غروب الصحف المسائية بمصر.. ترشيد ورقمنة أم بطالة مقنّعة؟

في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصحافة المصرية، قررت الهيئة الوطنية للصحافة تحويل إصدارات مسائية شهيرة لمؤسسات صحفية حكومية إلى النسخة الإلكترونية، وإلغاء طبعاتها الورقية، وسط جدل حول الأسباب.

Share your love

اجتماع سابق للهيئة الوطنية للصحافة والمجلس الأعلى للإعلام بمصر (مواقع التواصل)

القاهرة – في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصحافة المصرية، قررت الهيئة الوطنية للصحافة تحويل إصدارات مسائية شهيرة، تابعة لمؤسسات صحفية حكومية، إلى النسخة الإلكترونية، وإلغاء طبعاتها الورقية التي يعود تاريخ نشأتها إلى منتصف القرن الماضي.

ولم يكن إعلان شهادة وفاة الطبعات الورقية بالإعلام الحكومي، والتوجه نحو الرقمنة، هو الأول من نوعه، إذ سبقتها صحف خاصة كانت واسعة الانتشار، لأسباب كان أبرزها تراجع التوزيع فضلا عن غياب الحريات الإعلامية والتضييق الأمني، وفق تقارير ومراقبين حقوقيين.

وثمة أسباب عدة، في توجه الإعلام القومي نحو الرقمنة ودمج مؤسسات كبرى، تتمثل -وفق خبراء وصحفيين تحدثت إليهم الجزيرة نت- في فرض إعلام الصوت الواحد وقمع الحريات الإعلامية والهيمنة عليها، مما أثر سلبا على المحتوى والمضمون عموما وعزوف القراء عنها كنتيجة حتمية.

كما تأتي الخسائر المتراكمة منذ عقود، وعدم القدرة على منافسة الإعلام الجديد (السوشيال ميديا) والمواقع الإلكترونية بجانب الفضائيات، كأحد أسباب غروب شمس الطبعات الورقية المسائية التي تمثل بداية نحو ترشيد النفقات بدمج ووقف طباعة مجلات وصحف أخرى.

غروب صحف المساء

ويوم الأحد الماضي، أعلنت الهيئة الوطنية للصحافة توقف الإصدارات الورقية من الصحف المسائية، والتحول إلى الإصدار الرقمي، لصحف “الأهرام المسائي” التابعة لمؤسسة الأهرام، و”الأخبار المسائي” الصادرة عن مؤسسة أخبار اليوم، و”المساء” الصادرة عن مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر والتي تعد أول جريدة مسائية في البلاد وكانت صوتا لثورة 23 يوليو/تموز 1952 التي أنهت النظام الملكي وأعلنت الجمهورية.

ونص القرار على احتفاظ العاملين، بالإصدارات الإلكترونية لتلك الصحف، بجميع وظائفهم وحقوقهم المالية من أجور ومزايا مالية أخرى، على أن يسري القرار اعتبارا من 15 يوليو/تموز الجاري.

واستعرض اجتماع الهيئة المسؤولة عن الصحافة طلبات بعض المؤسسات الصحفية استثمار أصولها، في حين طلبت الهيئة تقديم دراسات جدوى لتقييم العروض المقدمة “حرصا على استثمار الأصول المملوكة للمؤسسات لتعظيم مواردها المالية”.

ولم تكن الصحف الرسمية الأولى من نوعها في مصر التي تتجه نحو “الرقمنة” إذ اتخذت صحف خاصة المنحى ذاته بتقليص أرقام التوزيع وتسريح العاملين وصولا للإغلاق، منذ عام 2015، على غرار “التحرير” التي توقفت عن الصدور، و”المصريون” التي تمت مصادرتها من جانب السلطات، بجانب الموقعين الإلكترونيين الإخباريين “مصر العربية” و”البديل” اللذين توقفا عن العمل لأسباب تتعلق بالجانب الأمني وزيادة درجة التضييق على العمل الصحفي.

وكانت صحف عالمية واسعة الانتشار صاحبة السبق في اتجاه التحول من الورقي إلى الرقمي، من بينها مجلة تايم الأميركية الشهيرة التي توقفت عن الطباعة واكتفت بالنسخة الإلكترونية، الحياة اللندنية التي توقفت تماما بعد أن كانت من أشهر الصحف العربية على مدى سنوات.

جناة وقتلة

بكلمات يملؤها الحزن، حمَّل الكاتب الصحفي محمد أبو كريشة، مدير تحرير صحيفة الجمهورية (حكومية) المسؤولين وصناع المهنة أنفسهم مسؤولية غروب الصحف المسائية.

وقال في منشور عبر فيسبوك “إذا ماتت الصحف الورقية عندنا فلابد من تشريح جثتها قبل دفنها لأنها ماتت مقتولة، ووراء قتلها جناة كثيرون، فقد قتلها أهلها الذين يطالبون بأرباح وحوافز بلا عمل ولا موارد ولا مكاسب” فضلا عن أسباب عديدة أخرى ساعدت في التمهيد لاغتيال الصحف الورقية، من بينها تحول الصحفيين إلى نفاق السلطة وأصحاب المصالح، إضافة للمسؤولين الذين جعلوها أبواقا لتصريحاتهم الغثة، وفق قوله.

ولم يستثن الكاتب مسؤولي تلك المؤسسات، الذين اعتبرهم تحولوا بفضل موارد مؤسساتهم إلى مليارديرات، وذلك عبر سرقة الإعلانات وإقامة وكالات إعلان خاصة، إضافة إلى من تكالبوا على المناصب والترقيات بلا عمل، وتوريث المناصب لأبناء وأحفاد العاملين، مختتمًا “قتلها كثيرون.. قتلناها جميعا ونمشي الآن في جنازتها نذرف الدموع”.

بداية النهاية

ممدوح الولي نقيب الصحفيين ورئيس مجلس إدارة الأهرام السابق، عزا أسباب غروب الصحف المسائية إلى الخسائر المتراكمة ومساعي ترشيد الإنفاق، مؤكدا أنها بداية لن تنتهي هنا فحسب.

وفي تصريحات للجزيرة نت، أوضح الولي أن المسار ذاته سيتم اتخاذه بالنسبة للمجلات الرسمية التي تعد أعلى تكلفة من “الورقية” نظرا لحاجتها إلى طباعة وورق ذي مواصفات خاصة وتكلفة مرتفعة.

ورحب نقيب الصحفيين السابق بقرار التحول نحو الرقمنة وترشيد النفقات، مشددا على أن الترشيد يطيل من عمر هذه المؤسسات القائمة على المعونات والدعم الحكومي.

وأشار إلى أن العدد الكبير لإصدارات الصحف الحكومية المقدر بنحو 55 إصدارا، والتي لا يستوعبها السوق حاليا، مع عدم التنوع في المضمون لغياب الحريات وعزوف القراء، أدى إلى خسائر بالجملة داخل تلك المؤسسات وتراكمها، مما انعكس على نسبة تحصيل الإعلانات.

وأكد الولي أن كل المؤسسات الحكومية تخسر، لكنه رأى أن الأمر لا يتمثل في مسألة تصفية العاملين، إنما في كون الحاكم في العالم الثالث عموما يظل بحاجة للإعلام الورقي كنوع من الوجاهة والتعظيم.

وأضاف أن المسؤول عن تلك المؤسسات ذكي ولن يصطدم مع العاملين والصحفيين في الإعلام الحكومي، بل سيحتفظ بالعمالة على أن يقوم بالتدرج في مسألة تقليل الإنفاق، دون اللجوء للحلول الجذرية، وذلك لامتصاص صدمات الصحفيين والعاملين.

ونصح الولي، خريجي كليات الإعلام في مصر، بالابتعاد عن العمل بالصحف الورقية بسبب عدم الإقبال عليها وغياب الحريات، والتوجه نحو التخصص المهني واللجوء للإعلام الإلكتروني والفضائي، وتطوير الذات بعيدا عن الأماكن التي لن تمنح إضافة مهنية.

المثوى الأخير

في المقابل، رأى الكاتب الصحفي قطب العربي، رئيس المرصد العربي لحرية الإعلام (خاص) أن رقمنة الصحف المسائية الحكومية تعبر عن المصير المتوقع منذ اللحظات الأولى لوصول النظام الحالي إلى السلطة، وفرض إعلام الصوت الواحد وقمع الحريات الإعلامية.

العربي -الذي شغل سابقا منصب الأمين العام المساعد للمجلس الأعلى للصحافة (حاليا الهيئة العامة للصحافة)- يقول للجزيرة نت إن النظام المصري لم يعد بحاجة لتلك الصحف التي لم يتوقف نزيف خسائرها ومديونياتها والتي تجاوزت 20 مليار جنيه (الدولار أقل من 16 جنيها) متوقعا أن تشهد الفترة المقبلة توديع صحف ومجلات القراء إلى مثواها الأخير.

وحول أسباب تضييق الخناق على الصحافة الرسمية، أشار العربي إلى أن النظام أصبح يعتمد على منظومة إعلامية جديدة تتمثل في صحف ومواقع وقنوات وشركات إنتاج تلفزيوني وسينمائي، تملكها المخابرات وتديرها من خلال واجهات مدنية.

كما استبعد الاهتمام الرسمي بمصير مئات الصحفيين والعاملين في المؤسسات القومية الذين سيفقدون وظائفهم، مشيرا إلى أن النظام يستغل حالة الضعف والتفكك التي تمر بها نقابة الصحفيين.

أسباب وتداعيات

محمود السماسيري الأكاديمي المصري وأستاذ الإعلام بجامعة سوهاج (جنوب) طرح عددا من أسباب رقمنة الصحف، مشيرا إلى أن التحول في صناعة الصحافة الورقية يعد مؤشرا نحو تصفيتها وتسريح العاملين بها.

ووفق تصريحات السماسيري للجزيرة نت، يأتي الواقع الذي يمر به الإعلام من تطورات تكنولوجية على رأس أسباب التحول نحو الرقمنة، بما يمكن المتلقي من تحديد مدى أهمية الخبر الصحفي دون فرض أطر على المضمون، أو طرح وجهات نظر معينة.

وفيما يخص الصحافة والإعلام الحكومي، قال إنه يواجه تراجعا كبيرا أمام الإعلام الخاص، مشيرا إلى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه بات يتوجه إلى الإعلام الخاص للإدلاء بأحاديث للجمهور بعد تراجع معدلات مشاهدة وقراءة إعلام الدولة.

وتوقع السماسيري أنه سيكون من النادر توفير وظائف صحفية مستقبلا، حيث ستكون المساحة الوحيدة المتاحة للإعلام هي الرأي، مع اختفاء المؤسسات الإعلامية الضخمة التي تنفق المليارات، في وجود أدوات مثل يوتيوب وغيرها.

ورحب الأكاديمي المصري بالتوجه نحو الرقمنة، مؤكدا أن استمرار الصحف القومية الورقية “أمر من العبث الرسمي بسبب ديونها الضخمة”.

أرقام ومؤشرات

في هذا السياق، كشف مصدر بصحيفة “المساء” مفضلا عدم ذكر اسمه، للجزيرة نت، أن الصحيفة حتى وقت قريب كانت تطبع نحو 50 ألف نسخة يوميا، يتم توزيع أغلبها، لكن حاليا الطبع يبلغ حوالي 10 آلاف نسخة يعود نصفها “مرتجعات”.

وحذر هذا المصدر من أن العاملين بالصحف المسائية سيمثلون “برميل بارود” بعد إحالتهم إلى البطالة المقنعة داخل مؤسساتهم الصحفية، بحسب وصفه.

هذا وقد وقع عدد من الصحفيين في “المساء” خطابا موجها للرئيس يناشدونه التدخل لوقف القرار، موضحين تاريخ الصحيفة، ومؤكدين استمرار دعمهم للدولة المصرية، وهو تعبير انتشر مؤخرا ويقصد به غالبا دعم السلطة.

ولا يوجد حصر دقيق أو رسمي لعدد العاملين بالصحف الحكومية البالغ عددها 8 مؤسسات تقدم نحو 55 إصدارا مختلفا، غير أن رئيس الهيئة الوطنية للصحافة كان قد تحدث العام الماضي عن أكثر من 20 ألفا في حين تذهب إحصائية أخرى إلى ما يقرب من 30 ألفا ما بين صحفيين وإداريين ومتعاونين.

وهذه المؤسسات يتراوح إجمالي ديونها بين نحو 14 و25 مليار جنيه، وهي تقديرات أسفرت عن جدل تحت قبة البرلمان مطلع العام الجاري، حول الرقم الفعلي للديون.

عام 2018 لم تتأثر الصحف الورقية بقوة بسبب الصحافة الرقمية، حيث بلغ معدل التوزيع اليومي آنذاك 1.4 مليون نسخة، وفق تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في مايو/أيار 2020.

ويقدر الجهاز الحكومي عدد الصحف العامة التي صدرت عام 2018 بنحو 70 صحيفة منها 3 حزبية مقابل 76 صحيفة عام 2017، في الوقت الذي قدرت فيه دراسة سابقة للمصدر ذاته عدد الصحف عام 2010 بـ 142 صحيفة.

وعام 2017، حجبت السلطات 500 موقع إلكتروني، وقد بلغ عدد المواقع المحجوبة حسب آخر رصد الشهر الماضي قامت به مؤسسة حرية الفكر والتعبير (حقوقية/خاصة) 124 موقعا.

شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!