إن فترة الشباب في حياة الإنسان هي أحفل أطوار العمر بالمشاعر الحارة والعواطف الفائرة، لكنها ليست عهد العافية المكتملة في البدن الناضج فقط، بل إنها كذلك عهد النزعات النفسية الجياشة، يمدها الخيال الخصب والرجاء البعيد.
والأمم تستغل في شبانها هذه القوى المذخورة وتجندها في ميادين الحرب والسلم ؛ لتذلل بها الصعب وتقرب بها البعيد.
ونجاح الأمم يرجع إلى مقدار علو همم شبابها، وإلى مقدار آمالهم وأعمالهم.
إن فترة الشباب فترة متميزة في حياة كل منا بسبب يسير جداً، وهو أن الشباب فترة قوة بين ضعفين، فهو فترة قوة بين ضعف الشيخوخة وضعف الطفولة. والذي يقدر على الإنجاز هو الشاب، وليس الطفل أو العجوز، فلا شك أن فترة العمل والإنجاز وخدمة الإسلام هي فترة الشباب، فالشباب هو زمن العمل، فمن ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك“. وتأمل جيداً كلمة (اغتنم) أي إن الفرصة سانحة، وسرعان ما تفر منك. فالشباب ضيف زائر، وصيف عابر، سرعان ما يولي.
وتأمل -أيضاً- هذه الكلمة للإمام أحمد حيث يقول رحمه الله: ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي(أي: جيبي) فسقط.
فيبدو أنه يمثل الشباب بوضع شيء في جيب مثقوب، فحين وضعه في كمه سقط فوراً من أسفل الكم، فكذلك الشباب يمكث معك مثل هذه الفترة الوجيزة.
فمن ثمّ يسأل الله عز وجل كل عبد من عباده عن نعمة الشباب، ومع أن العمر يشمل الشباب، لكن خص الشباب بالذكر لأن له هذه الخصيصة التي ذكرناها، قال عليه الصلاة والسلام: “لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه…”.
وعد صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الشاب العابد، فقال عليه الصلاة والسلام: “وشاب نشأ في عبادة الله“.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما آتى الله عز وجل علماً إلا شاباً، والخير كله في الشباب، ثم تلا قوله عز وجل: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]).
وقال تعالى في أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].
وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12].
قالت حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب! اعملوا؛ فإنما العمل في الشباب.
وقد كان جل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به وعزروه ونصوره واتبعوا النور الذي أنزل معه شباباً.
فهذا مصعب بن عمير الفتى المدلل المُنَعَّم الذي كان يُشترى له الطيب ويعرف مروره من الطريق ببقاء رائحة العطر فيه، آمن بالله تعالى واتبع الرسول فأرسله النبي صلى الله عليه وسلم سفيرا إلى المدينة فما مر عام إلا وبيوت المدينة لا تخلو من توحيد الله تعالى وتلاوة آياته وهو الذي أسلم على يديه سادة الأنصار.
وهذا أسامه بن زيد رضي الله تعالى عنهما أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش وكان عمره ثماني عشرة سنة. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة على قوم فطعنوا في إمارته، فقال: ” إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله لقد كان خليقا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده“.
وهذا عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة لما سار إلى حنين وعمره خمس وعشرون سنة.
ومعاذ بن جبل ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قضاء اليمن وعمره قريب من الثلاثين.
ومات سيبويه إمام النحو وحجة العرب وله من العمر اثنتان وثلاثون سنة.
وهناك نماذج أخرى للشباب الذين أبلوا أحسن البلاء في حمل رسالة الإسلام ونشر نوره في العالمين.
هذا محمد بن القاسم الثقفي الذي فتح بلاد السند والهند( الهند وباكستان وبنجلاديش) وعمره سبعة عشر عاما، وبينما كان يتنقل من فتح إلى فتح ومن نصر إلى نصر عُزل وحُمل مقيدا إلى العراق، فقال متمثلا:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
وهو الذي قال فيه حمزة الحنفي:
إن المروءة والسماحة والندى لمحمد بن القاسم بن محمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة يا قُرب ذلك سؤددا من مولد
فرحمه الله رحمة واسعة.
وهذا محمد الفاتح العثماني الذي تحققت على يديه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية وهو قد جاوز العشرين بقليل
وهذا الشافعي الي سماه أهل مكة: (ناصر الحديث) ، وتواترت أخباره إلى علماء عصره فكانوا يفدون إلى مكة للحج فيناظرونه ويأخذون عنه في حياة شيوخه ، حتى إن أحمد بن حنبل كان يترك مجلس سفيان ويجلس إلى الشافعي فلما عوتب في ذلك قال لمن يعاتبه: اسكت ؛ إنك إن فاتك حديث بعلو أدركته بنزول، وإن فاتك عقل هذا أخاف ألا تجده، ما رأيت أحدا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى.
ولقد جلس الإمام الشافعي للإفتاء وهو لا يتجاوز العشرين من عمره، وملأ الدنيا علما فلله دره.
أما الإمام النووي رحمه الله تعالى فهو الذي كان في صغره يهرب من الصبيان وهم يكرهونه عل اللعب، فيبكي لإكراههم ويقرأ القرآن في تلك الحال.
وقد جعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن فأتى الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي إلى معلم القرآن وقال له: هذا الصبي يُرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع به الناس فقال له: أمنجم أنت؟ فقا: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الحلم.
وصدقت فراسة الشيخ فقد كان الإمام النووي من أعلم أهل زمانه وأزهدهم وقد انتفعت الأمة بعلمه ولا تزال.
بمثل هذه الهمم العالية في جميع الميادين سادت الأمة وعزت وكتبت على صفحات التاريخ بمداد الذهب صحائف المجد.
فيا شباب الإسلام:
إذا لم تكونا أنتم حفظة القرآن وحملة السنة، فمن؟
إذا لم تكونوا أنتم مصابيح الهدى ومشاعل النور وسط هذا الظلام الحالك، فمن؟
إذا لم تكونوا أنتم عمار المساجد والذاكرين الله فيها، فمن؟
إذا لم تكونوا أنتم حماة الدين والأوطان، فمن؟
إذا لم تكونا العلماء والمخترعين، فمن؟
إذا لم تكونوا بُناة مجد هذه الأمة ورعاة عزتها وأساس نهضتها، فمن؟
حري بكم أن تكونوا في همة هذا الشاب الذي يقول:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
إن الإنسان إذا علت همته فإنه لا يقنع بالدون ولا يرضيه إلا معالي الأمور، فالهمم العالية لا تعطي الدنية ولا تقنع بالسفاسف، ولا ترضى إلا بمعالي الأمور، فصاحب الهمة العالية لا يقبل أن يبقى في هامش الحياة، بل يجتهد أن يصل إلى ما أمكنه من الكمالات؛ ليقينه أنه إذا لم يزد شيئاً على الدنيا ويترك فيها بصماته في الخير وأعمال البر، فإنه سيصبح زائداً على الدنيا، وفضلة من فضلات الدنيا، أو في هامش صفحة الحياة.
يقول الشاعر:
وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع
نسأل الله تعالى أن يصلحنا وأن يصلح شباب المسلمين وأن يوفقنا وإياهم لما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.