فريدريك فورمس: أسفار القرن العشرين الفلسفية
[wpcc-script type=”ecac0cbbbb9d79eb13abcbf0-text/javascript”]

يرى المختص في الفلسفة المعاصرة فريدريك فورمس في حوار معه في مجلة «الفلسفة المعاصرة» أن الفكر الفرنسي عرف خلال القرن العشرين، أربع لحظات، تتميز كل لحظة بعدة أسفار، من برغسون إلى الفلاسفة الجدد.
■ ماذا تعني بكلمة لحظة؟
□ حينما نبدي الاهتمام بتاريخ الفلسفة، نلاحظ أن هذا الأخير ليس مستمرا، وأن هناك وحدات زمنية متتابعة. أسميها لحظات. لا بد من تواجد عدة عوامل لكي يكون بالإمكان الحديث عن لحظة. أولا، ينبغي توفر تحولات تاريخية واكتشافات علمية كبرى، باختصار، تغيرات تلحق ما كان ميشيل فوكو يسميه «الشروط العامة للمعرفة»، لكن ذلك غير كاف، ينبغي أيضا أن تظهر مؤلفات جديدة، وهكذا، فإن اللحظة الفلسفية تتكون في الآن نفسه بقطائع مجهولة الاسم وبإبداعات فريدة.
■ كل لحظة تناسبها طريقة خاصة في السفر…
□ بالضبط. تفترض كل لحظة تغيير موقع المشاكل. وإذن فإن أسفار الفلاسفة تلعب دورا مركزيا. مثلا، إن «لحظة 1900» ـ من سنوات 1890 إلى نهاية الحرب العالمية الأولى- هي مميزة بتنظيم مؤتمرات عالمية للفلسفة. تعود تلك المبادرة، المعاصرة للمعارض العالمية، إلى مجموعة من الفلاسفة الفرنسيين، ضمت ألان، وكزافيي ليون، وليون برنشفيك. كانت هذه المؤتمرات تعقد كل أربع سنوات، على وجه التقريب: سنة 1900 في باريس، وسنة 1904 في جنيف، وسنة 1908 في ألمانيا. وكان مؤتمر سنة 1911 في إيطاليا حاسما، لأنه عرف تعميم نظرية إنشتاين النسبية بالنسبة للمجتمع الفلسفي العالمي. للأسف، فإلهام هذه المؤتمرات الطوباوي سينكسر مع الحرب.
■ ما الرحلة الأكثر رمزية خلال « لحظة 1900»؟
□ من دون أدنى شك، هي رحلة هنري برغسون إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أثناء الحرب العالمية الأولى. لقد أرسلته الحكومة الفرنسية في مهمة لدى الرئيس الأمريكي توماس ولسون، من أجل إقناع هذا الأخير بمساعدة الحلفاء. كان تكوين ولسون الفكري في الفلسفة واللاهوت. لم يكن يرغب في الانخراط في نزاع لأسباب سياسية أو مادية فقط، كان بحاجة إلى هدف روحي. ركب برغسون السفينة قاصدا الولايات المتحدة، في وقت كانت الحرب بين الغواصات على أشدها. في واشنطن، التقى ولسون ومساعديه. لقد سبق له أن عرض حجته الرئيسية، منذ بداية الحرب، في خطاب قابل فيه بين «القوة التي تُستهلك»، و»القوة التي لا تُستهلك». إن «القوة التي تستهلك» هي القدرة المادية والميكانيكية، أي ألمانيا. أما « القوة التي لا تستهلك» فهي قوة الفكر، التي تمثلها فرنسا. وبهذا الشكل بَيّن برغسون أن الحلفاء إنما يحاربون من أجل الديمقراطية، ودولة الحق، والسلام، ولاقت عباراته صــــدى كبيرا لدى ولسون، الصانع المستقبلي لعصبة الأمم. لقد دفع برغسون بكل فلسفته في الحرب… في ما بعد، عندما أسست العصبة، عُين برغسون على رأس المعهد الدولي للتعاون الفكري، الذي صار بعد ذلك منظمة اليونسكو ضمن الأمم المتحدة، وبالتالي يمكن القول إن برغسون كان أول رئيس لليونسكو.
يقترح كلود ليفي- ستروس في كتابه « مدارات حزينة « تغيرا أكثر راديكالية من كل الرحلات: الإثنولوجيا أو الأنثربولوجيا، التي ترغمنا على تغيير نظرتنا! اللسانيات، التي أسست في سويسرا، حوالي 1900، تعود لتحتل واجهة الأحداث.
■ وماذا عن أسفار اللحظة الثانية، التي تبتدئ سنة 1930 وتنتهي بحلول سنة 1950؟
□ تبدأ اللحظة بأسفار تكوين دراسي في ألمانيا. كان الفلاسفة الشباب المنتمون إلى سنوات 1930 يريدون القطع مع فلسفة برغسون وفلسفة أساتذتهم، والانفتاح على تخصصات جديدة. أقام إيمانويل ليفيناس في فريبورغ من 1928 إلى 1929 بغرض دراسة الفينومينولوجيا. وبإيعاز من ريمون أرون، الذي تعلم السوسيولوجيا الألمانية في كولونيا، رحل جان بول سارتر إلى برلين لقراءة هوسرل وهيدغر خلال سنة 1933. من جهته، اهتم جان كافاييس بفلسفة الرياضيات.
■ هل كان هؤلاء الفلاسفة مدركين لصعود النازية؟
□ بدرجات متفاوتة جدا، لم يظهر سارتر، الذي كان موجودا في برلين لحظة وصول هتلر إلى الحكم، اهتماما بالأمر. على خلاف ريمون أرون، وجان كافاييس أو سيمون فاي. بعد عودته سنة 1938، شرح ريمون أرون للجمعية الفلسفية الفرنسية، المهتزة، أن مشكل الديمقراطيات يكمن في بلوغ القدر نفسه من التجنيد الذي تبلغه الأنظمة الاستبدادية، من دون خنوع للانبهار بالقوة. كان جان كافاييس الأكثر إدراكا، من دون شك. لقد حضر في 1931 تدخلا لهتلر داخل حانة في ميونيخ. هو الوحيد، من بين هؤلاء المفكرين الذي قرأ «كفاحي». عندما اندلعت الحرب، انخرط في المقاومة. وبعد أن أصبح رئيس شبكة، ألقي عليه القبض، ثم أعدم من طرف الغيستابو سنة 1944، ورغم أنه أدرك مبكرا ما كان يعده النازيون، إلا أنه لم ينشر أفكاره في الصحافة، لم تكن آنذاك صورة الفيلسوف الملتزم قد وجدت بعد.
■ لكن هذه اللحظة الثانية ليست محصورة في الحرب العالمية الثانية؟
□ كانت فترة ما بعد الحرب هي عصر الأسفار الكبرى «الوجودية». بعد أن غدا سارتر معروفا في العالم بأسره، صار يتنقل كثيرا. سنة 1954 سافر إلى الاتحاد السوفييتي. قدّم تقريرا متحمسا في جريدة «لبيراسيون»، ذهب إلى كوبا، في بداية ثورة كاسترو، وهَا هُو في براغ بعد 1968 . هنا، خيب آمال مستمعيه. جرى الأمر، كما لو كان فيلسوف الحرية قد مارس رقابة ذاتية باسم التزامه السياسي، لكن، في مناسبات أخرى، يُظهر سارتر حرية سيادية، وهكذا، خلال مرور بمصر وإسرائيل سنة 1967، قال كلمته لكل العالم. سارتر رجل متناقض، كما أنه، فضلا عن ذلك، طور فلسفة التناقض، فهو يريد تارة أن يكون ملتزما في «وضعية» لا يختارها، وضعية البشر الواقعية، وتارة أخرى، يعود ليُجسد المثقف قليل الاكتراث بالسياسة. عندما كان يسافر إلى نيويورك، لا يهتم بالرأسمالية قدر اهتمامه بالثقافة الأمريكية. تاريخ من جهة، حرية من جهة أخرى: بإمكان سارتر أن يمدح الشيوعية، كما بإمكانه أن يمدح الجاز.
■ وماذا عن اللحظة الموالية مطلع سنوات 1960؟
□ تنفتح ما قد أسميها «اللحظة الفلسفية لسنوات 1960» بدورها على تنقلات متعددة. يقترح كلود ليفي- ستروس في كتابه « مدارات حزينة « تغيرا أكثر راديكالية من كل الرحلات: الإثنولوجيا أو الأنثربولوجيا، التي ترغمنا على تغيير نظرتنا! اللسانيات، التي أسست في سويسرا، حوالي 1900، تعود لتحتل واجهة الأحداث. كما ألقى جاك لكان «خطاب روما» الذي غير المعطى داخل التحليل النفسي. سار كل شيء في اتجاه نوع من السفر الداخلي: إنها لحظة «الاختلاف»، التي نكتشف فيها أننا غرباء عن أنفسنا.
■ لا تزال هذه اللحظة مع ذلك مسافرة…
□ ربما أكثر من أي وقت مضى، بمعنى ما. مثلا، لم يكف فوكو أو دريدا عن التنقل، وأحيانا لمدد طويلة لأجل التدريس في الخارج. سنة 1966، نظمت جامعة جون هوبكنس في بالتيمور، ندوة عَرَّف البنيويون ـ ميشيل فوكو، جاك دريدا، رولان بارث، جاك لكان – خلالها بأنفسهم. في بالتيمور، اكتشف الأمريكيون أن هناك، خارج فلسفة الحرية والوعي ـ فلسفة سارتر، وكامي، وميرلو- بونتي، أي نموذج جديد من التفكير سيسمى في ما بعد «فرينش ـ تيوري» (La french-theory )، يؤكد نهاية الإنسان والميتافيزيقا، ويبين كيف أن بنيات اللاشعور أو المجتمع تُعَيِّن الأفعال الفردية.
■ لننتقل إلى اللحظـــــة الراهنة، الخاصة بسنوات 1980 والممتدة إلى أيامنا هذه…
□ تعلن هذه اللحظة عن نفسها عبر سجالات. يتعلق السجال الأول بحقوق الإنسان: بعد فضح الأنظمة الاستبدادية، والغولاغ، والإبادة في الكومبودج، وعودة الإبادة النازية أيضا إلى الوعي العمومي، حدثت قطيعة بصدد مسألة دولة الحق، الأمر الذي أدى إلى وقف نقدها الجذري. بهذا المعنى، فإن البعثات الإنسانية، والأطباء «بدون حدود»، هم جزء من هذه اللحظة الفلسفية، أكثر حتى من أسفار «الفلاسفة الجدد». نحن لا نزال (أردنا ذلك أم كرهنا) في لحظة سفر على أرض جريحة، وممزقة بسبب الكوارث السياسية أو الطبيعية. أما السجال الثاني فهو أكثر تقليدية؛ إنه نابع من تحول في المعارف. تتميز اللحظة المعاصرة باكتشاف مواضيع جديدة، مع العلوم المعرفية، والدماغ، والحاسوب. ففي حين أن الإنترنت قد لا يكفي لجعل مجتمع فلسفي عالمي ممكنا ومفتوحا، يجد المثقفون أنفسهم سجناء هذا النمط الجديد من التنقل. ربما أن سفر الزمن الحالي محصور بين هذين الطرفين: الأرض كفضاء عمومي ومهدَّد، والأرض كفضاء افتراضي ومجرد. لقد بات الفيلسوف، بعد قياس هذا الخطر المزدوج، لا يتنقل لا في عدم الاكتراث بالعالم (مثل الكثير من المسافرين) ولا عبر ادعاء إنقاذ العالم، ولكن من أجل خلق ( أو إعادة خلق) العالم والذات.
مجلة الفلسفة/ عدد 3/ أيلول/ سبتمبر 2006