غلاء المهور إحدى الآفات التي اعترت نظام تكوين الأسرة الذي يبتدئ بالزواج. فالمهر أو الصداق هو في الأصل مقدار غير محدد من المال، سواء كان نقديا أو عينيا، قد سنه الشرع الإسلامي كهدية من الرجل المتقدم للزواج إلى من يريد الاقتران بها. ويذهب المبررون لحكمته من أهل التفسير إلى أن هذا المهر إنما فُرض لإبداء الجدية من الرجل المتقدم للزواج من ناحية، ومن ناحية أخرى هي كنوع من إظهار التقدير والاحترام للمرأة المتقدم لها. كما وأن هذا المهر يوجه إلى المرأة المعنية بالزواج، لا إلى ذويها من أب وأم وأخ… وهذا هو ربما التفريق الدقيق الذي امتاز به الشرع الإسلامي عن بعض الشرائع والأعراف الأخرى، والتي جعلت من المهر ثمنا يدفع لذوي المرأة المعنية بالزواج. كما أن هذا التفريق هو الأساس الذي تقوم عليه فكرة غلاء المهور بما تضمنته من شبهة تجارة تشوب عملية الزواج.
ما هي الأشياء الناجمة عن غلاء المهور ؟
موقف الشرع من غلاء المهور
إن فكرة المهر لم يأتِ به الشرع الإسلامي من عدم، وإنما هي لها جذور ممتدة في الثقافات المختلة بما فيهم الثقافة العربية قبل الإسلام. وكما أسلفنا القول، فإن الذي تميز به الشرع الإسلامي عن العرف القائم حينها أن العرف القائم كان يقر بدفع المهر لأهل المرأة المعنية بالزواج، أما الإسلام فإن ما فعله أنه حول وجهة هذا المهر من ذوي المرأة إلى المرأة ذاتها كحق لها على ما استحله الرجل منها. وإذا ما تناولنا قضية غلاء المهور وهل كان المهر معلوم ومحدد القيمة أم لا، فنحن نعرف تلك القصة التي تروي لنا أن رجلا من صحابة النبي قد ضاقت به الأحوال أشد الضيق، وهو على ذلك يريد أن يتزوج بامرأة أرملة وليس لديه ما يمهرها به، فعندما اشتكى إلى النبي بذلك لم يكن منه إلا أن قال له: التمس لها ولو خاتم من حديد.! نعم، إلى هذا الحد أراد الشرع الإسلامي أن يحول قضية المهر برمتها من قضية مادية إلى قضية معنوية إن هدفت فإنها تهدف إلى إظهار جدية النية وتوثيق العلاقة بين الرجل والمرأة، كما تهدف إلى عمل الرجل على إظهار الحب والتقدير لمن أراد الزواج منها.
موقف العرف من غلاء المهور
وعلى تمام النقيض من موقف الشرع، فإن ما جرت به الأعراف في الثقافة العربية “الإسلامية” تجاه منظومة الزواج في مراحله التكوينية، على غير غرار ما جاء به الشرع الإسلامي (المحرك لهذه الثقافة) وما اشتمل عليه من تعاليم هدفت إلى التيسير وقضيان الحاجات على نحو هين لين في العموم، كما هدفت إلى إقامة علاقة من الود والمياسرة بين الزوجين في الخصوص. وتذهب الكثير من الأسر ممن لديهم إناث في سن الزواج_ إلى المغالاة في المهور بما اشتملت عليه من ذهب ومقدم صداق ومؤخر صداق… إلخ، وذلك بحجة حفظ حقوقها وضمان مستقبلها من الضياع إذا ما عبثت المشاحنات بينها وبين زوجها بالعلاقة بينهما فأدت إلى الانفصال. وكأن هذه الأسر لا تفكر في مسألة الزواج إلا وتسبقها بالتفكير في مسألة الطلاق الذي هو من المفترض أن يكون أمرا شاذا عن القاعدة، والذي من المفترض أن يكون أمرا أكبر وأجلّ من مجرد حسابات مادية تتدخل في تفاصيل مخجلة في كثير من الأحيان. كذلك فإن سؤالا منطقيا يثور في الذهن اليقظ المتقد: أليس من أهم الأشياء التي تهم كل أسرة أرادت تزويج بناتها أن يكون المتقدم للزواج على حظ عظيم من الاستئهال من حيث مكارم الأخلاق وحبه وتقديره لابنتهم؟ ثم يكون السؤال المترتب بعد ذلك: أليست المصيبة _إن حدث انفصال في المستقبل، والذي تهون بجواره التفاصيل الأخرى_ تكمن في تشتت أسرة وانطفاء وهج بيت كان مفعما بالدفئ والمودة والرحمة يوما؟ أم أنها في مجرد تفاصيل مادية مرجعها قائمة المنقولات تلك “القايمة”؟ ثم، وأخيرا، أليس الغرض الأساسي من فكرة المهر هو هدية من الزوج إلى المرأة التي يريدها؛ إثباتا للجدية والحب والتقدير (ومن أخص ما تمتاز به الهدية هو صدورها عن طيب خاطر من المُهدي بها)، أم تراه تأمينا لمعاشها فيما بعد الانفصال الذي افتُرض ضمنيا من قبل وقوع الزواج؟! وهذه النقطة الأخيرة بالذات (تأمين المعاش) سوف نفرد حولها حديثا فيما سيأتي من هذا المقال.
غلاء المهور كلون من ألوان التجارة
على أن الأمر يتعدى في بعض الأحيان قضية تأمين معاش المرأة فيما بعد الانفصال ليمسي ثمنا لشراء المرأة من أبيها، وذلك بعد أن تم تحويل وجهة المهر من المرأة المعنية بالزواج إلى ذويها في مثل هذه الزيجات. ينتشر في ثقافة الفقر _الذي يؤدي بدوره إلى الاستغلال والانتهازية_ ما يعرف بسماسرة الزواج، والذين يقومون في هذا النوع من الزواج مقام ال”خاطبة” في الزواج العادي قديما، غير أن مفهوم السمسار أو الوسيط إنما يتضمن في الحقيقة عملية تجارة لسلعة يتداولها طرفين هما البائع والمشتري. وفي ظل حصار ثقافة العوز من ناحية، وانحطاط إحدى أسمى المشاعر الإنسانية متمثلة في مشاعر الأبوة والأمومة من ناحية أخرى، تكون البنت بالنسبة لأبيها أو لأسرتها ما هي إلا سلعة منتظرة في المخزن (البيت) إلى أن يأتي سمسار العرائس يطلبها إلى مشترٍ (زوج) آتٍ من إحدى البلدان باذخة الثراء، والذي سيقوم بدوره بدفع ثمنا عاليا فيها (مهرها). وفي بعض الأحيان يكون هذا الزواج زواج مؤقت (زواج المتعة). مما يعني أننا بصدد عملية تجارية محضة ليس فيها من قداسة العلاقات الإنسانية (والزوجية بالأخص) ذراعا ولا باعا.
نظرة أوسع وعلاجا أنجع
وإذا ما تأملنا قضية غلاء المهور في إطارها الأوسع، والتي رأينا ما بها من شبهة نخاسة أو تجارة، فلسوف نجدها بالأساس قضية من قضايا المرأة. قضية مساواة، قضية استقلالية. لا نريد أن ندخل الآن في فكرة المهر من الأساس وأساس نشأتها وتحليل اشتمال الشرع الإسلامي عليها، الأمر الذي أحال الكثير من الفقهاء إلى اعتبارها ركن من أركان الزواج؛ ذلك أن في هذا الدخول ما يضطرنا إلى الكثير من التحليل الفلسفي لما وراء الشرع والقانون وما يجمع بينهما من عوامل مشتركة وأشياء كثيرة أخرى لا نود الدخول إليها الآن لضيق السياق عنها. وإنما كل الذي نود الإشارة العابرة إليه هو قضية غلاء المهور وليس المهور في ذاتها. ذلك أن غلاء المهور يحتج العاملين به كما قلنا بحفظ حقوق ابنتهم وتأمينا لها إذا ما طُلّقت، غير أننا إذا ما سلحنا هذه الفتاة بالتعليم اللازم والإقحام في موج الحياة لتقف من الرجل موقف الندّ والمنافس، لاكتسبت من الصلابة والاستقلالية والقدرة على المواجهة والخوض في معترك الحياة ما يغنيها عن مثل هذا العوز المستقبلي المفترض رجما بالغيب. ومن ثم لما احتجنا لمثل هذا الإبخاس لقضية هي من أجل القضايا في هذا الوجود.. قضية العلاقات المقدسة بين الرجل والمرأة، فلا هي أُطِّرت بالمادة، ولا هي انحصرت في صورة مالك ومملوك، بل هي علاقة قائمة على التوافق والتكافؤ والتناغم والحب والتقدير الذي يهون معهما كل ما له علاقة بالمادة.