
سردار عزيز* – (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 25/9/2020
من أكثر المصطلحات التي تُستخدم في أوساط النخب العراقية لدى انتقاد الوضع الراهن مفهوم اللا-دولة. من الصعب أن لا يصادف أي فردٍ يراقب الشأن السياسي في العراق عن كثب هذه العبارة مرات عدة في اليوم، فهي تبرز سواء خلال المناظرات التلفزيونية أو في الدردشات عبر تطبيق “واتساب” أو في المقالات الافتتاحية للصحف المحلية أو في التغريدات على تطبيق “تويتر” وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي. ولهذه العبارة التي تعني “الدولة غير الرسمية” في العراق أو وجود مجموعة من الأطراف التي تتصارع مع الدولة الرسمية على السلطة، جذور وأوجه استخدام تنطوي على مشاكل معقدة، على الرغم من أنها قد تشير أيضًا إلى مسار يمكن للعراق المضي فيه.
يعني مفهوم “اللا-دولة” نوعًا من الحكم غير الرسمي، وهو ينطبق بأوجه عدة على السياسة العراقية. ولهذه العبارة الكثير من الاستعمالات والمعاني، فهي تستخدم لتصنيف استخدام العنف أو إدانته –أو حتى تبريره من قبل أطراف سياسية في العراق. كما يستخدمها العراقيون لوصف الصراع السياسي الدائر في بلدهم حاليًا بشكل عام. ولا يمكن اعتبار اللا-دولة دولةً عميقة ولا دولةً موازية، إنما مزيج متنوع من الأطراف داخل منظومة الدولة وخارجها، وتشمل عملياتها سياسات عامة رسمية، وعنف خارج عن إطار الحكومة، وتجاذب في الخطاب الشعبي.
كان الرجل الذي وضع هذا المفهوم هو عالم الاجتماع السياسي العراقي البارز فالح عبد الجبار الذي صدر أحدث كتاب له بعد وفاته تحت عنوان “اللا-دولة” والذي يمكن ترجمته بـ”الدولة غير الرسمية” أو “معاداة الدولة”، ولكن ليس كأمرٍ منفصل عن الدولة. وكان الجبار قد أصدر سابقًا كتابًا تحت عنوان “كتاب الدولة: اللوياثان الجديد”، الذي استند الى أفكار توماس هوبز القديمة في وصف الدولة. ولا يعدّ الانتقال من مفهوم اللوياثان أو الدولة القوية/الصلبة (استنادًا إلى مفهوم نزيه الأيوبي) إلى اللا-دولة انتقالًا من دولة قوية إلى دولة ضعيفة فحسب، بل هو أيضًا بمثابة بروز موجة من التجاذب والتأرجح القوي بين أشكال مختلفة من السياسات المضللة في العراق. ولهذا التجاذب حضور قوي في السياسة العراقية الحديثة.
لطالما كان الحكم الفعال للدولة مسألةً حساسة في السياسة العراقية. ومع اقتراب الدولة العراقية من الذكرى المئوية لتأسيسها، يبدو ظاهرًا كم أنّ المائة سنة الفائتة كانت مليئةً بالأحداث. فعلى مر تاريخها، شهدت الدولة العراقية منعطفات سياسية كبيرة جمة من حكم ملكي ما بعد الاستعمار وانقلاب وجمهورية وديكتاتورية الحزب الواحد وحرب أهلية.
وعلى مر هذا القرن الحافل بالأحداث، قدم خبراء ومؤرخون شروحات كثيرة لهذا التاريخ السياسي العاصف. وعزا الخبراء سببه إلى أصول الدولة الاستعمارية بطبيعتها ومجتمعاتها المحلية المتصدعة وغياب الهوية الوطنية والانقلابات والتدخلات الخارجية والنزعة القومية (التي عززتها الدكتاتورية)، إضافة إلى الطائفية. وفي الواقع، تعود أسباب الاضطرابات السياسية في العراق إلى مزيج من هذه العوامل، علمًا أن العراق ما يزال يواجه مشاكل على صعيد الوحدة الوطنية ووحدة الأراضي ووحدة الطبقات. وبالتالي، لم تكن طبيعة الدولة العراقية يومًا فكرة بسيطةً أو ثابتةً، ويتجذر مفهوم اللا-دولة في جانب أساسي للغاية في تاريخ العراق.
يُذكر أنّ دور اللا-دولة كمفهوم وعبارة تستخدم لانتقاد الدولة العراقية متعدد الأوجه وغني المعاني. فهو لا يجسد الأزمات التي تعيشها الدولة فحسب، بل يكشف أيضًا عن تلك المرتبطة بفهم الدولة وتقييمها. ويتضمن مفهوم اللا-دولة مجموعةً من مختلف القوى والجماعات: ميليشيات الأحزاب السياسية، والجماعات الإجرامية، والجماعات القبلية المسلحة وغيرها. فاللا-دولة لا تتخطى الدولة نفسها ولا تهدف إلى إلغائها؛ إنها داخل الدولة وخارجها في الوقت عينه.
وعليه، وصف البعض قوى اللا-دولة بـ”الأطراف الهجينة”؛ حيث وفر تقرير تحت عنوان “الأطراف الهجينة” تعريفا موسعا لها على أنها “جماعات مسلحة اكتسبت أهميةً سياسيةً وعسكريةً دائمةً من خلال إنشاء قواعد شعبية لها وسط احتفاظها بالأراضي والانخراط في نزاعات مسلحة. وغالبًا ما تستولي أهم هذه الجماعات على مؤسسات الدولة وتشارك في الحكم الرسمي بدرجات متفاوتة. غير أنها تطوّر في الوقت عينه هياكل موازية للدولة، ما يمنحها استقلالية غير قانونية. إذ تنخرط هذه الجماعات الهجينة في الحروب والحياة الدبلوماسية والسياسة والحملات الدعائية وبناء القواعد الشعبية. وهي ليست دولًا بحد ذاتها، لكنّها تبني مع ذلك علاقات طويلة الأمد مع الدول الأخرى وترسم معالم الدول المضيفة لها في العديد من الحالات من خلال علاقات تكافلية أو قتالية”.
غير أنّ مفهوم “الأطراف الهجينة” لا ينطبق سوى على بعض الجماعات التي تُعد جزءًا من اللا-دولة. فاللا-دولة أكثر تعقيدًا، سواء لجهة المفهوم أو كنظام التصنيف. وفي معظم الحالات، يعتمد معنى اللا-دولة على نية الوكيل. فاللا-دولة ليست عبارةً عن جماعات مسلحة فحسب، بل تستخدم هذه الجماعات طابعها شبه العسكري كأداةٍ لتغيير الدولة لتصبح لا-دولة واستحداث شكلٍ خاصٍ من أشكال السلطة وعلاقات المصلحة. هذه الجماعات تأخذ ولا تعطي وتُضعِف من دون أن تقتل، ما يجعل من اللا-دولة كيانًا مبهمًا وغير واضح.
حين تُستخدم عبارة اللا-دولة في سياق انتقادي، فإنها تكون شكلًا من أشكال الإدانة. إذ تحمل بادئة “اللا” معنى سلبيًا، وللعبارة بحد ذاتها دلالات سلبية، ولا سيما بحسب وصف الفيلسوف توماس هوبز للفوضى خارج إطار الدولة. وتبرز الدلالات السلبية لمثل هذه الفوضى بشكل خاص في السياق العراقي حيث يلعب الأمن، أو انعدامه بالأحرى، دورًا جليًا في حياة الأفراد العاديين. وبما أنّ الأمن، وهو شرط أساسي من شروط التطور، ينبثق عن الدولة، فإنه يمكن اعتبار أنّ الدولة العراقية مرادفة للأمن والتطور في الخطاب الشعبي في حين أنّ اللا-دولة تعني انعدام الأمن وسيادة الفقر.
استخدم آخر رئيسي وزراء عراقيين، عبد المهدي والكاظمي، هذا المفهوم لتحذير العراقيين من الأخطار المحدقة. وقاما من خلال خطاباتهما بدعوة الشعب العراقي إلى الاختيار ما بين الدولة واللا-دولة. ويقسّم هذا الخطاب الشخصيات النافذة في البلاد إلى مجموعتين متعاديتين: مجموعة الدولة ومجموعة اللا-دولة. ويعد البعض في العراق أنّ اختيار الدولة هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمات الحالية، بينما يزعم آخرون أنّ هذا الخيار ليس واضحًا بما يكفي، معتبرين أنه ما من فرق واضح بين الدولة واللا-دولة. كما يعتبر آخرون أنّ الدولة بحد ذاتها هي دولة غير رسمية.
وإذا كان مفهوم اللا-دولة ضبابيًا على المستوى السياسي، فهو يطرح على المستوى الفكري إشكالية أكبر أيضاً، حيث إنه يقوم على درجة من التفكير الانفصامي المتطرف الذي لا يستوعب طبيعة التاريخ العراقي بكاملها. فمفهوم اللا-دولة هو بمثابة استمرارية لنمط تفكير عراقي شائع للغاية يقوم على التفكير المزدوج أو الثنائي، والذي روّج له عالم الاجتماع العراقي البارز على الوردي. وقد استند الوردي إلى التفكير الاجتماعي لابن خلدون وفهم أنّ تاريخ العراق لا يمكن اعتباره تطورًا خطيًا مستقيمًا لأشكال التنظيم الاجتماعي لما قبل الحداثة إلى أشكال حديثة، إنما هو صراع مستمر بين الحضارة والبداوة؛ أي بين ثقافات الحياة الحضرية والولاءات الأساسية للقبائل والطوائف.
وقد أصبح هذا التفكير الثنائي والمزدوج شائعًا ويُمارَس على الدوام، شأنه شأن ممارسة الطقوس في أوساط المثقفين العراقيين. وازدواجية الدولة واللا-دولة ليست سوى شكل آخر من أشكال ذلك التفكير.
وكما هو حال أي ازدواجية، فهي عادةً ما تعاني من المشاكل الملازمة للتفكير الثنائي والهيمنة الراسخة. وبشكل عام، فإن التاريخ العراقي الحديث معقد للغاية بحيث يستحيل حصره في أسلوب تفكير ثنائي. وإن كانت اللا-دولة تطرح مشكلة، فهذا لا يعني أنّ الدولة -وبخاصة دولة صلبة وقوية- ستكون هي الحل. إذ يمكن للدولة أن تطرح بدورها إشكالية كما أظهر نظام صدام حسين الدكتاتوري. فتاريخ العالم حافل بالأمثلة الواضحة على أنّ لا الدولة القوية ولا المجتمع القوي من شأنه أن يسفر بالضرورة عن نشأة دولة ليبرالية.
وعلى نحو مماثل، يتناول تعريف ماكس ويبر للدولة الصعوبة في اعتبار الدولة حلًا لمشاكل العراق. إذ يعرّف ويبر الدولة على أنها “ذريعة لاحتكار الاستخدام المشروع للقوة البدنية ضمن أرض محددة”. وهي، في السياق العراقي، مرادفة على الأرجح للدكتاتورية.
وعليه، ليس من المستحيل إقامة دولة ديمقراطية تعاقدية في العراق، إلاّ أنّه أمرٌ صعب مع ذلك. فقد أدت مشاعر القومية المتنافسة إلى تهميش المجتمعات الإثنية وتقسيم الهوية الوطنية في العراق. وبغية تكوّن هوية وطنية فعلية، يتطلب شكل القومية المحلية العراقية حديث المنشأ والمعروف بالوطنية (مقارنة بالقومية العربية) عملية اجتثاثٍ للتطرف. فمن شأن أي شكل من أشكال الهوية القائم على الطائفة أو الدين أو الإثنية أن يصطدم مباشرة مع واقع العراق باعتباره دولة موحدة.
ومع ذلك، ثمة أمل في مستقبل عراقي ينعم بدولة مستقرة ولامركزية. وقد حفّز سقوط دولة العراق حماسة قوى إقليمية أخرى (ومنها إيران وتركيا في المقام الأول) على التوسع، وتعيد المنطقة اليوم هيكلة منظومتها للتعامل مع هذه القوى التوسعية. والكثير من القوى في اللا-دولة تجمعها روابط أمنية وأيديولوجية بهذه القوى الأجنبية. والآن، يواجه العراق مسارًا عسيرًا ليعود من حكم اللا-دولة إلى حكم الدولة.
إن التركيز على مفهوم اللا-دولة وعلاقتها بالدولة هو مؤشر واضح على أنّ الشعب بدأ يبتعد عن الأيديولوجيات ويمنح الأولوية للخدمات والأمن والازدهار وفق توقعاتهم لما يجب أن تقدمه الدولة الوظيفية. ويمكن لهذه النقلة أن توفر وسيلةً جديدةً لإعادة تصوّر الديناميات السياسية العراقية في المستقبل.
*كبير المستشارين في البرلمان الكردي وباحث وكاتب. وتشمل مجالات اهتمامه العلاقات المدنية-العسكرية والسياسة الإقليمية في الشرق الأوسط ونظم الحكم. حاصل على شهادة الدكتوراه في الشؤون الحكومية من كلية جامعة كورك.