عز الدين بوركة: «الشعر في الشارع» محاولة لخرق التقاليد التي كرستها النخبة
[wpcc-script type=”094b1605f9d34e4358004f9b-text/javascript”]

يُعدّ الشاعر والباحث عز الدين بوركة من الشعراء المغاربة المعاصرين المنتمين إلى جيل الحساسية الجديدة، جيل الألفية الثالثة، المتحمس إلى تغيير قوالب الشعر الجاهزة، والمنشغل بقضايا التجديد في قصيدة النثر. أصدر بوركة ديوانين.. «حزين بسعادة» الفائز بجائزة شيماء الصباغ في مصر 2016، و«ولاعة ديوجين» 2017، بالإضافة لكتابه النقدي «الفن التشكيلي في المغرب، من البدء إلى الحساسية». وتأتي أهمية تجربته في الخروج بالشعر إلى الشارع، في ما سيصطلح عليه بـ«الشعر في الشارع»، من خلال برفورمانس شعري، هو الأول من نوعه في المغرب، في يونيو/حزيران 2018، لكن الاشتغال لم يتوقف عند هذا العرض، إذ سيتجاوزه إلى محاولات حثيثة للتنظير لهذا الجنس الشعري الجديد، الذي تمتد أصوله غربيا إلى سنوات الستينيات من القرن الماضي؛ «تجسيد الشعر» كما يصطلح عليه الشاعر عينه. فكان لـ«القدس العربي» معه الحوار التالي..
■ بداية.. ماذا عن أول «برفورمانس» شعري أقيم في المغرب؟
□ جاء هذا البرفورمانس الشعري- الفني ثمرة لأول إقامة شعرية فنية من نوعها في العالم العربي، التي جمعتني مع الشاعرة البانمية كورينا رويدا بوريرو في مدينة سلا المغربية، وتمخض عنها اشتغال فني بتعاون مع الفنان البصري المعاصر رشيد باخوز، والفنان محمد أرتوف، حيث اهتم باخوز بتخصيص أنستلايشن تؤطر سينوغرافيا البرفورمانس، وتتوسط دائرة حركية الأداء الشعري، وهو الأمر الذي يميز تظاهرتنا عن باقي التظاهرات، وكما قام الفنان أرتوف بتركيب معزوفات تتماشى وروحانية أجواء العرض؛ تم أداء البرفورمانس في مدينة الدار البيضاء العام الفائت. فهذا البرفورمانس هو ثمرة اشتغال دام لما يزيد عن شهر، كانت مهمته الخروج بالشعر من ضيق الفضاءات التقليدية والاعتيادية، وتقريبه بشكل مجسّد ومؤدى إلى المتلقي، الذي عزف عن قراءته. ولأننا في زمن الصورة والاستعراض، كان ولا بد من التفكير في كيفية تقريب الشعر من المتلقي الاعتيادي، وإعادة الصلة التي كانت تجمع به الشعر. نوع من القفز من على الأسوار العتيدة وخرق لكل التقاليد التي سجنت الشعر وخنقته.
■ لماذا «الشعر في الشارع»؟
□ اخترنا «الشعر في الشارع» عنوانا لتظاهرتنا الشعرية – الفنية بعد طول تفكير في ما يمكنه أن يُحدث صدى فعالا لما جئنا ندعو إليه، ويدل بشكل شاعري عما نريد تبلغه. فكان بالتالي الوقوف عند هذا العنوان الإيقاعي والمثير للفضول في الوقت نفسه. فعلى الشعر أن يخرج من القاعات المكيفة والمغطاة، ليتنفس الهواء الطلق، ويقترب قدر الإمكان من الجماهير، أن يغدو أكثر حرية وتحررا من القيود الكلاسيكية. وكما خرج الفن المعاصر من الشارع، فالشعر المعاصر (عربيا) لن يخرج إلى الوجود إلا عبر الشارع والجسد، أي بتجسيده ومسرحته.
■ تتحدث تارة عن «مسرحة الشعر» وتارة عن «تجسيد الشعر»، فهل يوجد اختلاف ما؟
□ أولا لا بد من توضيح نقطة مهمة، فأداء الشعر أو ما يصطلح عليه بالبرفورمانس الشعري، ليس ظاهرة جديدة، إذ تمتد جذوره إلى عشرينيات القرن الماضي، مع شعراء الدادا وحتى المستقبليين الجدد، الذين أرادوا الخروج بالفن عموما (بما في ذلك الشعر) من دائرة العرض الكلاسيكي، التي ظلت تسيطر حتى على الفن الحديث، إذ أدركوا أن الفن ظل رهين النخب وسجين الدور التي لا يزورها إلا القلة، والتي تلقي بمهابتها على العامة، فحاولوا تجريب أسلوب بصري مغاير واشتغال مختلف يعبّر عن روح عصرهم، لكن لم يلق الأمر رواجا مهما، وسننتظر إلى ما بعد منتصف القرن الماضي حيث ستظهر تيارات شعرية جد معاصرة، متأثرة بما جاء يحمله الفن المعاصر من مفاهيم تفكيكية ونظريات التلقي ومفاهيم معاصرة غير مسبوقة كالتلاشي والتجسيد، ما سيلقي بأنواره على شعراء مجددين، ناقلين الشعر إلى أداء صوتي أو راقص، ومن هنا جاء مصطلح التجسد، أي «تجسيد الشعر»، فلم تعد اللغة لوحدها كافية للقول الشعري، الذي تخطاها إلى الاندماج مع جسد الشاعر الذي يؤدي نصه الشعري صوتيا وحركيا.
الأداء الشعري هو نوع شعري، أو لنقل اشتغال شعري مستقل بذاته، يعتمد على رؤية جد معاصرة، متأثرة بما جاءت به باقي الفنون المعاصرة، وأحدث النظريات في الشعر.
أما «مسرحة الشعر»، فهو مفهوم يحيل إلى ذلك المزج السحري والمدهش بين الشعر (النص) والمسرح (الفضاء) بكل أداوته وأضوائه ووسائله، سواء على الخشبات أو خارجها، حيث يعمد الشعراء إلى الاندماج الفعلي مع محيطهم، ويصير النص الشعري موحدا في الأداء المسرحي، لكن بلا أن تكون هناك سردية متوالية تلغي عن الأداء شعريته؛ نوع من استعراض للنص الشعر المندمج في العرض بشكل حي أمام الجمهور. وسواء مسرحة الشعر أو تجسيده، لا يعني الأمر أننا إزاء قراءة النصوص الشعرية أمام الجمهور، كما هو معروف ومتداول داخل القاعات أو حتى في الأماكن العمومية، بل في كلا التجربتين يكون الشاعر فاعلا بجسده جزئيا أو كليا، مندمجا مع المتقي الذي قد يلعب دورا رئيسيا في أداء العرض الشعري. وقد يكون الفرق بين التجسيد والمسرحة ملتبسا وضبابيا، لكن في الأول لا يكون لباقي الفنون حضور قوي، والعكس في الثاني حيث تندمج فنون كثيرة، من موسيقى وسينوغرافيا وتشكيل وفن بصري مع بعضها بعضا.
■ أيعني هذا أن الأداء الشعري تيار مستقل بذاته لديه فروع مختلفة ومتعددة؟
□ الأداء الشعري هو نوع شعري، أو لنقل اشتغال شعري مستقل بذاته، يعتمد على رؤية جد معاصرة، متأثرة بما جاءت به باقي الفنون المعاصرة، وأحدث النظريات في الشعر. يختلف كل الاختلاف عن باقي التيارات والتوجهات والاشتغالات الشعرية الأخرى. له فروعه المتعددة من تجسيد ومسرحة وصوتية وغيرها، وما يميزه عن كل ما سبقه من الأجناس الشعرية، أنه يوظف الجسد بشكل مباشر، ويهتم بشعرنة الجسد، حيث إننا لا نوجد إلا بأجسادنا، ومن هذه الرؤيـــــة الفلسفــية الجد معاصرة انبثق هذا البراديغم، ضمن ما يصطلح عليه بـ«الشعر المعاصر».
■ أنقول بالتالي إن الشعر مع الأداء قد ألغى عن نفسه الجانب الروحي والانطباعي الذي ظل يتسم به؟
□ يمكن من زاوية معينة القول بذلك. فلا حضور في البرفورمانس إلا للجسد أداءً وتجسيدا ومسرحةً، بل حتى أجساد المتلقين تصير فعالة وجزءا من العملية كلها. لكن لا يمكن أن نلغي الجانب الرهيف والحساس، حتى لا أقول الروحي، الذي يتسم به الشعر، فما دمنا نوظف اللغة ونعتمد على الرقص والتحرك في إيقاع معين أو فوضوي، فثمة بالضرورة حساسية مرهفة إلى مفرطة، تلمس المتلقي وتجعله يتفاعل مع ما يشاهده ويسمعه، لكنني لا أحبذ استعمال كلمة روحانية، لأنها تتضمن نوعا ما الجانب الحدسي، الذي يختفي في الشعر المعاصر والفن المعاصر.
■ لماذا هذا الانتقال مما هو مكتوب إلى ما هو مجسد ومؤدى في تجربتك؟
□ شخصيا أؤمن بأن أي قطيعة يتولد عنها نسق أو براديغم جديد، لا تعني أبدا أنها وأدت كل ما سبق زمن حدوثها. فلم يلغ الفن المعاصر أبدا الفن الحديث أو الكلاسيكي، بل أعلن فقط عن ميلاد براديغم جديد، له آلياته وتصوراته المختلفة كل الاختلاف عما سبقه. مشكلا طبعا قطيعة مبرمة من حيث آليات الاشتغال مع الأنواع السالفة، ومشكلا فضاءه الخاص، ولكن الأمر لا يلغي إمكانية التعايش بينها. وحينما يتم خلق براديغم فني أو أدبي أو شعري جديد، يُخلق معه مُتَلَقّيه الذي يميل إلى احتضانه والتفاعل معه. معنى حديثنا هذا، أن شعر البرفورمانس، وإن يشكل قطيعة مع باقي الأنواع والأجناس والتيارات الشعرية الأخرى، فهو لم يأتِ لإعلان موتها النهائي الذي تليه جنازة مهيبة، بل هي قطيعة وقلب للقيم السابقة وكسرها وتجاوزها، لخلق فضاءات جديدة لهذا الوليد/البراديغم الجديد. ومن خلال تعايش الأنواع الشعرية سيضطر كل تيار على حدة أن يقوي من آليات اشتغاله، وينوع أساليبه ويجدد جلده وجسده.
■ وما رأيك في ما شهدناه في مدينة صويرة، حينما استعار شعراء عنوان «شعر في الشارع» لقراءة الشعر في إحدى ساحات المدينة؟
□ إني جد سعيد جدا بما قام به هؤلاء الشعراء، الأصدقاء، من إحياء التظاهرة والخروج بالشعر إلى الساحات العمومية، بل تكمن سعادتي حينما وجدت صدى ما أنظر إليه وما أدعو إليه قد عثر على صدور رحبة تحتضنه وتؤديه بطريقتها الخاصة. فالشعر لا يوجد فقط في اللغة والكلمات، إنما يوجد في كل مكان، حتى في أجسادنا.