عندما اعطى نيرودا جواز سفره الدبلوماسي الى ماركيز
[wpcc-script type=”f4e3dce09742d4fea06904bf-text/javascript”]
نيرودا : أشهر مهرب في القرن العشرين
ويحلو لكثير من المثقفين والأدباء وصف الشاعر التشيلي بابلو نيرودا بأنه ‘أشهر مهرب’ في القرن العشرين، وذلك بعد قيامه بعملية تهريب فريدة من نوعها ‘ قد لا تتكرر’ عندما قام بإخراج الروائي الشهير غابريل غارسيا ماركيز من المكسيك. والقصة جرت عندما قام السفير التشيلي ‘ريكاردو نفتالي’ في باريس والمعروف بنيرودا بمخاطرة جريئة بكل معنى الكلمة حيث قام بإعطاء جواز سفره الدبلوماسي لماركيز ليخرج من المكسيك أمام أعين الشرطة بكل حفاوة.
وحيث أن السلطات المكسيكية كانت قد اعلنت حالة الطوارئ في الخمسينات بحثا عن الروائي الكولومبي الشهير غابرييل ماركيز بناء على طلب سلطات بلده كولومبيا كجزء من حملة إرهاب ضد كتاب اليسار في القارة الأمريكية الجنوبية، وحيث أن الأرض على وسعها ضاقت بغابرييل ، حيث كانت صوره موجودة في نقاط التفتيش كأي مجرم هارب، فقد دخل سراً الى السفارة التشيلية في المكسيك، وفي داخل السفارة جرت فصول أغرب قصة تهريب لروائي في القرن العشرين لما انطوت عليه من معان وقيم وجرأة وشجاعة واخلاق تضامن صارت مثلا نادرا في التقاليد الأدبية والأخلاقية والسياسية وليس غريبا هذا الأمر على شاعر وانسان كبير مثل بابلو كان يعيش الحياة والكتابة في تطابق وعلى مستوى واحد دون أن يكون الإنسان شيئا والكاتب شيئا آخر مختلفا أو نقيضا.
لقد كان اقتراح السفير الشيلي مجنونا ولا يمكن أن يقدم عليه سفير آخر في العالم، بل ربما كانت المرة الوحيدة التي غامر بها سفير دولة بوضع موقعه على حد السيف، والاقتراح هو أن يسافر غابرييل ماركيز بجواز سفر السفير الى باريس .
وكان غابرييل في المطار يعامل من قبل السلطات ويحتفى به حسب التقاليد الدبلوماسية وما من أحد يشك أن هذا السفير المزور هو غابرييل ماركيز الهارب الذي تبحث عنه الشرطة المكسيكية في كل مكان، وفي مطار باريس استقبل كما يجب من أصدقاء وكتاب، وقضى تلك الليلة يروي حكاية الهروب التي انطوت على معان أخلاقية سامية.
لكن من هو السفير التشيلي المجنون المغامر الذي منح جواز سفره الى الروائي المطارد؟ إنه الشاعر التشيلي العظيم بابلو نيرودا .
شاعر الخيل والحجارة والحياة
يعتبر نيرودا بحق، شاعر امريكا الكبير، وصوتها الاثير ويحتفل اتباعه ومحبوه سنوياً في كل بقاع الارض بقراءات حارة لأشعار تستعيد صوت وصورة المئات من قصائده التي وقعت على كل الاساليب الشعرية، التي تتراوح بين القصر والطول، فهذا الشاعر الشيوعي، اليساري احب الطبيعة، بقدر ما احب الحياة، وهو صديق لوركا وبيكاسو وبول ايلوار، وهو لم يكن بالضرورة شاعرا وسياسيا ودبلوماسيا فقط، بل كان رجلا مليئا بالحياة، فقد تزوج (ثلاث زوجات وعددا كبيرا من العشيقات) ،وبعد الحرب الأهلية الإسبانية قام نيرودا بإنقاذ حياة ألفين من مؤيدي الجمهورية الذين فروا عبر الحدود لفرنسا وعاشوا في معسكرات، خوفا من ملاحقة قوات فرانكو لهم، وعاش نيرودا عاما كاملا كهارب من ديكتاتور بلاده (غابريل غونزاليس فيديلا)، وعرض حياته للخطر عندما هرب علي صهوة حصان عبر جبال الانديز، وعاش في المنفي الأوروبي ثلاثة أعوام، حيث كافح ضد الديكتاتورية في ايطاليا، وعند عودته للبلاد رشح نفسه للرئاسة الا انه تنازل في اللحظة الأخيرة لصالح سلفادور الليندي.
وكان نيرودا شخصية ذات حضور كبير، فقد وصفه لوركا بأنه اقرب للدم منه للحبر ، واعترف نيرودا بالتناقضات الكثيرة في داخله عندما أعلن: (بابلو نيرودا.. هو العدو الخائن)، ويبقي نيرودا، بصفته صوت الشعر والحقيقة في عالمه، عصيا على التصنيف الفني وحتى السياسي مع إيمانه الشيوعي، فمع أن موضوعاته واعماله الشعرية، ربما حملت عددا من تأثيرات ويتمان وويليام بليك وبودلير الا ان صوره وطاقته الشعرية، تظل من إبداعه وتميزه الخاص، خاصة في موضوعاته الشعرية التي تحدثت عن العادي واليومي، مثل ( أغنية للبصل ).
والشاعر الذي غاب منذ ثلاثة عقود، يظل حاضرا في تغريبته عن الحب الضائع وبحثه عن الحقيقة الشعرية، (الحب قصير، النسيان اطول ). والحكومة التشيلية تريد اليوم ان تعيد بعضا من ذكريات الشاعر، خاصة لوجود الاعتقاد الشائع، بان وفاة الشاعر الذي كان يعاني من المرض، جاءت بسبب الانقلاب الدموي الذي قام به الجيش المدعوم من المخابرات الأمريكية ضد حكومة سلفادور الليندي، اليسارية والرئيس المنتخب ديمقراطيا. وقبل ايام من وفاته، جاء حرس الليل والشرطة السرية للبحث عنه حيث واجههم بعبارته الشهيرة ( لا شيء هنا سوى الشعر و الكلمات ).
إن تشيلي اليوم حكومةً وشعباً تتذكر ابنها ، وتستعيد تاريخها المفقود، حيث ستوزع سفاراتها في اكثر من 65 بلدا أوسمة لعلماء وشعراء، كما ستشهد العاصمة سنتياغو استعراضات، وطائرات ترمي مناشير/ أشعار نيرودا من الجو، وهناك محاولات ليست من المناسبة الرسمية، لاستدعاء روح الشاعر، والاهم من ذلك أن تشيلي، بعد سنوات من التغيب والسجون السرية وآلاف القتلى والمفقودين، تستعيد أشعار صاحب اغاني الكابتن/ الجنرال ، ومعه تستعيد روحها التي فقدتها، عندما دخلت أموال سي اي ايه البلاد، وقلبتها إلى جحيم كبير.
وفي سنواته السبعين التي من عمره، عاش نيرودا الحياة كلها تقريباً، وكانت تشيلي بالنسبة إليه الكوكب الأرضي، وفي كتاب مذكرات له بعنوان ‘ أعترف بأنني قد عشت ‘ يقول : من لا يعرف الغابة التشيلية فهو لم يطأ هذا الكوكب الأرضي. وقد تزوج نيرودا ثلاث مرات ، الأولى ‘ ماريا ‘ في عام 1930، وينفصل عنها ليتزوج في المرة الثانية من امرأة تكبره 15 عاماً اسمها ‘ ديليا ‘ وذلك في عام 1943، وأخيراً يتزوج ‘ ماتيلدا ‘، وقد أحبَّ ‘ ماتيلدا ‘ كثيراً وإليها كتب 100 قصيدة حب، وعن هذه القصائد يقول نيرودا موجهاً كلامه الى ‘ماتيلدا ‘ : ‘ بتواضع كبير صنعت أنا هذه القصائد من خشب، معطياً لها صوت هذه الهيولي الكثيفة النقية فلتبلغ أذنيك على هذا النحو …’
إن قصائد بابلو نيرودا قد احتفلت على الدوام بخيول شيلي وحجارتها وسهولها وجبالها وعشاقها وثوارها وطيورها. فهذا الشاعر هو شاعر الحياة حقا، ويكتب كما الأشجار تورق، والنغم في أشعاره كالنسيم في الوردة، أو كصوت مجرى الماء فوق صخور جبال شيلي التي احبها بشغف وغبطة وفرح طفولي بريء.
وبابلو نيرودا شاعر أحب قضايا شعبه حتى اللحظة الأخيرة ،حيث ظل واقفا كسنديانة صلبة في ساعات الانقلاب في 13 أيلول 73 الى جانب صديقه الليندي الرئيس الشرعي بعد انقلاب عسكري فاشي دبرته المخابرات الأمريكية. وكان التزام نيرودا التزاماً من نوع آخر مختلف، ليس هو عشق البلدوزر، او الكتابة عن فوائد البصل في الكولخوز، أو جماليات ماكنة الخياطة، بل التزام القلب البشري، للعاطفة الأصيلة في الإنسان، للحب، للطبيعة، للجمال العفوي غير المدرك لنفسه : جمال البراري والغزلان والبراءة والضمير والصخور والنسور وحشرات الليل المضيئة،انه الاحتفال بالحياة، وهذه أيضاً هي صفة صاحبه وحامل جوازه غابرييل ماركيز، والذي حين سئل عن التزام الكاتب أجاب :
ـ أن يكتب جيدا!
مع الفقراء في تشيلي
قبل انضمام نيرودا للحزب الشيوعي عرض عليه عام 1944 لكي يرشح عن المنطقة الفقيرة في تراباتشا وانتوفاغاستا في صحراء اتشاما، وفي هذه المنطقة شاهد لأول مرة الفقر المدقع والبيوت التي بنيت على المزابل، وشاهد لاول مرة الناس الفقراء، او افقر الناس في تشيلي ( مازال قلبي يرتعد من مشاهد الفقر في هذه المخيمات.. هنا مخيم بان دي ازوكار الذي بني على قمة جبل من القمامة، وعندما دخلت أحد البيوت، امرأة (من منطقة السهول المعشوشبة) تقول لي كيف أنها وجدت فجأة، من تحت أرضية الغرفة، فئرانا ميتة، وأحذية قديمة.. مركزا للقمامة يسبح حتى سطح أرضية البيت، وعندما دخلت بيتها أرتني الأسرّة الحديدية المتداعية، طاولة معمولة من رفوف، كرسي وحيد لكل البيت، لا مطبخ، في الغرفة السفلية مدفأة من الصفيح وقطع الحديد تستخدم كفرن.. الطعام يخرج اسود) .
و في عام 1945 انتخب نيرودا نائبا ممثلا للحزب الشيوعي عن انتوفاغستا وتاراباتشا، وبعد اربعة اشهر انضم للحزب الشيوعي التشيلي في احتفال عقد في العاصمة سنتياغو،وتأتي أهمية الانضمام للحزب من خلال القصيدة التي كتبها (اي مي بارتيدو )
حزبي منحتني الاخوة لرجل لا اعرفه..
منحتني القوة الجديدة من بين كل الاحياء..
اعدت الي بلادي…
وكأنه ميلاد جديد..
وفي تشرين الاول (اكتوبر) 1947 أدت إضرابات عمال المناجم في لوتا الى أحداث شغب واضطرابات حيث قام فيديلا بإرسال قواته واعتقال المشاركين وإرسالهم الى سجن حربي في جزائر سانتا ماريا وكويريكينا، وكان من بين المسؤولين شاب في الثلاثين من عمره سيصبح عنوانا هاما في تاريخ الاضطهاد في بلاده هو اوغستو بينوشيه، ولم يكن نيرودا قادرا على الوقوف صامتا، ونظرا للرقابة على النشر، فقد بحث عن إعلام في الخارج، وقام بنشر مقال في جريدة الناسيونال الفنزويلية تحدث فيه عن وضع الديمقراطية في تشيلي وجاء فيه ان ازمة الديمقراطية في بلادنا هي ازمة لكل القارة اللاتينية، واتهم الرئيس التشيلي باستخدام اضراب عمال لوتا كذريعة لقتل الشعب، حيث تم القيام بأعمال لم تشهدها البلاد من قبل، وكتب قائلا لقد قاموا بتصويب المسدسات على صدور الاطفال لكي يدلوا الجنود عن مكان اختباء ابائهم، ملأوا القطار وراء القطار، مثل قطارات النازية المشؤومة، بالعائلات والعمال الذين عاشوا في هذه المنطقة لاكثر من اربعين عاما، وفي غالب الاحيان تحولت القطارات لسجون ولم يسمح لاحد بمساعدة الضحايا، ومات الاطفال والنساء نتيجة هذه المعاملة، جثث عمال المناجم شوهدت في التلال ولم يسمح لاحد بالاقتراب منها. وفي السادس من كانون الثاني (يناير) 1949 وقف نيرودا امام البرلمان والقى خطابه المعروف ( يو اكوزو: أنا اتهم )، مستخدما عبارة إميل زولا المعروفة عندما اتهم الحكومة الفرنسية بإساءة معاملة الضابط اليهودي، دريفوس، وقرأ نيرودا أسماء 650 من الرجال والنساء المعتقلين الذين اعتقلوا في معسكرات الاعتقال في بيساغوا، بدون تحقيق او اي معرفة بطبيعة الاتهامات الموجهة إليهم. واصبح نيرودا مطاردا، بل قامت صحيفة حكومية برصد جائزة لاي عنصر من عناصر الشرطة السرية الــ (300) الذين كانوا يلاحقونه، ويقول نيرودا في مذكراته عن تلك الازمة ان الخيار الوحيد الذي بقي هو اللعب بالوقت والاختفاء وتبني العمل السري للكفاح من اجل عودة الديمقراطية في البلاد .
لقد عاش نيرودا عاماً كاملاً مختفيا في بيوت الأصدقاء، حتى اصبح الوضع خطيرا ومن هنا، قرر أصدقاؤه تهريبه عبر الحدود للارجنتين، بجواز سفر مزيف، وهوية جديدة كعالم في الطيور، وقد اعجب هذا الدور نيرودا الذي احب هذه المغامرة وكتب عنها لاحقا كتابه ( ارتي دي باراجوس ) فن الطيور عام 1966. وقاده في المغامرة لجنوب البلاد، سائق يدعي جورجي بيليت، الذي تذكر لاحقا ان تعليقات نيرودا عن الطيور والحشرات جعلته يتغلب على النوم. وفي المرحلة الأولى من الرحلة، اوقف شرطي السيارة وطلب من السائق ان يأخذه معه في الطريق، مما اثار مخاوف وقلق السائق، ولكن الشرطي ركب في المقعد الامامي، ولم يلاحظ نيرودا… بعد ذلك وصلوا إلى مخزن للخشب قرب بحيرة مياهو، وفيها بدأ نيرودا يحضر للرحلة الشاقة عبر الانديز، ممتطيا صهوة الجواد، وكان قد نسي ركوب الخيل منذ طفولته.
مغامرة عبر الانديز
في 8 اذار (مارس)، بدأ نيرودا مع مجموعة من المرشدين والادلاء رحلتهم الشاقة غرب البحيرة، وهناك وجد ثلاثة من رعاة البقر ذكرهم نيرودا بالثلاثي جانوس ، كانت المرحلة الأولى تقتضي اجتياز نهر كارينكو ، وكان حصان نيرودا يحمل على ظهره رتلا من الاشياء الثقيلة: اشهر شاعر في امريكا اللاتينية، زجاجة ويسكي وآلة طباعة كان يكتب عليها اغاني الكابتن/ الجنرال ، التي كانت سيمفونية حب وعشق، عن الحياة والطبيعة في جنوب أمريكا، وعانى نيرودا في رحلته من المتاعب الكثيرة حتى قارب على الموت، وكتب في عام 1971 ( كان علينا عبور النهر، هذه الأمواج الصغيرة التي ولدت من قمم الانديز منحدرة منه، مشحونة بترنحها.. وجدنا حوضا.. مرآة عظيمة من المياه المتدفقة .. واخذت الخيول بخوض غمار الماء، وحصاني غمر بالماء حيث أخذت أتهادى.. ، حتى عبور النهر، وبعد اجتياز هذه المرحلة الصعبة سأله المرافقون ان كان خائفا من الموت، فاجاب نعم. فقالوا كنا وراءك بالحبال جاهزين ).
أما اليوم الثاني للرحلة فقد كان الاصعب، حيث كان عليهم اجتياز ما يعرف بطريق المهربين عبر الجبال. وبعد ان قطعوا المرحلة ووصلوا جبال الانديز، التفت نيرودا وسأل بيليت قائلا ماذا تسمون هذا الممر فأجابوا ممر ليلبيلا ، وعندها طلب من بيليت، حفر ابيات بالسكين على قاعدة شجرة ضخمة انشدها نيرودا من خلال النموذج الشعري المعروف بالرباعي كوارتيتا :-
ما اجمل رائحة الهواء..
في ممر ليلبيلا..
القاذورات لم تصل بعد ..
من مؤخرة الخائن غونزاليس فيديلا .
و بعد الركوب الشاق عبر الجبال وصلوا إلى الجانب الاخر من الحدود مع الارجنتين. بعدها سمع العالم نيرودا عندما خاطب مؤتمرا لمجلس السلام العالمي، الذي قدمه اليه بابلو بيكاسو في باريس. وبقي نيرودا في المنفى الأوروبي حتى عام 1952، يقضي أوقاته بين زوجته الثانية ومحظيته الجديدة ماتليد اورتوتيا، وفي عام 1955 بدأ حياة مستقرة مع ماتليد في تشيلي.
الليندي يفوز
بعد عدة محاولات فاز الليندي بالرئاسة التشيلية، وانتخب كأول ماركسي في انتخابات ديمقراطية عام 1970، ونتيجة لصداقته مع الليندي فقد عين نيرودا، سفيرا لتشيلي في باريس وفي عام 1971 ، سافر إلى استوكهولم لاستلام جائزة نوبل للأداب من الاكاديمية السويدية، وكان مصابا بمرض سرطان البروستات، حيث عاد لتشيلي ، وفي 29 حزيران (يونيو) بدأ ما صار يعرف بـ تاكوينتازو ، حيث قامت مجموعة بقيادة الكولونيل روبرتو سوبير باحتلال وسط العاصمة وقصف وزارة الدفاع، ومع ان قوات الجمهورية قامت بالسيطرة على الوضع الا ان البلاد كانت تنهار.
في هذه الاثناء احتفل نيرودا بعيد ميلاده التاسع والستين، ولم يكن الجو احتفاليا، حيث كان نيرودا قعيد الفراش وكان يتابع اخبار انهيار الاوضاع، وكان يقضي وقته بين الاستماع للراديو وكتابة الاشعار، وكان الامريكيون يرسلون الاموال إلى تشيلي لدعم الانقلاب الجديد، وفي 23 اب (اغسطس) استقال وزير الدفاع، واوصى الليندي بتعيين اوغستو بينوشيه، الذي كان يعتقد انه موال للحكومة في ذلك الوقت، وكان تعيين بينوشيه خطأ فادحا، فبعد ثلاثة ايام قام اصحاب المحال باغلاق محلاتهم في تظاهرة ضد الليندي.. وبحسب الصحافي التشيلي لوي البرتو مانسيلا، راقب نيرودا الوضع عبر الراديو والتلفاز، وقال الا تعتقد ان البلاد تنحدر نحو الحرب الاهلية ، ويقول الصحافي انه طلب منه القيام بانشاء لجنة دولية من الكتاب لدعم هذه الحكومة التي لم تجد من يدعمها، واعطاه بعض الاسماء، ماركيز، ماريو فارغاس يوسا، آرثر ميللر .
في تلك الفترة قام نيرودا بكتابة مقال في نيويورك تايمز ، دعا فيه شركة الاتصالات والبرق الدولية التوقف عن التدخل في شؤون البلاد. وعندما نشرت الصحيفة ردا على مقاله، كان في المراحل الاخيرة من مرضه، ولا يبعد عن الموت سوى شهر واحد، واراد استجماع كل طاقته للرد عليه، ولكن لم يحدث، حيث قام الصحافي( فاراس )بالاتصال بنيرودا في صباح 11 ايلول (سبتمبر) 1973 اخبره فيها عن الانقلاب، وانهى المكالمة قائلا اراك فيما بعد ، فأجاب نيرودا لن اراك ابدا . في ذلك اليوم قام الجيش بانقلاب دموي، حاصروا القصر الجمهوري، ومات الليندي في ظروف لا تعرف حتى الان، قتل ام انتحر، وقتل الاف التشيليين العاديين. وتقول ماتيلدا انه على الرغم من اعتلال صحة نيرودا فقد كان يمكن ان يعيش لو بقيت حكومة الليندي، فقد كان نيرودا يأمل باصدار سبع مجموعات شعرية جديدة، اضافة إلى مذكراته التي صدرت كلها بعد وفاته وفيها كتب نيرودا افعال واعمال الليندي، التي لا يمكن ان تّمحي قيمتها امام الشعب، اغضبت اعداء التحرير.. والرمزية التراجيدية اتضحت من خلال قصف القصر الجمهوري.. وتعيد للاذهان القصف النازي للمدن الاجنبية.. ونفس الجريمة ارتكبت في تشيلي.. الطيارون التشيليون قاموا بطائراتهم بقصف القصر.. الذي كان ولقرون طويلة مركز الحياة المدنية في المدينة.. احداث لا توصف اودت بالرئيس الليندي، دفن سرا، وسمح فقط لارملته بمرافقة جسده الخالد .
قام الجيش بتفتيش بيته، وتتذكر ماتيلدا حضور الجنود المدججين بالسلاح، وكان نيرودا يراقب الجنود بخوذاتهم يفتشون الأشجار والأزهار في الحديقة، من خلال ثقوب ستارة غرفته.. وعندما سأل قائد الوحدة عن نيرودا.. أشاروا الى مكانه، فقام بالصعود وبخطوات حذرة إلى الغرفة… في يده سلاحه.. عندها قال نيرودا له انظر حولك… هناك شيء واحد خطر عليك.. الشعر .. وانسحب الجنود، ولكنهم قاموا بالعبث وتدمير منزل اخر له.
في 18 ايلول (سبتمبر) في عيد الاستقلال تداعت صحة نيرودا، وقررت ماتيلدا نقله إلى العيادة، وفي الطريق اوقفهما الجنود، الذين لم يستجيبوا لرجائها ان نيرودا يحتاج لعناية طبية، بل انزلوهما من السيارة واخذوا يفتشون كل شيء، وانتظروا اكثر من نصف ساعة، خلالها لم ينطق نيرودا بكلمة، فجأة شاهدت ماتليد العبرات تنز من عينيه، وقال لها امسحي وجهي، باتوجا (اسم الدلال لماتليد) .
و بعد ان وصلوا العيادة، وأدخلوه غرفة العناية، تركته ماتليد للحظة لكي تقوم باجراء مكالمة، ولم تنته منها الا وتلقت مكالمة شديدة وغاضبة تدعوها لكي تكون إلى جانبه، حيث قال لها انهم يقتلون الناس، ويجمعون الاشلاء.. المشرحة مليئة بالجثث.. الم تسمعي بما حدث للمغني التشيلي المعروف فيكتور جارا.. كان واحدا من الذين قطعوا أشلاء.. يا الهي، كأنك تقتل عندليبا.. قيل انه ظل يغني وغناؤه جعلهم كالمجانين .. في ليلة 22 ايلول (سبتمبر) ترك نيرودا وحيدا، حيث كان لطيفا مع ماتليد التي طلبت منه الراحة، لم ينم الا ساعات قليلة، ليصحو بعدها، وهو يهلوس، ويقول انهم يطلقون الرصاص.. وبعدها ذهب في غيبوبة. مات نيرودا في ليلة 23 ايلول (سبتمبر) 1973 وكانت اخر كلماته هي انا ذاهب/ مي فوي . قررت ماتليد، نقل جثة زوجها الشاعر إلى بيته في لاكاسوكونا الذي عبث به الحرس السري، وكان القرار في نظر الكثيرين جنونيا، الا انها ارادت من ذلك لفت انظار العالم لفظائع الانقلابيين، فقد حدست ان الحدث سيحضره صحافيون ومحبون للشاعر.
وجاءت حكومة بينوشيه الانقلابية للاسراع في دفنه، في المقبرة العامة، بدلا من دفنه في بلدة ايسلا نيغارا ، وتم تصحيح الخطأ بعد عشرين عاما، وخروج بينوشيه من الحكم، وظهور فلم درامي اخذ من حياة الشاعر واشعاره الكثير( إل بوستينو ) ، حيث صور الشاعر كقلب كيوبيد ( آلهة العشق) يعيش في منفاه في جزيرة.
ويتذكر صديق الشاعر، هيرنان ليولا، الذي اصبح فيما بعد احد الباحثين المهمين في حياة واشعار نيرودا انه سأل ماتليد عن السبب، واجابت الا تعتقد انه كلما كان البيت في حالة سيئة، كان الامر جيدا لنيرودا.
بعد يوم في البيت، نقل نيرودا إلى المقبرة، حيث اجتمع امام البيت، عدد من العمال والطلاب، وتجمع الناس ليشاهدوا الجثمان في طريقه، سمعت اول صرخة، الرفيق بابلو، واجاب المشاركون حاضر ، ومع وصول الجثمان للمقبرة أصبحت الجنازة مظاهرة احتجاج كبيرة، كما يقول ليولا حيث ارتفعت الأيادي والأصوات، الرفيق نيرودا وردت الجموع في تحد صارم للجنود المدججين بالسلاح ، وتذكر الحضور قتلى الانقلابيين، المغني فيكتور جارا،و الليندي.
في صباح اليوم الذي مات فيه نيرودا يتذكر صديقه فرانشيسكو فلاسكو انه ذهب الى بيته، وشاهد جموعا كبيرة امام البيت تشير الي مخلوق غريب في داخله، وعندما دخل وجد نسرا ضخما في غرفة الشاعر، عندها تذكر فلاسكو مرة اسر له فيها نيرودا انه ان كانت هناك حياة أخرى فيتمني ان يتحول لنسر، وعندما اتصل فلاسكو بماتليد، واخبرها عما شاهده، قالت بدون تردد ذاك هو نيرودا .
يقول الباحثون في حياة واشعار نيرودا ان قوة وصدمة، وطزاجة الكلمات بالاسبانية اقوى منها عندما تترجم، ومع ذلك فروح القصيدة ولون المغامرة والرفض لا تزال حية، رطبة، وجميلة، يقرأها اتباع نيرودا في كل أنحاء العالم. فقد كان الصوت الذي حمل اليهم، الظلم والرفض، والالتزام من تلك البقعة الجميلة التي احبها في امريكا اللاتينية.
ولقد كان بابلو نيرودا دائما مركز استقطاب واهتمام في الأوساط الثقافية وفي أعماله الكاملة،والتي تضم من بينها قصائد كتبها في فترات شبابه الأولي والتي لم تضمها أية مجموعة سابقة له. عبر المجلدات الخمسة نستطيع أن نكتشف التطور الكبير والحساسية الفريدة في التعبير الإنساني لهذا الشاعر الفذ .
بابلو نيرودا في مذكراته التي نشرت مراراً، والتي تحمل العنوان: أعترف إنني قد عشت، فيها تتجلي خلاصة فكره ومفهومه الحياتي والإنساني الشعري.المفهوم الذي يمرر الأشياء لتنتصب وتقف أمامه بهيئة رائعة أخري، حيث تتلبس بقناعات وبأردية مختلفة. لقد إعترف مراراً بأن أغلب مشاعره كانت تخرج بنفس فورة إحساس الأرض الساخنة بنقيع الماء أو بالمطر بعد جدب. ومن ثم بتتبع خطواته الشعرية. هنا لنا وقفة مع أهم دواوينه بلا شك: عشوران وهي قصيدة حب ، وأخري يائسة وقد كتب قصائده ما بين 1923 ــ 1924 قصائد المجموعة يهديها لفتاة لم يلمح غير مدي رغبتها ومعاناتها،أي اللا ممكن وغير المؤكد، والتي يناديها بغموض، وأحياناً بتعمية، بإسم ماريسول (ماري الشمس ) أو ماري سومبرا (ماري الظل)، والتي يغنيها في إحدي قصائده قائلاً:
أريد أن أعمل معك
ما يعمله الربيع بالازهار
لقد جمع بابلو نيرودا في مجمل أعماله ما بين المشهدين، الأدبي والإجتماعي لعصره ولم يضح بواحد علي حساب الآخر،جاعلاً منهما عمادين للمعني الشعري.لقد كان في عالم إستعاراته مثل مجمل، ولكنه مجمل من المادة ذاتها.في قصيدته المعروفة التي يبتدئ مقطعها بـ: (أريد أن أكتب أكثر الأبيات حزناً)، يبدو فيها في المكان المتآلف مع ذاته يتأمل الطبيعة مثل حركة التاريخ ، مثل الطبيعة ومثل الإنسان..من هنا كتب للحب مثلما كتب عن التعلق بالبشر. في فترة كتابته عن إسبانيا أثناء الحرب الأهلية، كان في قصائده أكثر من صرخة، كان فيها عتاباً ،تآخياً، وتعمقا مع إنسانها ،مع شاعرها وساحاتها ورموزها. عندما نشبت الحرب الأهلية نشر قصيدته أسبانيا في القلب وقد جاءت حافلة بالحس الإنساني الملتاع المعذب، بحس التفقد عن قرب وعن بعد:
تنبض الحياة فيك حجارة ليلية
وغيوم المساء
سفن ضائعة
توارت نجوم محطمة في الأخبية.
وهكذا نرى بأن مجاميعه الأولى في المجلد الأول والتي حملت العنبات والريح حتى جزئها الخامس الذي ضم متفرقات لم تنشر سابقاً،نجد نيرودا، صوتاً حاضراً، لم يغب وراء حركة تعتيمية أو طفرة غريبة، كان جاداً حتى في أشعاره الشبابية، قريباً من نفسه وقريباً من الآخر.
جائزة نوبل
لقد حاز نيرودا على جائزة نوبل عام 1971 ، وذلك بعد أن رشِّح لها من قبل عشرين سنة، وبعد فوزه بجائزة نوبل فرض ”نيرودا” نفسه كواحد من كبار الأدباء لدى دار غاليمار وقد انتقل للإقامة في باريس التي عينه صديقه الرئيس ”سلفادور الليندي” سفيراً فيها، وقد أحدث ”نيرودا” تغييراً ثورياً في الديكورات الداخلية لمبنى السفارة.
وكان لفوز نيرودا بالجائزة صدىً مختلفاً لأن تقاليد الخوف والرداءة لم تسيطر على الحياة الثقافية في شيلي حيث كان شعراء وكتاب وادباء هذا البلد وادباء امريكا اللاتينية عموما يبدون استقلالية شخصية قوية وثقة بالنفس عارمة واحتراما يستحق الاعجاب للتقاليد الوطنية لذلك حصلوا على شهرة عالمية دون الغرق في وحول التقليد الاعمى ومن بينهم طبعا غابريل والروائي الغواتمالي الحائز على نوبل انخيل اوسترياس صاحب رواية ‘السيد الرئيس’ وهي إدانة فاضحة للدكتاتورية وجورج أمادو البرازيلي والروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا مؤلف رواية’ حفلة التيس’ وغيرهم الكثير.
بحر من الدماء
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1972 استقال من منصب السفير وعاد إلى بلده تشيلي، وفي الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 1973 قام الدكتاتور ”بينوشيه” بانقلابه العسكري حيث أعدم الرئيس ”سلفادور الليندي” وأدخل البلاد في بحر من الدماء، وقد أثرت تلك الأحداث على صحة نيرودا فأقعدته فريسة للمرض، ولفظ أنفاسه الأخيرة في عاصمته سنتياغو، في الثالث والعشرين من سبتمبر 1973، أي بعد 12 يوماً فقط من انقلاب ”بينوشيه”.
وفي السبعين من عمره في 23/ أيلول عام 1973 والعسكر يحيطون به من كل اتجاه لفظ آخر أنفاسه وسط حشرجات الألم وغصَّة الحزن بعدما نجحت الطغمة الفاشية في تشيلي في إسقاط نظام الحكم الديمقراطي التقدمي للرئيس الليندي. ، لقد جاءت وفاته بعد مرور عامين فقط من حصوله على جائزة نوبل في الأدب وكأن الموت ينتظر تكريمه ليضمه إليه بلا رجعة.
لقد سقط نيرودا ولم يطلب منه الفاشيست أن يركض كصديقه لوركا لكي يطلقوا عليه الرصاص لأنه كان محمولا على نقالة وهو يصرخ في ليلة الانقلاب حين رأى الدم التشيلي في الشوارع:
تعالوا انظروا الدم في الشوارع!
تعالوا انظروا الدم في …!
تعالوا انظروا ….
لقد رحل الشاعر الكبير ذاك الذي قال حين رأى بلاده ترزح تحت طغيان العسكر : ‘ علينا الآن أن نضع النزق الفني جانباً ونشهر سلاح الشعر ‘. وقال في إحدى قصائده :
أنا لا أكتب لتحتويني الكتب
لكنني أكتب للبسطاء
الذين يطلبون ماءً وقمراً
ومدارس وخبزاً وقيثارات
إن أعماله بقيت وستبقى تكون قناعة أساسية بالعالم وتصميماً على تغييره والبحث لإيجاد عالم أفضل. وقد حاول بجد أن يبحث عن التحرر والحرّية وحاول أن ينظر بروح مليئة بالأمل والكبرياء، وبحث كذلك طويلاً عن المرأة ، وبالأحرى بحث في المرأة عن الضياء ورائحة صوت الأرض.
لم يتمسك بالخيالات الطاوية أو الأعاجيب والغرائب الفانتازية، كان جاداً في كل أموره، قاسياً حيناً طريّاً حيناً آخر ، وكما يقول عنه ماريو فارغاس يوسا كان ‘ مشخصاً هزلياً حكيماً عاطفياً والشعر لديه أقل تشنجاً وأقل دراماتيكية إلا أنه مناسب ومكتوب من قبل رجل عرف قدر نفسه ‘ .
لقد حمل نيرودا بنفسه السلاح في اسبانيا إلى جانب ‘ لوركا ‘ ووظف أجمل شعره في معارك الشعوب ضد النازية وضد الدكتاتورية في تشيلي، بقي لي أن أقول أنه هناك في أسفل الجبل، في حي سان كرسيتوبل والذي يطل على العاصمة سنتياجو، يوجد بيت نيرودا، حيث كتب في نهايته على جدران البيت: (نيرودا .. الشباب يحييك !)، في ذلك البيت يرقد جثمان الشاعر.. هذا الشاعر الذي ظل حتى آخر لحظاته شاعر الحب والشباب والثورة، لقد مات حزيناً متألماً على ما حلَّ ببلاده، ومهما يكن الرأي في شعر نيرودا فقد جاء تعبيراً صادقاً وقوياً عن الإرادة المناضلة لتغيير العلاقات الاجتماعية الظالمة والمتخلفة، وظلت كلماته مقاتلة دائماً، إن كلماته كانت تنضح بالدم وسوف تعيش بعد موته طويلاً وستكون أغنية المواساة للكل السائرين على طريقه.
شهادات :-
لقد استطاع بابلو نيرودا بمكانتة الشعرية وصفاته الإنسانية أن يترك الكثير من الانطباعات لدى محبيه وخاصة من تعرفوا إليه عن قرب وعاشروه لفترات من الزمن خلال تنقلاته في عدة بلدان، فعندما ترجم ديوان ‘إسبانيا في القلب’ الى الفرنسية، كتب مقدمة الترجمة الشاعر الفرنسي الكبير لويس أراغون.
ويقول عنه ماريو فارغاس يوسا :’ إنه من أعظم الشعراء المعاصرين وبالذات باللغة الإسبانية، إذ حقق نوعاً من الثورة ، لكن من جهة أخرى فأنا أظن أنه يجب أن ننتقد نيرودا وبشدة على الصعيد السياسي، فهو لسنوات عديدة تقبل كل الأعمال التي ارتكبتها الأنظمة الشيوعية في العالم من عدم احترام لحقوق الإنسان، ( لقد ) كتب شعراً مديحاً بستالين، وكان هذا شيوعياً متشدداً لا يقبل أي نقد للحزب، وهذا أمر غير مقبول من المثقفين والكتاب .. المفروض فيهم أن يفكروا وأن يمارسوا وضوح الفكر ‘.
ويقول عنه جنكيز ايتماتوف : ‘ أنا أعتبر بابلو نيرودا وناظم حكمت من شعراء عصرنا العظام، وهما يشكلان ظاهرتين مشهودتين في الأدب العالمي المعاصر ، وفي مصيرهما عِبرٌ كثيرة’ .
وتقول عنه المفكرة الكولمبية انجريد بيتانكور :- ‘هناك القليل من البالغين يعرفون كيف يجدون الكلمات الصحيحة كي يشاركوا الأطفال في انفعالاتهم. وكان بابلو نيرودا يعرف ذلك’، أما الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم فيرى أن نيرودا ‘ أعظم شاعر أنجبته شيلي على الإطلاق.. كل جريمته أنه سخر عبقريته لخدمة الناس الغلابه’.
أما الشاعر الإسباني غارسيا لوركا، فقد وصفه بقوله ‘له وجه مدهش كغجري مصقول ومن يدري لعله ابن أميرة أراوكانيّة، ومصارع ثيران من رندة’، وفي إشارة إلى خلود الشعر الذي يعبر عن وجدان الإنسان وهمومه قال لوركا عن بابلو’ يعرف أن طائر السنونو أكثر بقاء من التمثال الصلب’. وقال لوركا عن نيرودا:
( إنه شاعر أقرب الى الموت منه الى الفلسفة، والى الالم منه الى الذكاء، والى الدم منه الى الحبر. انه شاعر مليء بالاصوات الساحرة التي لا يستطيع هو نفسه ـ لحسن الحظ ـ ان يفسرها، وهو رجل حق، يعرف ان طائر السنونو أكثر بقاء من التمثال الصلب/ ان شعر نيرودا يرتفع بنغم لا مثيل له في امريكا: مليء بالحب، وكله عذوبة وصدق/ ان نيرودا لا يعرف الحقد والسخرية، وحين يريد ان يعاقب ويرفع السيف يجد نفسه امام حمامة جريحة بين اصابعه).
ولقد كان يقال دائماً إن بابلو نيرودا ‘ستاليني’. وما اظلم اختصار الأساطير الأدبية في نعت أو وصف أو علبة كبريت. وعندما سئل ديغول مرة من هو أفضل الشعراء عنده، قال ‘لا تظلموا هؤلاء الأمراء بهذه المراتب’. وإذا أردت أن اختصر نيرودا اليوم، فسوف استعير من يفغيني يفتوشنكو: ‘كان يحمل شعره إلى الناس ببساطة وسكينة، كمن يحمل رغيفاً من الخبز’.