على بِساط القلب
[wpcc-script type=”675796c2a4c5914d404c7736-text/javascript”]

استوت السيارة العابرة على قمة عقبة شامخة فتكشَّفت المنعرجات أسفلَها دفعةً واحدة. كانت تنهمر سوداءَ مثل نهر عميق غلبَ سوادُ غَوْرِه زُرقةَ السماء فلم تنعكس فيه بعد. انفتح باب السيارة. برز رجل نحيف، في حركاته لباقة عازف ورشاقتُه. تقدم بضع خطوات ينظر طريقا تبدو كأنها لا تتوقف، تُكمل المسير مع السائر وفي غيابه، أو في انتظاره إن وقفَ وقفةَ من يستعد لوصول قريب. أخذ الرجل أنفاسا عميقة مزاجُها رائحةُ صمغِ الصنوبر الذي يكسو المرتفعات. اغرورقت عيناه من شدة صفاء الهواء. مسحهما وأجال النظر في الطريق أسفل العقبة، ثم لفتَهُ شيءٌ عند قدميه. انحنى ليلتقط ثمرة صنوبر كبيرة بللها الطلُّ، وأخذ يُقلبها في يده. نادى ابنتَه ذات الأحد عشر ربيعا ليُريَها المخروط:
– ندى..
التفت ليراها تنتبه آخر لحظة، وتطل من النافذة صامتةً ذاهلة. أشار إليها بحبة الصنوبر فرأت أول وهلة كأن أباها يمسك قلبا كبيرا في يده..
– انظري ثمرة الصنوبر.. كومة منها في مدفأة تصنع الصيف في عز الشتاء..
لكن القرَّ قد مرّ. أواخرُ الربيع الدافئة تُغلِّفُ تلك المرتفعات العذراء وتجعل العابر يسأل أين اختفى برْدُها القاسي المشهورُ. عاد الرجل ليعانق ببصره السهلَ الخصيب المترامي بعيدا عند قدم المنعرجات. يبدو جائزةً بعد صعود واقتحام. ثم مدّ بصره لعقبة أخرى من المرتفعات، من خلفها مجمعُ نهر ملوية والبحر. الموعد هناك أو قريبًا من هناك. نادى ابنتَه من جديد لتنزل من السيارة وتنظر معه المدى الفسيح. ثم لم يلح. التمس لها عذر أرق الليل والنهار الذي تكابده في الحضر، فما بالك بالسفر على طريق طويلة هي فيها رفيقُه الوحيد. ما زالت تنظر بعين ذاهلة، وترقب ما سيفعل أبوها بقلب الصنوبر الكبير.
عاد أدراجَه. وضع القلب على لوحة القيادة ثم طاف حول السيارة. تلمس طلاءها الناعم. ترضَّى عليها مثل كائن حي بات يحمله هو وابنتَه، يقطع بهما المفاوز من مراكش حتى النجود الشرقية العليا. تبسم وهو يحدث السيارة. يبدو من مناجاتها أنها مما يحب، بل أكثرُ ما يحب وأنفَسُ ما يحب. قد يهَب أي شيء سواها؛ قد يزهدُ في أي شيء إلا فيها. سمعتَ ندى صندوق السيارة ينفتح، وتنفتحُ حقيبة الملابس كذلك. فتحت بابَ السيارة وقامت لتلحق بأبيها، فإذا هو بَدَل البِدلة العصرية في زيٍّ تقليدي. كأن عصًا سحرية غيرته في لمحة واستدارة. جلبابٌ أبيض ناصع، قميص يبدو طوقُه من أعلى مثل طوق جندي، وبَلغة رمادية باردة اللون. لم يضع بعدُ الطربوش الرمادي المستطيل. تناولته ندى وعادت إلى مقعدها تتلمس قماشَه الناعم مثل فروة القط. كانت تحب هذا الطربوش لأنه في شكل سفينة وتنسجُ حوله القصص. تتخيل نفسها تبحر على متنه فاتحةً جميع الأشرعة. وقف الأب إزاء الباب سائلا:
– كيف أبدو لك؟
تبسمت في صمت. مكثت تنظر إليه. إنه لا يبدو وحسب.. إنه أنيق أبدًا وجميلٌ أبدًا، لا يُرى عليه أثر السفر أبدا ولو في سفر طويل لا نوم فيه ولا راحة. جلس في مقعده فتنسمت عطرا زكيا لم تعهده منه. متى رشه؟ هل اقتناه خصيصا لزيارة شيخِه وأخفى القارورة؟ ألديه خبرٌ هو نفسُه عنه أم أنه عبَقٌ من الغيب.. لم يتناول منها الطربوش حتى قضت بُغيتها من تلمس نعومتِه، ثم سلمته إياه. وضعه على رأسه. نظرت إليه. الآن استوت كل أبعاده وضمَّ جلالا إلى جمال..
دبَّتِ السيارةُ من جديد تتبعُ منعرجاتٍ اختفى الآن جُلُّها، وصارت تظهر بمقدار ما تحتاج العين. حطت السيارة أخيرا على السهل كأنها كانت تطير، ثم مضت في طريق مستقيم ممتد حتى وصلت مسجد الزاوية الصغير. توقف المحرك كأن كل دوائره رست على مركزها وتوقفت، فلا مزيد دوران. كان الشيخ هناك ينتظر وصول أحبِّ مُريديه، جالسا على حصير أمام الباب. صافحه وعانقَه عناقا خفيفا كأنما يخشى على عظامه أن تنكسر. تأملا بعضهما دون كثير كلام. مدّ الشيخ يدَه ومسح على رأس ندى، ولبث يدلِك أذنَها برفق بينما يتقدمان. أحست بأمَنةٍ من نعاس حتى كادت تنام وهي تمشي. في المسجد حطت رأسَها في حجر أبيها وغطت في نوم عميق. أفاقت على إيقاع سماع صوفي ومديح في الزاوية. الليل. غابت شمس النهار، وشمسُ القلوب لا تغيب. لم تأكل شيئا كأنها اليوم تغذت بالنوم وفيه. تخوفت ألا تعود إلى النوم كعادتها. أغمضت عينيها من جديد. لكنَّ نومها العنيد من قبلُ صار مطواعا، تستدعيه متى شاءت وتنتبه منه متى شاءت. لبثت تفتح عينيها تارة وتغلقهما تارة أخرى لتمضي في سكرة نوم لذيذة. ثم تقرر أن تنتبه فتنتبه بدون توجسٍ ألا يعود. وبين يقظة ونوم كانت تتأمل أباها أعلاه مغمضَ العينين، غائبا فانيا، يحرك شفتيه كأنه يأكل طعاما هنيئا مريئا غيرَ منظور..
– ماذا تقول؟
لم يجبها فأغمضت عينيها من جديد. لم تشعر حتى أصابتها أشعة الشمس في سرير وثير في حجرة أرضية لصيقة بالمسجد، وهي لا تدري هل نامت شهرا أو يوما أو بعض يوم. أطلت من النافذة. أبوها في الباحة يحدث شخصا بجديته الفائقة. هل نام؟ كيف؟ ومتى؟ من يدري. تنبه إليها وقال باسما:
– هل وضبتِ فراشكِ.. بُنَيَّة؟
ثم عاد يكمل حديثه مع السِّي يحيى خادمِ مسجد الزاوية، استعدادا للرحيل. انتهت الزيارة. والشيخ ودَّعها نائمة واختفى. رب وقتٍ ضاق أمدُه واتسع مددُه. في الطريق استغربت أن السِّي يحيى هو من يسوق السيارة بدل أبيها. وزاد تعجبها حين وصلا محطة القطار، وتركا الرجل يعود بالسيارة إلى الزاوية..
– بابا كيف سنعود بلا سيارة..
– لا تحزني.. الله معنا.. لقد تركتها لبَّا- جْدِّي الشيخ، وسيرزقنا الله سيارة أخرى.. ألم تري كيف كان يبدو متعبا بالتنقل على قدميه أو على دابته.. إنه أحوج إليها أكثر منا.. ثم ألستِ قوية؟
أجابت بحزم:
– بلى.. أنا قوية..
ولم يلبث أن غطت زمجرةُ القطار وهيبةُ دخوله إلى المحطة على كل سؤال واستغراب. وكان لصعودها فيه أول مرة هيبةٌ أخرى لذيذة. استقرا في المقصورة وقال لها: «أرأيت كيف عوضنا الله بقطار كبير وسريع..» وتتابعت الحقول وحارت عينا ندى في محاولة الإمساك بتلال وأشجار تسابق القطار فيسبقُها أبدا. ثم استسلمت لنوم طويل كأنها تسترجع ديون النوم القديمة. أفاقت في مراكش. حمل أبوها الحقيبة وسار يسابقها وتسابقه..
– ستتعبين../- كلا لن أتعب../- بلى ستتعبين../- كلا.. لن أتعب..
اجتهدت ندى أن تسبق أباها حتى إذا كانت على مسافة أمامَه، التفتت لترى كأنه ازداد طولا وشموخا وبهاء. صار مثل نخلة تعطي التمر وقد كان هناك في المرتفعات مثل شجرة صنوبر تحمل قلبا كبيرا. تذكرتْ وصاحتْ متحسرة:
– آه بابا.. نسيتَ قلبَ الصنوبر!
أجابها باسما:
– لا يا بنية.. لم أنسه.. تركتُه هو كذلك عند الشيخ.. حين نزوره مرة أخرى سنجده قلبا حقيقيا نابضا بالحياة.. اصحَبْ مَنُ له قلبٌ حتى يصير لك قلب..
٭ قاص مغربي