمـا size=3>