فريدي ميركوري ومونتسرات كاباييه: ملامسة حلم الأوبرا بأغنيات النهاية

أثناء عمله على إعداد ألبوم برشلونة 1988 قبل ثلاث سنوات من موته، كان فريدي ميركوري يعلم جيداً أنه بدأ في الاحتضار، هذا الإدراك المؤلم يظهر أثره واضحاً على الصوت والكلمات والموسيقى، حيث يخيم الحزن على كل شيء، لكن الحزن لا ينفي الجمال في أحيان قليلة، وما أجمل هذا الألبوم الذي جمع بين نجم فريق الروك […]

فريدي ميركوري ومونتسرات كاباييه: ملامسة حلم الأوبرا بأغنيات النهاية

[wpcc-script type=”74db4c14934c6510eb051f79-text/javascript”]

أثناء عمله على إعداد ألبوم برشلونة 1988 قبل ثلاث سنوات من موته، كان فريدي ميركوري يعلم جيداً أنه بدأ في الاحتضار، هذا الإدراك المؤلم يظهر أثره واضحاً على الصوت والكلمات والموسيقى، حيث يخيم الحزن على كل شيء، لكن الحزن لا ينفي الجمال في أحيان قليلة، وما أجمل هذا الألبوم الذي جمع بين نجم فريق الروك الإنكليزي كوين، والسوبرانو الإسبانية مونتسرات كاباييه، مغنية الأوبرا التي عشقها ميركوري وآمن بأنها صاحبة الصوت الأجمل في العالم، وظل لسنوات طويلة مكتفياً بالاستماع إليها وحضور حفلاتها في صمت لا يعلن عن وجوده، إلى أن التقى بها للمرة الأولى في مدينتها برشلونة عام 1987، بعد أن صرح برغبته في رؤيتها، وأعلن عن حبه لها على الملأ، خلال مقابلة مع التلفزيون الإسباني، لم يتردد حينها ولم يتجاهل رغبته في التواصل معها، والاقتراب منها والانتماء إليها، وربما كان ذلك بسبب مرضه وشعوره بدنو النهاية.
عن هذا اللقاء كتب أغنية برشلونة التي تبدأ بوصف مشاعره لحظة تحقق الحلم، ضربات قلبه المتسارعة وأنفاسه المتلاحقة وانبهاره بسحرها الذي غمره بمجرد ظهورها أمامه، وتنتهي بالأمل في لقاءات أخرى والوعد بالغناء معاً «إذا أراد الله»، كتب ميركوري هذه الأغنية بمشاعر معجب كبير ينظر عالياً إلى نجمته المفضلة، لا كفنان غمرها سحره أيضاً وجعلها تطلب منه أن يُعد ألبوماً كاملاً، لثقتها التامة في أنها ستحب أن تغني كل ما يكتبه، وبالفعل لحن وكتب ميركوري أغلب أغنيات الألبوم إلى جانب مايك موران، كما كتبت كاباييه بعض المقاطع القصيرة التي غنتها باللغة الإسبانية.
وكم هو مذهل ذلك التناغم الساحر بين النقيضين، المغني الأكثر جنوناً وإن كان يمتلك صوتاً جباراً، الذي يمارس حريته ويفعل ما يحلو له على المسرح، فيعزف ببراعة على البيانو بيد واحدة بينما تمسك اليد الأخرى بأحد أكواب البيرة الكثيرة المتراصة فوق البيانو، ويشرب وسط الأغنية قبل أن يؤدي أصعب النوتات المرتفعة، والمغنية الأكثر رصانة بأسلوبها العتيق في الغناء، وبالنسبة لها ربما يكون فريدي، هو أحدث من غنت ألحانه، التي تقف على المسرح في رهبة وخشوع بأقصى درجات الالتزام الفني والتقمص الدرامي، وعندما اجتمعا معاً على المسرح في بعض الحفلات، كان ميركوري الذي اعتدنا رؤيته متحرراً من الكثير من ثيابه، يرتدي الملابس الرسمية وربطة العنق، ويحاول أن يسيطر على جسده ويمنعه من الرقص وأداء حركاته المعهودة، أما كاباييه فنرى الابتسامة الكبيرة على وجهها والكثير من التحرر في الغناء والحركة، حيث تتمايل وتدور، ويبدو ميركوري ثابتاً إلى جوارها، وكان يدخل بها إلى المسرح فخوراً كأنه يعلن عن أعظم انتصاراته، ويحتضنها ويقبلها في نهاية كل أغنية، ويقبل يدها كلما انتهى من غناء مقاطعه.

كان ميركوري مولعاً بالأوبرا والباليه، يقضي وقته في المسارح لمشاهدة العروض الراقصة والغنائية، هذا ما كانت تذهب إليه نفسه وتطلبه روحه، وكان الأمر يتخطى متعة التلقي أحياناً ويصل إلى الرغبة في الاشتباك مع الخيال والامتزاج به

كان ميركوري مولعاً بالأوبرا والباليه، يقضي وقته في المسارح لمشاهدة العروض الراقصة والغنائية، هذا ما كانت تذهب إليه نفسه وتطلبه روحه، وكان الأمر يتخطى متعة التلقي أحياناً ويصل إلى الرغبة في الاشتباك مع الخيال والامتزاج به، وأن يصير جزءاً مما يشاهده على المسرح، وقد حقق حلم الباليه عام 1979 عندما قدم عرضاً فريداً مع فرقة الباليه الملكية التي رقصت على موسيقى أغنياته، وكان هو بينهم يرتدي زي الباليه ويؤدي بعض الرقصات البسيطة إلى جانب الغناء الحي، ومن سوى فريدي ميركوري يتمكن من أداء النوتات العالية وهو محمول من الراقصين في وضع مقلوب، ورأسه إلى الأسفل، ونراه أحياناً في حفلات كوين مرتدياً ملابس الباليه، رغم أنه لا يؤدي أيا من خطواته ولا يقدم سوى رقصه المعتاد، كما قام بأداء بعض حركات الباليه مع عدد من الراقصين في فيديو أغنية «بريك فري»، أما حلم الأوبرا فقد لامسه وهو على أعتاب النهاية، ولا نستطيع أن نمنع أنفسنا من التفكير في الكلمات التي لم يكتبها، والألحان التي لم يؤلفها، والغناء الذي لن نستمع إليه أبداً، ولا نملك سوى أن نتخيل أوبرا درامية إلى أقصى درجة، كان سيؤديها مع كاباييه ويكون فيها البطل المهزوم الذي يموت بين ذراعي حبيبته.
مع ميركوري لا نهتم كثيراً، ما إذا كان صوته 4 أوكتاف أم 5 أوكتاف، باريتون أم تينور، كم نوتة عالية «هاي سي» يستطيع أن يغنيها متلاحقة، فهو صوت يجب أن لا يتم التعامل معه وفق هذه التصنيفات، لأنه أعقد وأعمق وأكثر غموضاً من كل ذلك، وهو كإنسان ليس صوتاً أو مغنياً وحسب، وإنما هو موضوع فني متكامل وشخصية درامية تكاد تكون خيالية لا نتخلص من أثرها بسهولة، أما موسيقى الألبوم فهي تعبيرية بدرجة كبيرة، بحيث يمكن الاستماع إليها كمعزوفات مستقلة عن الغناء بثرائها الأوركسترالي، والكلمات هي أقرب إلى القصائد الدرامية التي يمكن قراءتها بعيداً عن الموسيقى، ويبلغ التأثير ذروته عندما تمتزج الموسيقى والكلمات بصوت ميركوري وكاباييه، وللأوبرا الحضور الطاغي بالطبع وتحتوي في قلبها بحب القليل من سمات الروك التي لا تخلو منها بعض الأغنيات، ونلاحظ تكرر الافتتاحيات الموسيقية القوية، والدخول الغنائي الحار المشتعل كما في أغنية «ذا غولدن بوي» ذات الطابع الملحمي.
ومن أجمل أغنيات الألبوم أغنية The Fallen Priest حيث تفتتح كاباييه الغناء بعد البداية الموسيقية العنيفة المضطربة، وضربات البيانو القوية، التي تبدو عشوائية لاهثة وتوحي بمحاولة هروب عبثية، نشعر بأن هذه الأغنية اقتطعت من أوبرا كنا نود متابعتها كاملة، وهي عبارة عن حوار بين قس يجب أن لا يقع في الحب، وحبيبته التي تطلب منه أن يقترب منها ويحررها ويحرر نفسه أيضاً، بينما هو يعاني تحت وطأة صراع رهيب، ويتحدث عن علاقته مع الله، ويرى أن الحب خطيئة، فتخبره بأن الحب هو قوتنا الوحيدة وتعده بالجنة، جنتها هي، وتتحدث الأغنية أيضاً عن ضعفنا كبشر محكوم علينا بالموت، ولا نملك القدرة على التحكم في مصائرنا، كما تتحدث أغنية «غايد مي هوم» عن الأمان والقوة والمصير، إلى أي مكان سنذهب؟ وأي شخص سيجدنا؟
أما أغنية How Can I Go Onفهي الأغنية الأكثر إيلاماً بطرحها لأسئلة متلاحقة لا إجابات لها: كيف لنا أن نواصل الحياة من يوم إلى آخر؟ من بإمكانه أن يمنحنا القوة؟ أين يمكن أن نكون بأمان؟ إلى أي مكان يمكن أن ننتمي في هذا العالم المليء بالحزن؟ وهي كذلك الأغنية الأكثر تعبيراً عن آلام فريدي ميركوري التي لازمته منذ طفولته وحتى موته «وحدته المطلقة وغربته اللانهائية»، التي لم يقدر على محوها، الحب والعائلة والصداقة وملايين المعجبين والمال، وحده الفن كان الدواء الذي يخفف الألم مؤقتاً، ويعين على الاستمرار إلى حين، هذا ما يخبرنا به صوت ذلك البطل التراجيدي وهو يغني في وجه الموت.

 كاتبة مصرية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *