غَضَبُ النّساء أمل البشريّة الأخير: ثمّة شيء فاسد في المملكة المتحدة يا شكسبير!
[wpcc-script type=”0040792da678dd2ae78097b5-text/javascript”]

نجحت بريطانيا بحكم تراكم قوّتها الناعمة، في تقديم نفسها كنموذج معولم عن نظام ديمقراطيّ يقوم على التّوازن النظريّ بين السّلطات، وحريّة العمل السياسي وتبادل مفاتيح السّلطة، وحكم القانون والمؤسسات، وحماية حقوق وحريّات الأفراد.
وقيل لنا إن الشرطة البريطانيّة من تحضّرها لا تحمل الأسلحة الناريّة، وإن الحكومات يسقطها مقال انتقاديّ في جريدة، وإنّه لا يظلم في بلاد جلالة الملكة أحد. وصدّق كثيرون بأن النساء البريطانيات صرن قدوة في تحررهن، إذ تولت امرأة رئاسة الوزراء، قبل الرئيس الحالي، وتمسك نساء كثيرات بحقائب وزاريّة بمن فيهن وزيرة داخليّة تنحدر من أصل هنديّ.
لكّن كل شيء بدا وكأنّه تبخّر الأسبوع الماضي دفعة واحدة.
سارة إيفرارد: ضحيّة أخرى أَم شرارة تغييرٍ؟
«كانت تسير إلى المنزل». هكذا قالت تقارير التلفزيونات البريطانيّة عن الشابة البريطانيّة سارة إيفرارد، التي لم تصل قط. وقد التقطت آخر صورة لها من كاميرا مراقبة لأحد المنازل في أحد أحياء العاصمة لندن عند التاسعة والنصف مساء. اختفت بعدها نهائيّاً عن الأنظار.
وربما لأنها بريطانيّة بيضاء البشرة، ولحاجة السلطة إلى حجب الضجيج، الذي أشعلته المقابلة التلفزيونيّة الأخيرة للأمير المتمرد هاري وندسور وزوجته الأمريكيّة، فقد تابعت وسائل الإعلام التحقيقات بشأن غيابها لعدّة أيّام قبل أن تؤدي عمليّات البحث المكثّف إلى الحصول على (بقايا بشريّة) في إحدى الحدائق العامّة القريبة من المكان تطابقت مع الحمض النووي للمختفية.
بالطبع لندن المدينة ذات الـ 10 ملايين نسمة تشهد حوادث قتل وجرائم كثيرة، لكن الصدمة كانت كبيرة عندما تبيّن أن المتورّط بالاعتداء على إيفرارد وقتلها من منسوبي جهاز الشرطة البريطانيّة.
أثار ذلك غضب اللّندنيّات. إذ شعرت كثيرات منهن بفقدان شخصي للأمن بعدما وجدن أنّ من يفترض بهم حمايتهن من اعتداءات المتوحشين هم أنفسهم من يرتكبون تلك الاعتداءات.
وهكذا تداعين لتظاهرة احتجاجيّة شاركت بها أعداد كبيرة، لكنّ الشرطة قمعتها بعنف ظاهر تابعه الجمهور على الشاشات، وتعرضت عدة نسوة للدفع والضرب والإلقاء على الأرض والاعتقال.
مما ضاعف من الغضب الذي تبلور في اليوم التالي مظاهرة حاشدة أمام مقر البرلمان في ويستمينستر. حملت المتظاهرات لوحات كتبت بخط اليد تطالب بحماية البريطانيات من القتل المتكرر بوتيرة عالية على يد أزواج – حاليين أو سابقين – أو من هم في حكمهم. – كانت نائبة بريطانية عددت في جلسة عقدت يوم المرأة العالمي أسماء 118 منهن، قتلن خلال العام الماضي- .
من الواضح أن النصائح التي توجه عادة للنساء والفتيات في مثل هذه المناسبات من طراز عدم الخروج من المنزل بعد حلول الظلام لم تعد كافية. ثمّة شيء عفن في مملكة الدنمارك – كما يقول شكسبير مع أن مملكة الدنمارك اليوم ينبغي أن تُقرأ المملكة المتحدة -، ولم يعد مقبولاً أن يُلقى باللائمة على النساء – الجانب الأضعف دائما – ويطلب إليهن تغيير سلوكهن. الرّجال والمجتمع هم الذين يجب عليهم أن يتغيّروا.
من يصنع القتلة؟
للحقيقة فإن الشرطة ليست وحدها موضع غضب النّساء العارم. إذ أن النّظام القضائي البريطاني ما زال نتاج عقليّة ذكوريّة بطريركيّة، ولا تبدو لدى الطبقة الحاكمة أي توجهات لتغيير ذلك في وقت قريب.
مثلاً لا يوجد قانون محدد لمنع تعرض النساء للمضايقة في الشوارع، وتصدر المحاكم البريطانيّة أحكاماً أقصر في جرائم القتل المنزلي، أي أن قتل شخص ما في المنزل – وهو ما يعني في الغالب قتل الرجال للنساء – جريمة أقل فداحة من قتل شخص ما في الشارع.
وحتى مع أن إطار إصدار الأحكام غير عادل، فإن معدلات الإدانة أسوأ من ذلك بكثير. ففي ظل حكومة المحافظين الحالية، انخفضت إدانات الاغتصاب إلى أدنى مستوياتها التاريخيّة على الإطلاق وتتراجع الإدانات بإساءة المعاملة المنزلية بسرعة لافتة في وقت تضاعفت فيه هذه الاعتداءات بعد جائحة كوفيد 19. وفوق ذلك كلّه، لا تقدّم السلطات أيّة مساعدة اقتصاديّة استثنائيّة للنساء اللواتي سيفقدن مصدر رزقهن عند إبعاد المعتدي إلى السجن أو خارج المنزل. وهو أمر يضع النساء تحت خيارين أحلاهما مرّ.
وبينما تنفق التلفزيونات والصحف البريطانيّة مئات الساعات من أوقات بثها لمناقشة تفاصيل التفاصيل لمقابلة عديمة القيمة حول صراعات نساء القصور، يتضاءل الوقت المخصص لتناول القضايا الحقيقيّة لغالبيّة نساء البلاد إلى حدود تكاد لا تذكر، وتستمر بتجاهلها المقصود عن الواقع رغم أن آثار الأزمة المجتمعيّة الحادة التي تسبب بها وباء كوفيد 19 كشفت بشكل مؤلم عن انعدام عدالة مروّع بالنسبة للنساء، إذ عانت البريطانيات عموماً والمنحدرات منهن من أصول ملوّنة بشكل خاص من معدلات أعلى لفقدان الوظائف وانعدام الأمن الغذائي مقارنة بالرّجال ذوي البشرة البيضاء، فيما تزيد نسب إصابة النساء الملونات بالمرض وكذلك الوفيات الناتجة عنه أربع مرّات أكثر من المجموعات السكانيّة الأخرى، لا سيّما وأنّهن بسبب غياب العدالة الاقتصاديّة يشغلن أغلبيّة الوظائف في الخطوط الأمامية لمواجهة الوباء، مما يزيد من فرص تعرض صحتهنّ وحياتهن للخطر.
استجابة النخبة؟ عقوبة الاعتداء على التماثيل
تمتلك حكومة المحافظين الحاليّة – التي تمثّل القلّة الثريّة في أغلبيتها البرلمانيّة المريحة -وحدها القدرة على القيام بإجراءات جذريّة لتغيير أوضاع النساء البائسة، سواء من خلال إعادة النظر في برامج التعليم والتثقيف، أو بناء التشريعات اللازمة لفرض عقوبات رادعة على المعتدين. ولكن ماذا كانت استجابة الحكومة لغضب رفيقات سارة إيفرارد؟
بدلا من قيادة البلد وتوحيده حول المهمة العاجلة لوقف التعدي على النساء ومعالجة المخاطر والمظالم التي تواجهها، أو توفير حماية أكبر للعاملين في خدمات الطوارئ في الخطوط الأمامية أو فرض عقوبات أكثر صرامة على القيادة الخطرة وجرائم الاستغلال الجنسي من قبل الأشخاص الذين يشغلون مناصب ثقة تقدمت الحكومة بكل الصلف والاستهتار المعهود عنها للبرلمان بمشروع قانون للشرطة والجريمة وإصدار الأحكام والمحاكم أُعتمد بسرعة قياسيّة، لم تذكر فيه كلمة «امرأة» ولو لمرّة واحدة، ويمكن على أساسه سجن شخص يهاجم تمثالاً عامّاً لمدة تصل إلى 10 سنوات – بينما تبدأ أحكام الاغتصاب من خمس سنوات – ناهيك عن منح الشرطة صلاحيّات غير مسبوقة لمنع التظاهرات العامة والتضييق على الاحتجاجات.
وهذا يعني بوضوح أن القلّة الحاكمة البريطانيّة ليست لديها الإرادة السياسية لفرض حلول لأزمات المجتمع مكتفية تماماً بحماية مصالحها، ولعب أوراق الحروب الثقافيّة لحماية تماثيل تجار العبيد والمجرمين التاريخيين، وتدعيم صلاحيات الشرطة لخنق الاعتراضات. وما لم تتحرّك الأكثرية لوقفها، فلا أفق أبداً لأي تغيير جذري قريب.
اغضبن: أنتن الأمل
في الحقيقة أن معظم الغاضبات لمقتل سارة إيفرارد هن من النساء اللواتي يتمتعن بامتيازات طبقيّة وعرقيّة نسبيّة، وانخراطهن الفاعل في الاحتجاجات يداً بيد مع الفئات المجتمعيّة المختلفة في غياب كل أشكال المعارضة الفاعلة في البلاد يوقد شعلة الأمل بأن هذا الوعي الطالع من قلب الوجع سيفتح الباب لبناء حركة نسويّة جديدة أكثر شمولاً وتمثيلاً ومصداقيّة مكان ترهات النسويات البيضاوات تتولى قيادة نضال راديكالي عريض يستهدف تحقيق تغيير شامل ذي مغزى، ليس لحياة النساء وحمايتهن ومنحهن العدالة فحسب، بل من أجل كل المهمشين أيضاً.
اغضبن، اغضبن، العالم عطشان لغضبكن أكثر من أيّ وقت مضى.
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن


