“غرابة في عقلي”.. لماذا لا يحب القراء الأتراك “أديب نوبل” أورهان باموق؟

من الصعب العثور على معجب بأورهان باموق في تركيا والسبب قد يعود لوكلائه التجاريين ودور النشر التي تنشر كتبه، وتعليقاته في وسائل الإعلام، والجدل السياسي حوله، بالإضافة لخصائص اللغة التركية.

Share your love

باموق الحائز على "نوبل للآداب" في معرض مكسيكي للكتاب (الفرنسية)

عمران عبد الله

يتناول الأديب التركي أورهان باموق في روايته “غرابة في عقلي” مدينة إسطنبول التي ولد فيها وتعلق بها بشدة معتبراً أنها احتضنت خليطاً من الثقافات والشعوب والأعراق، واشتملت كذلك على نقائض وغرائب لا يمكن تصورها.

وفي رحلة مدتها أكثر من نصف قرن يتجول بنا الأديب -الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2006- عبر شوارع وأزقة مدينته الأثيرة ليعاين التغيرات والمحطات التاريخية المهمة التي عاشتها بعيون بائع متجول يدعى “مولود قره طاش”. 

لكن الغرابة والمفارقة ليست في عقل مولود (بطل الرواية وبائع شراب البوظة الشعبي) وأسئلته البريئة فحسب، وإنما هي سمة كتابات “أديب نوبل” الذي رغم شهرته العالمية لا يسهل العثور على معجبين كثر به في مدينته الأصلية ووطنه الأم. 

ويرى ألبر ياجي الأكاديمي التركي بجامعة البوسفور أنه من الصعب العثور على معجبين كثر بباموق في تركيا، مبدياً حيرته من هذا اللغز الذي يستفسر عنه أصدقاؤه الأجانب، فرغم شهرته العالمية ورواياته المصنفة ضمن الأكثر مبيعاً في بلده، فإن الإجابة التي يتوقع أن يدلي بها قارئ تركي لدى سؤاله عن أدب باموق هي “تخليت عن كتابه بعد خمسين صفحة.. أو نحو ذلك”. 

ويناقش ياجي في مقاله “مخاطر التسويق” الناجح للغاية، أو لماذا لا يحب الأتراك باموق” هذه المفارقة التي يحصر أسبابها بوكلائه التجاريين ودور النشر التي تنشر كتبه، وتعليقاته في وسائل الإعلام، والجدل السياسي حوله، بالإضافة لخصائص اللغة التركية وقواعدها.

اللغة والتسويق
يستذكر ياجي لقاءه الأول مع باموق في روايته “اسمي أحمر” التي صدرت بعنوان استفزازي محير وغلاف جميل ومثير للفضول، وبدا الغلاف وكأنه شيء ترغب بشرائه وفتحه واللعب به، إذ اعتاد الأتراك أن تكون أغلفة روايات الأدب العالمي بسيطة وعادية (وقورة) لكن رواية باموق بما فيها من غموض وإثارة بدت وكأنها تنتمي لعالم الترفيه، وهو ما لم يكن شائعاً في تركيا.

وبالنسبة للغة فقد كان السرد مملاً والجمل التركية طويلة للغاية والشخصيات غير محببة، وإضافة لذلك قال بعض القراء إن باموق “جعل تركيا تبدو كدولة شرق أوسطية أكثر مما ينبغي” وهو ما لم يكن متماشياً مع المزاج الأدبي الرائج حينها.

ويقول ياجي إن مزاج القراء منذ خمسينيات وحتى بداية ثمانينيات القرن الماضي كان “متأثراً بتوجه اليسار الذي حدد ما هي القراءة الأدبية الجيدة في جو أيديولوجي مشحون اخترق الجامعات أكثر من أي مكان آخر” وكان شائعاً قراءة روايات أدب الواقعية الاجتماعية والطبعانية للكتاب الروس والفرنسيين مثل ديستوفيسكي وفيكتور هوغو ومكسيم غوركي وإيميل زولا والأميركي جون ستاينبيك، وعلى جانب آخر تأخر اطلاع الأتراك على القصص الخيالية وأدب ما بعد الحداثة. 

وبعد الانقلاب العسكري اليميني عام 1980 لم يعد مزاج القراء كما هو، تم سحق كثيرين تحت التعذيب وفي السجون والمنافي، وبالنسبة للآخرين بدأ الاهتمام ينصب بالبقاء والحفاظ على حياتهم الاجتماعية، وحرص النظام العسكري آنذاك على إسكات المثقفين “التخريبيين”. وتكشف بعض سجلات تلك المرحلة عن أوامر تهدف لصرف الشباب التركي عن القراءة، وفي هذه الحقبة بدأت أسهم باموق في الصعود، بحسب الباحث التركي.

يقول ياجي إن كتبه الأولى حققت انتشاراً محدوداً في أوساط أكاديمية، ومع نشر “الكتاب الأسود” عام 1990 وحملة دعاية كبيرة غير معتادة في تركيا حققت الرواية إعجاب القراء وارتفعت مبيعاتها كثيراً وهو ما تكرر مع الرواية التالية “الحياة الجديدة” عام 1994. قبل أن تخرج “اسمي أحمر” للنور نهاية التسعينيات مع حملة تجارية ودعائية كبيرة، بحسب ورقة الباحث التركي المنشورة بمنصة أكاديميا.

في هذه المرحلة أصبح باموق عملاقًا أدبيًا على المستوى العالمي، لكن قليلين في تركيا بدوا معجبين بكتبه، واتهمه كتاب مشهورون بأنه يعتمد على التسويق وخطط الدعاية، وحاول بعض الصحفيين التشكيك في مصادره واتهموه بالانتحال، ويرى ياجي أن الحملة الإعلانية أدت لدخول الرواية التركية لبيوت لم يدخلها غير روايات أغاثا كريستي مثلاً، وهؤلاء لا يتوقع أن يحبوا أدب باموق الذي بدا وكأنه باع الكثير من الكتب للقراء الخطأ.

وتتميز أعمال باموق بالارتباك أو فقدان الهوية الناجم عن صراع القيم الغربية والشرقية، وهذا التوتر مألوف في روايات الأديب التركي الذي تحدث عن مصادر إلهامه قائلاً “أنا فقط أستمع إلى موسيقى داخلية، ولا أعرف سرها بالكامل. ولا أريد أن أعرف”.

الآراء الشخصية
يبدو العالَم -الذي سرده وبناه باموق في رواياته أيضاً- غير مألوف للمزاج الأدبي التقليدي في البلاد، ويقول الباحث إنه بينما يعتقد القارئ الأجنبي أن الأديب التركي ينعش بخياله الأدبي صورة بلده ويعيد إليها الصورة الساحرة التي فقدتها مع الثورة الكمالية الجمهورية “العقيمة ثقافياً” وغيبها “الخيال القومي العلماني” في الواقع -يستدرك ياجي- يبني باموق إسطنبول أصيلة للغاية عبر مزيج من الخيال الحديث وما بعد الحديث من ناحية والرومانسية الإسلامية في العصور الوسطى من ناحية أخرى. 

ويعتقد الباحث -الذي لا يخفي إعجابه بأديب نوبل- أن الأخير يبني طبقات تاريخية متعددة تمثل الهوية الحقيقية للمدينة، لكن للمفارقة فإن هذه المدينة التي يرسمها باموق ليست ما ترغب به “البرجوازية التركية الطموحة” ولا “اليسار السياسي” على حد سواء. 

وإضافة لذلك أثارت تعليقات باموق السياسية جدلاً واسعاً، وكذلك مواقفه الدينية، وانتقد من خلفيات سياسية متعددة بينها اليمين القومي واليسار السياسي والإسلاميون والمحافظون على حد سواء، وتعرض للمحاكمة بتهمة “إهانة الهوية التركية” على خلفية انتقاده لما تسمى “مجازر الأرمن” وانتقاده لشخصية مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، وأسقطت المحكمة في وقت لاحق التهم الموجهة إليه.

ورغم قلة تعليقاته السياسية فقد أثارت بعضها غضب كثير من القراء، ويلقي باموق باللائمة على وسائل الإعلام التي يقول إنها لا تسأل الأدباء في الغرب عن آرائهم السياسية.

الرواية العالمية
وفي كتابه “الرواية العالمية” يناقش الناقد والشاعر الأميركي آدم كيرش أبرز المحاولات للتنظير للرواية العالمية بوصفها نوعا وفنا أدبيا نموذجيا للقرن 21، ويرى -في الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية حديثاً عن دار المدى- أن التحدي أمام الروائيين العالميين يمكن أن يكون أسلوبيا وتقنيا، فالكاتب المتجذر في ثقافة معينة سيجد صعوبة في نقل حقيقتها لقراء من ثقافات أخرى بعيدة ومختلفة.

ويعود الكاتب للاستشهاد بباموق الذي كتب رواية “ثلج” بالتركية ونجح فيها في نقل بيئة محلية شرقي تركيا لمستوى عالمي، كما نجح في تمثيل كافة فئات المجتمع في “مسرح الشعب” الذي تجري فيه أحداث الرواية ويجلس المشاهدون من مختلف الأطياف التركية لمشاهدة مسرحية دعائية.

واستطاع باموق تحويل ما يجري في “قارص” لموضوعات ذات صدى عالمي عبر الغوص في المدينة الغارقة في الفقر والبؤس والانقسامات السياسية، إذ ينتقل بطل الرواية إليها للتحري عن موجة الانتحار التي قامت بها بعض الفتيات المحجبات، ويطلب منه أيضا تغطية انتخابات البلدة التي يتوقع فوز الإسلاميين فيها.

غلاف كتاب مترجم للناقد الأميركي (الجزيرة)

وتحمل القصة جوانب عاطفية وإنسانية، فهي تجسد قصة حب وجانبا بوليسيا تشويقيا عبر التحقيق الصحفي وجريمة قتل، وتتناول كذلك جوانب فكرية وسياسية لها علاقة بالصراع في قارص بين الإسلاميين والعلمانيين وأقليات الأكراد والأرمن، ويصل الصراع لذروته في الرواية عندما تقوم جماعة مسرحية بعمل انقلاب دموي عسكري لمنع الإسلاميين من الفوز في الانتخابات البلدية، ودام الانقلاب ثلاثة أيام طويلة في قارص المحاصرة بالثلوج والمقطوعة عن بقية العالم.

لكن ما يحوّل باموق -من وجهة نظر كيرش- لكاتب عالمي أنه يتناغم مع المخاوف الغربية من تركيا الحديثة، فبحسب رؤية كيرش تعد تركيا دولة “إسلامية تقليدية” خضعت “للعلمنة القسرية” في عشرينيات القرن الماضي وبدأت في رؤية تجدد “الإسلام السياسي” بحلول التسعينيات، وعلى هذه الخلفية، يداعب باموك المخاوف الغربية حول الصراع بين الإسلام والعلمانية، وبين الحرية الشخصية والمعتقد الجماعي.

ويعترف كيرش بوجود صعوبة أحيانا في قراءة باموق على أنه “سفير” تركيا الأدبي لبقية العالم، خاصة أن الأخير يتخلى عن هذا الدور من خلال استخدامه أسلوب التلاعب بالألفاظ والعناصر شديدة المحلية في روايته، على سبيل المثال، اسم بطل الرواية “كا” واسم البلدة “قارص” وكلمة تساقط الثلوج هي “كار” (وهو العنوان التركي الأصلي للرواية) وهذه الكلمات كلها تشبه بعضها صوتيا لكنها تفقد هذه الميزة عند الترجمة من التركية للإنجليزية.

إذن يشكل “كا” جسرا لغويا بين البطل والمدينة والثلوج، وتشير التورية لوحدة عميقة لكنها غير قابلة للترجمة، وهذا قد يعني أن باموق قد يكون استسلم لحقيقة أنه من المستحيل معرفة مكان ما عن طريق الأدب فقط.

شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!