الصفة الخامسة: الجهاد: “يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”
إن من المقرر عند العلماء أن لفظ الجهاد إذا أطلق فالمقصود به القتال في سبيل الله ولا ينصرف إلى غير هذا المعنى إلا بقرينة تدل على المراد، حيث إن الجهاد في الاصطلاح الشرعي يُقْصَدُ به القتالُ من أجل إعلاء كلمة الله، وإن ما عداه من ألوان بذل الجهد والمشقة إنما يدخل تبعاً في معنى الجهاد من باب التوسعة.
ومن الأدلة على ذلك قوله _تعالى_: “أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ” (التوبة:19، 20)، فالجهاد لم يُقصدْ به هنا إلا المعنى القتالي، ويوضح ذلك ما جاء في سبب نزول هذه الآية من حديث النعمان بن بشير _رضي الله عنه_ قال: ” كنت عند منبر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صَلَّيْتُ الجمعةَ دخلتُ فاستفتيتُه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله _عز وجل_ “أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ”الآية.
فهذا يدل على أنهم لم يفهموا من الجهاد إلا معناه القتالي بدليل أنهم جعلوه في مقابلة أمور أخرى قد تدخل في الجهاد بمعناه العام مثل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وقد جاء النص القرآني مقراً لهم على هذا الفهم، ولم يقل لهم إن كل هذا الذي ذكرتموه داخل في معنى الجهاد، ثم بين لهم أفضلية الجهاد أي القتال في سبيل الله على غيره من الأعمال.
ثم إن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد عرف الجهاد بذلك، وذلك لما سُئِلَ: ما الجهاد؟ قال: “إن تقاتل الكفار إذا لقيتهم”.
ويقول ابن رشد:” إن الجهاد في سبيل الله إذا أطلق فلا يقع بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”. وتعريفات الجهاد عند الأئمة في المذاهب الأربعة تدل على ذلك.
وإن للجهاد حكماً جمةً، والهدف الرئيس له هو تعبيد الناس لله رب العالمين، وإخراجهم من العبودية لغير الله، وإزالة الطواغيت كلها من الأرض، والأدلة على هذا كثيرة ومنها: قوله تعالى في موضعين: “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ” (البقرة: من الآية193). وقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: ” أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله”، وقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: “بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري”. وهو موضع اتفاق بين علماء الإسلام. لا كما يزعم أهل الضعف والخور إن الجهاد للدفع وحماية المسلمين فقط!! فقد تلقوا هذه القـالـة عن أساتذتهم الإستشراقيين وتلقفوها صاغراً عن صاغر.
وللجهاد أهداف أخرى منها على سبيل المثال: حماية الدولة الإسلامية، وإرهاب الكفار وإذلالهم، وأهداف تعود على المسلمين في ذوات أنفسهم مثل: رد الاعتداء على المسلمين، وكشف المنافقين، وتمحيص المؤمنين من ذنوبهم، والتربية على الصبر والبذل والثبات، والحصول على الغنائم، ونيل الشهادة.
وليُعلم أن للجهاد الأثر القوي في نشر الإسلام والدعوة إليه، قال ابن القيم في الفروسية: “فإن الله _سبحانه_ أقام دين الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسِّنان، فكلاهما في نصره أخوان شقيقان”. بـل إن الكاساني اعتبر الجهاد ضرب من الدعوة إلى الله، فقال: “والدعوة دعوتان: دعوة بالبنان وهي القتال، ودعوة بالبيان وهو اللسان”.
وإن هذه الصفة مشتركة بين عمل القلب وعمل الجوارح وهو الأغلب، وما سبق أصله عمل قلبي، وما يظهر على جوارح المؤمن هو من لوازمها، ولكن هذه الصفة أصلها عمل للجوارح مدفوع من الباطن، وهي من أهم الصفات، ولا أبالغ إذا قلت إن هذه الصفة هي مَكْمَن ومحور الصفات السابقة، وهي مجمع لما مضى، قال أبو حيان: ” والجهاد والصلابة في الدين هما نتيجة الأوصاف السابقة؛ لأن من أحب الله لا يخشى إلا إياه، ومن كان عزيزاً على الكافر جاهد في إخماده واسئصاله “. وقال شيخ الإسـلام: ” والجهاد دليل المحبة الكاملة؛ لأن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما نهى عنه.
وقال أيضاً: فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه”. قال ابن القيم: ” الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد واللسان والمال وذلك تحقيق دعوى المحبة. وقال: وأعلى ما يحبه الله ورسوله الجهاد في سبيل الله “. وقال الطاهر بن عاشور: ” وهو – أي الجهاد- أكبر العلامات الدالة على صدق الإيمان “. فالجهاد سنام الإسلام كما جاء في الحديث وتنتظم باقي الأعمال فيه، قال شيخ الإسلام معلقاً على حديث سنام الإسلام: ” ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة، ففيه سنام المحبة، كما في قوله: “فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ” (المائدة: من الآية54)، وفيه سنام التوكل، وسنام الصبر، فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل، ولهذا قال _تعالى_: “وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ” (النحل:41، 42)، وقال _تعالى_: “قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” (الأعراف:128)، وفي الجهاد أيضاً حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفيه أيضاً حقيقة الإخلاص.. وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود”.
لأنه لا شك أن من جاهد في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله فإنه سيكون محباً لله، عزيزاً على الكفار، فيه ذلة ورحمة لإخوانه.
ولِيُعلم أن فَقْدَ صِفَةِ الجهاد فيه خطر عظيم، حيث إن العبد يتلبس بشعبة من شعب النفاق من جراء ترك الجهاد أو عدم تحديث النفس به حيث جاء في الحديث عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: ” من مات ولم يغز أو يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق “، وفي تركه أيضاً التعرض للذُل كما جاء في حديث ابن عمر _رضي الله عنه_ قال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: ” إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم “، وكذلك من آثار تركه إلقاء العداوة بين المسلمين، وعلو الكفر، إلى غير ذلك من آثار وخيمة. بل إن شيخ الإسلام قد اعتبر تارك الجهاد واجب الهجر كحال باقي أصحاب الكبائر، حيث قال: ” وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها، وكذلك هجران الدعاة إلى البدع، وهجران الفساق، وهجران من يخالط هؤلاء كلهم أو يعاونهم، وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه، فإنه يعاقب بهجرهم له لمَـَّا لم يعاونهم على البر والتقوى، فالزناة واللوطية وتارك الجهاد وأهل البدع وشربة الخمر هؤلاء كلهم ومخالطتهم مضرة على دين الإسلام، وليس فيهم معاونة لا على بر ولا على تقوى فمن لم يهجرهم كان تاركاً للمأمور فاعلاً للمحظور”.
وقال البقاعي على قول الله: “يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”: “أي يوقعون الجهاد على الاستمرار لمن يستحقه من غير ملال ولا تكلف”. وقال الألوسي: بالقتال لإعلاء كلمته _سبحانه_ وإعزاز دينه _جل شأنه_”. وقال السعدي: “يجاهدون بأموالهم وأنفسهم، بأقوالهم وأفعالهم”.
وهل المراد بهذا الجهاد هنا قتال المرتدين أم هو على إطلاقه؟ الظاهر الثاني، ولكنه يتناول المرتدين لاسيما في الصدر الأول من باب أولى.
وقال ابن القيم: “طُولِبَ المحبون بعدالة البينة بتزكية “يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ” (المائدة: من الآية54) فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعة “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ” (التوبة: من الآية111) فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأناً، فرأوا من أعظم الغَبْن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي، من غير ثبوت خيار، وقالوا: “والله لا نقيلك ولا نستقيلك”، فلما تم العقد وسلموا المبيع، قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معاً “وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ” (آل عمران: 169، 170)”.
وقال الإمام أحمد في فضل المجاهدين: ” ليس يعدل لقاء العدو شيء، ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال،والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم، فأي عمل أفضل منه؟ الناس آمنون وهم خائفون، قد بذلوا مهج أنفسهم “. والكلام في فضل الجهاد والمجاهدين ذو شجون، لا يتسع له المقام.
الصفة السادسة: عدم خوف الملامة: “وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ”
وهذه الصفة متعلقة بالصفة التي قبلها؛ لأن غالب الملامة تقع على العبد فيما فيه احتكاك بالناس ومواجهة معهم، من جهاد، ودعوة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وفي العموم فيما يخالف هوى الناس.
وهذا من الابتلاء الذي يصيب العبد الناصر لدينه والباحث عن رضا ربه، يواجهه في دعوته إلى الله وفي جهاده وقيامه بالواجبات أيضعف؟ أم يصبر ويحتسب؟
وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت _رضي الله عنه_ في مبايعته للنبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: “وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم”، وروى ابن مسعود عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: “من أراد الجنة لاشك فلا يخاف في الله لومة لائم”، وعن أبي ذر _رضي الله عنه_ قال: أمرني خليلي _صلى الله عليه وسلم_ بسبع – وذكر -: وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مُرّاً، وألا أخاف في الله لومة لائم”.
قال ابن كثير: “أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم، ولا عذل عاذل “. وقال النووي في معنى حديث عبادة الذي في الصحيحين: ” نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان، الكبار والصغار، لا نداهن فيه أحداً ولا نخافه، ولا نلتفت إلى الأئمة “. اهـ
بل إن خشية الملامة هي من خصال المنافقين؛ لأن أعينهم على الدنيا ناظرة وقلوبهم في الدنيا راغبة، وعن الآخرة هم معرضون، فإنهم وربي لخاسرون. قال البغوي: “وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم”.
وإن من المقرر شرعاً أن ترك العمل بسبب الملامة لا يعد عذراً شرعياً، قال السيوطي: ” فيه أن خوف الملامة ليس عذراً في ترك أمر شرعي “. ولا يخفى أن خوف الملامة لا تختلط بمقاصد الشريعة، أو المصلحة الشرعية المعتبرة، ومراعاتها فهي معتبرة شرعاً. ومقدرة بقدرها.
ولا شك أن وجود الملامة في الجهاد أكثر وأكبر؛ لأن دوافعها في النفوس الضعيفة أقوى وأغزر، قال ابن القيم: “وأعلى ما يحبه الله ورسوله الجهاد في سبيل الله، واللائمون عليه كثير، إذ أكثر النفوس تكرهه، واللائمون عليه ثلاثة أقسام: منافق، ومخذل مفتر الهمة، ومرجف مضعف القوة”. اهـ
ولكن مع هذا فعباد الله الصالحون الأبرار الذين تفضل الله عليهم بهذه الصفات لا يثنيهم عن عزمهم شيء، ولا يردهم عن مرامهم راد، ولا يصدهم عن قصدهم صاد، طالما أنهم في طريق الهدى سائرون، ولِسُبُلِ الشيطان صادون، ولِطُرُقِ الضلال محايدون ومجانبون، يسعون في مصافحة المنون وكأنها هدايا توزع في يومِ جوائزٍ، كل يستقبلها بصدر رحب مسرور، رضوا ببيع الله، فأرضاهم الله. لا حرمنا الله من فضله.
فهم قائمون بواجب الجهاد ولا يلتفتون ولو وجدوا الملامة من أحد فإنها لا تصدهم عن نصرة دين ربهم؛ لأن محبة الله فوق كل شيء ورضا الله مقدم على رضا عبيده، وإن وجود هذه الملامة لزيادة خير لهم؛ لأنها ابتلاء وتمحيص حتى يظهر مَنْ هو مُقَدِّمٌ لربه على خلقه من العكس.
وإن الإعراض عن الملامة وعدم المبالاة بها لدليل قوة الإيمان، وارتفاع المحبة لله، وعلو الهمة وقوة العزيمة، والصلابة في الدين، وهذه نُقُولٌ توضح وتأكد ذلك: قال ابن الجوزي: “فأَعْلَم اللهُ _عز وجل_ أن الصحيحَ الإيمان لا يخاف في الله لومة لائم، ثم أَعْلَم أن ذلك لا يكون إلا بتوفيقه، فقال: “ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ” (المائدة: من الآية54)”. وقال ابن القيم: “وهذا علامة صحة المحبة فكل محب يأخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة، كما قيل:
لا كان من لسواك فيه بقية | يجد السبيل بها إليه اللوم |
وقال السعدي: “فهؤلاء يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين، وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم، فإن ضعيف القلب، ضعيف الهمة، تنتقص عزيمته عند لوم اللائمين، وتفتر قوته عند عذل العاذلين، وفي قلوبهم تعبُّدٌ لغير الله، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق، وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله، فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله حتى لا يخاف في الله لومة لائم “. قال الطاهر بن عاشور: ” وهذا الوصف علامة على صدق إيمانهم حتى خالط قلوبهم بحيث لا يصرفهم عنه شيء من الإغراء واللوم؛ لأن الانصياع للملام آية ضعف اليقين والعزيمة، ولم يزل الإعراض عن ملام اللائمين علامة على الثقة بالنفس وأصالة الرأي”.
وقال سيد قطب: “وفيم الخوف من لوم الناس، وهم قد ضمنوا حب رب الناس، إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس، ومن يستمد عونه ومدده من الناس، أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناس وشهواتهم وقيمهم، وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون، كائناً هؤلاء الناس ما كانوا، وكائناً واقع هؤلاء الناس ما كان، وكائنة حضارة هؤلاء وعلومهم وثقافتهم ما تكون!
وقال البقاعي: “وسبب عدم خوفهم من الملامة صلابة دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين – أمر بالمعروف أو نهي عن منكر – كانوا كالمسامير المحماة، لا يرِّوعهم قول قائل ولا اعتراض معترض، ويفعلون في الجهاد جميع ما تصل قدرتهم وتبلغ قوتهم إليه من إنكال الأعداء وإهانتهم ومناصرة الأولياء ومعاضدتهم، وليسوا كالمنافقين يخافون لومة أوليائهم، فلا يفعلون وإن كانوا مع المؤمنين شيئاً ينكيهم “. وقال الْجَمَلُ: ” بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة في سبيل الله وبين التصلب في الدين، وفيه تعريض بالمنافقين “.
وانظر لهذا القول النفيس من الشوكاني: ” فهم متصلبون في دينهم لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين، وقلب محاسنهم مساوئ، ومناقبهم مثالب، حسداً وبغضاً وكراهة للحق وأهله “. اهـ
وإن الناظر في واقعنا لَيَرَى أن الهوانَ قد حَطَ رحلَه على الأمة الإسلامية، وقد هوى بكل قوته، وقد جثا على صدرها وما ذلك إلا بسبب ضعف إيمانهم، وفتور دينهم، وتركهم للدين أو لأجزاء منه، فوَقَعَ عليهم الذلُ والهوانُ، وجعل اللهُ بأسَهم بينهم، وانقلبتِ الأوصافُ السابقة عليهم، فنجدهم أعزاء على المؤمنين، أذلاء على الكافرين، ويراقبون الناس أكثر من مراقبتهم لله مخافة الملامة من البشر “يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ” (النساء: من الآية108)، فهم في مرحلة الاستضعاف والذل، وهذا بسبب سوء أعمالهم وركونهم للدنيا، قال شيخ الإسلام: ” فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله، فقد يبتليهم الله بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع الفتنة، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم وألف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم، وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم باس بعض “. اهـ
وختاماً: أقول إن الله _جل ثناؤه_ بَيّنَ حقيقةً دعمها بِخَبَرٍ من الغيب يُظْهِرُه الزَمَنُ المستقبل، فالحقيقة أن المنافقين والمتخاذلين لا يُعَوَّلُ عليهم، ولا يُعْتَدُ بهم في نُصْرَةِ الإسلام وأهله، إنما التَعْوِيلُ في نصرة الدين على المؤمنين الصادقين الذين ظَهَرَتِ عليهم المحبةُ لخالقهم والمُنْعِمِ عليهم، فظهرت على جوارحهم وقاموا بالواجب المطلوب منهم أتم قيام، وبذلوا مُهَجَ أنفسهم في سبيل رضا ربهم ونشر دينه ودحض الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
فيا مَنْ وجد هذه الصفات وأماراتها في نفسه فَلِيَهْنَك هذا الفضل من الله، ولتحمد الله، فإنها مِنَّةٌ خالصة من الكريم، وفَضْلٌ من الله العظيم تفضل بها عليك، فَلْتَسْعَ في شكرِها، والمحافظةِ عليها، ولا يراك اللهُ إلا شاكراً، ولا تحزن أو تغتم لِتَأَخُرِ النَصْرِ والتمكينِ فإنه لا يتأخرُ إلا لِحِكَمٍ لا يعلمها إلا الله العليم الحكيم. ويا مَنْ فقدها فلتجتهد في تحصيلها فإنها سمة ناصري الدين إن أردت أن تكون منهم، ولتحذر أن تكون ممن يستبدلهم المولى بغيرهم فتكون من الخاسرين.
وإن هذا الفضل مِنَ الله يهبه لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء ولا راد لحكمه. فمَنْ حُرم هذا الفضل فلا ينزغنه الشيطان لذم مَنْ تحلى بهذه الصفات. فإن الله حكيم يهبها لمن يرى أنه أهل لذلك سواء أكان من أهل العلم الشامخين، أو من ذوي الفضل المشهورين، أو من بقية الأمة العاملين.
فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة هو وشأنه، والله غني عن العالمين، والله يختار من عباده مَنْ يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم والعطاء الواسع.
نسأل الله أن يرجع الأمة إلى دينه، وأن يعزنا بطاعته، وأن يستخدمنا في نصرة دينه. إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.