فقه النوازل في الغرب الإسلامي

فقه النوازل في الغرب الإسلامي نظمت شعبة الدراسات الإسلامية و وحدة الدراسات المنهجية الشرعية في الغرب الإسلامي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن طفيل بقنيطرة المغرب الأقصى ندوة وطنية في موضوع فقه النوازل في الغرب الإسلامي تاريخا و منهجا يوم الأربعاء 18 ذي الحجة 1421هـ 14 مارس 2001مبمشاركة نخبة من الأساتذ..

Share your love

نظمت شعبة الدراسات الإسلامية و وحدة الدراسات المنهجية الشرعية في الغرب الإسلامي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل، بقنيطرة المغرب الأقصى، ندوة وطنية في موضوع: “فقه النوازل في الغرب الإسلامي، تاريخا و منهجا” يوم الأربعاء 18 ذي الحجة 1421هـ / 14 مارس 2001م.بمشاركة نخبة من الأساتذة من الجامعات المغربية. و تعد هذه الندوة أول ندوة تعقد في موضوع “فقه النوازل” بالمغرب.

وعلى هامش الندوة أجرينا هذا الحوار مع أستاذين شاركا في الندوة، هما: الأستاذ الدكتور محمد التمسماني،حاصل على دكتوراه الدولة في موضوع:”الاجتهاد الذرائعي و أثره في الفقه الإسلامي: المذهب المالكي نموذجا”. و الأستاذ الدكتور توفيق الغلبزوري،حاصل على دكتوراه الدولة في موضوع:”المدرسة الظاهرية بالمغرب والأندلس: نشأتها، أعلامها، أصولها، وأثرها”، و هما أستاذا الفقه و أصوله بكلية أصول الدين بمدينة تطوان بالمغرب.
و فيما يلي نص الحوار:

بداية نرحب بالأستاذين الفاضلين: الدكتور محمد التمسماني، والدكتور توفيق الغلبزوري، في موقع الشبكة الإسلامية على الإنترنت.

س1: ما معنى النوازل؟ و ما المراد بفقه النوازل، و كتب النوازل؟ size=3>
ج (الأستاذ توفيق الغلبزوري):النوازل؛ جمع نازلة، و هذا مصطلح اختص به الغرب الإسلامي، و كتب النوازل تعددت أسماؤها فسميت النوازل، و الفتاوى، و هما الاسمان الشائعان في الغالب، و دُعيت كذلك: المسائل، و الأسئلة، والأجوبة، و الجوابات، والأحكام، و تسمى في بلاد العجم مما وراء النهر “الواقعات”. و هي عبارة عن مؤلفات فقهية حرّر مادتها العلمية قضاة أو مفتون أو مُشَاوَرون في موضوع أحداث واقعية رفعت إليهم للبت فيها أو لبيان الحكم الشرعي فيها، في الغرب الإسلامي، على مذهب الإمام مالك، طبعا، أو رفعت إليهم لإبداء رأيهم في صحة أو عدم صحة تطبيق النصوص الفقهية عليها من جانب قاض أو مفت آخر.

تبتدئ كل نازلة بسؤال يختصر غالبا من طرف المفتي أوجامع الفتاوى، و قد يطول حين يُترك بصيغته الأصلية على ما فيه أحيانا من ضعف لغوي و تركيبي، فيكون أفيد لتصوير تفاصيل النازلة المتحدث عنها. و تتوالى الفتاوى في بعض كتب النوازل بحسب صدورها عن الشيخ دونما ترتيب، و تصنف في كتب أخرى بحسب الموضوعات التي تتحدث عنها تصنيفا فقهيا من عبادات أو معاملات على ما هو المعهود من كتب الفقه العامة. و قد يموت الشيخ المفتي النوازلي دون أن يؤلف فتاواه في كتاب فيقوم أحد تلاميذه بجمعها و ترتيبها، و تسمى عادة، مثلُ هذه الكتب بالنوازل أو الفتاوى المجموعة مع نسبتها دائما إلى صاحبها. و هناك فتاوى أخرى يموت صاحبها دون أن يدونها في كتاب، و لا ينهض غيره ليجمعها، فتبقى مبعثرة يحفظها تلاميذ الشيخ و معاصروه، و تروى عنه في الفهارس و البرامج بالسند، و ينقلها المؤلفون المتأخرون في كتبهم، و هذا النوع هو الغالب في النوازل الأندلسية، لا سيما بالنسبة للفقهاء المتقدمين.

و لكتب النوازل فائدة كبيرة للمشتغلين بالفقه و أصوله، بل تعدتهم إلى غيرهم من المختصين في سائر العلوم الإنسانية و الدراسات الاجتماعية و الاقتصادية، لا سيما منها التاريخية، حتى قال بعض المؤرخين المعاصرين:”أصبح كل عمل تاريخي يتجاهل هذا النوع من المصادر عملا غير تام”.

س2: أستاذ محمد التمسماني،ماذا يمكن أن تضيفه في تعريف النازلة و فقه النوازل؟ ثم لماذا الغرب الإسلامي بالذات؟ ألم يكن في الشرق الإسلامي فقه نوازل، أم أنه إحياء و بعث “لعقدة” الشرق و الغرب؟size=3>
ج: مما لا شك فيه أن الإفتاء منصب عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، فالمفتي موقع عن الله، و كما قال الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات:”المفتي هو قائم مقام النبي”، و لقد عرف سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عنهم، من الصحابة و التابعين، للإفتاء و الفتوى عظيم المنزلة فتهيبوه و تورعوا عنه، و تدافعوه بينهم. و الجدير بالذكر أن اهتمام المالكية في الغرب الإسلامي منذ أن دخل المذهب المالكي إلى الغرب الإسلامي، اهتمام بالغ، و جريا على ما عرف به المغاربة من الميل إلى الابتكار و الاستقلال فإنهم ابتكروا في الفتوى اتجاها و مسلكا خاصا بهم انفردوا به عن غيرهم. هذا الاتجاه هو ما يمكن أن نصطلح على تسميته بـ “الاتجاه النوازلي”، و لهذا الاتجاه النوازلي معالمه، و خصائصه، و طرائقه، و مناهجه، و رجاله. و هو اتجاه انفرد به الفقهاء المالكية في الغرب الإسلامي دون غيرهم من الفقهاء في المشرق الإسلامي. نعم كان هناك فقه الفتوى، هذا الفقه كان مشتركا بين علماء المغرب و علماء المشرق، و لكن هذا الاتجاه النوازلي انفرد به المغاربة عن غيرهم، و هو السر في إصرارهم على تسمية كتبهم في هذا الباب بالنوازل، فهم يقولون: نزلت نازلة، أو وقعت، أو حدثت. و هذا لا شك أن له ارتباطا بتأثرهم بمنهج الإمام مالك رحمه الله تعالى في باب الإفتاء.

س3: إذا أردنا أن نتحدث عن تاريخ فقه النوازل في الغرب الإسلامي، ما الذي يمكن قوله عن المراحل التي درج عبرها؟ و هل عرف ضمورا و فتورا في مراحل معينة؟size=3>
ج (الأستاذ الغلبزوري): فقه النوازل يتحرك بحركة المجتمع و الحضارة، فكلما تطور المجتمع و تطورت الحضارة تطور معها هذا النوع من الفقه، و كلما عرفت الحركة الحضارية سكونا و جمودا جمد هذا النوع من الفقه، فهو يتطور بتطور الحياة.
و قد عرف هذا النوع من الفقه “فقه النوازل” في الغرب الإسلامي مراحل، لكل مرحلة صبغة خاصة. فعلى سبيل المثال: فقه النوازل في العصور المتقدمة في الغرب الإسلامي، لا سيما مع تلامذة الإمام مالك من الأئمة الكبار كيحيى بن يحيى الليثي، و زياد بن عبد الرحمن المعروف بشبطون، و الغاز بن قيس، و عبد الرحمن بن دينار، و أخيه عيسى بن دينار و أبنائهم و حفدتهم الذين توارثوا الرياسة و الفقه في الأندلس أجيالا عديدة، و كانوا ملء سمع الأندلس و بصرها، في هذا العهد لم تدون هذه النوازل و الفتاوى في كتاب، أو دون بعضها و ضاع. فهذا لم يكن عصر التدوين لهذا النوع من الفقه، لكن كان ينقل بالرواية و السند، و يُعنى به العلماء و ينقلونه في فهارسهم، و برامجهم، و مشيخاتهم و غيرها.
في عصر المرابطين كان اتجاه الفروع هو الغالب على فقه النوازل، فتجد النوازل فيها استدلال بأقوال أئمة المذهب ورجاله، لا سيما أقوال ابن القاسم و غيرها من أقوال مالك، و قلما تستدل بنصوص الكتاب و السنة أو بالأدلة من أصول الفقه، و إنما تستدل غالبا بأقوال الرجال. و إذا انتقلنا إلى مرحلة أخرى، و هي زمن الموحدين، و مجيء الدولة الموحدية، و جدنا أن هذه الدولة التي أحرقت كتب المذهب و شجعت على الاجتهاد و النظر، جعلت كتب النوازل تقفز قفزة أخرى، ذلك أنك تجد في كتب النوازل خلال هذه المرحلة الاستدلال و الاجتهاد و النظر، و الأخذ بالظاهر، لأن الدولة كانت تنحو هذا المنحى.
إذا انتقلنا إلى عهد الدولة النصرية نجد أن فقه النوازل قد أخذ طابعا آخر فبدأت الفتاوى تميل إلى نوع ما يسمى اليوم “فتاوى سياسية” حيث نجد تعيين علاقة المسلمين بالنصارى، و تعيين علاقة المسلمين باليهود، و حكم الردة، لأن بعض المسلمين في الأندلس ارتد عن الإسلام قهرا و إكراها، فكانت كتب النوازل في هذه المرحلة تنحو هذا المنحى.
فإذن، النوازل تتطور و تتغير بتغير المجتمع و تطوره، و لكل مرحلة نوع خاص من النوازل و من الفتاوى.

س4:ذكر الأستاذ التمسماني أن المغاربة اختصوا بفقه النوازل، فلا شك أنهم ألفوا في ذلك تواليف، فما حظهم من ذلك؟ و ما هي أشهر المؤلفات في فقه النوازل؟size=3>
ج (الأستاذ الغلبزوري):المعلوم أن المغاربة اختصوا بهذا الفقه “فقه النوازل”، و عرف المغرب و الأندلس غزارة التأليف في هذا الفن، فالمتتبع النبيه يلاحظ تكاثر كتب النوازل كثرة كبيرة في الأندلس و المغرب، لا سيما بعد القرن العاشر الهجري، فقد انفرد المغرب الأقصى بصفة خاصة بالنوازل، بعد أن انتهت دولة الإسلام في الأندلس و هيمن الأتراك العثمانيون على المغربين الأدنى و الأوسط، و زاحموا فيهما المذهب المالكي بالمذهب الحنفي للأتراك، و ظل المغرب الأقصى مستقلا عن النفوذ التركي فنفقت فيه سوق الفقه المالكي و كتب النوازل، و ظهرت في المغرب شماله و جنوبه كتب كثيرة في مرحلة قصيرة بلغت سبعين مصنفا خاصا بفقه النوازل، أما في شمال المغرب فحدث عن البحر و لا حرج. وفي مدينة فاس أيضا صُنفت أكبر موسوعتين في النوازل في الغرب الإسلامي: “المعيار المعرب” لأحمد الونشريسي التلمساني الفاسي (ت914هـ)، و “المعيار الجديد” أو “النوازل الكبرى” للمهدي الوزاني الفاسي (ت1342هـ)، و كذا ألف كتابا آخر سماه “النوازل الصغرى”، و يسمى أيضا “المنح السامية في النوازل الفقهية”.
أما إذا أردنا أن نعد المؤلفات في هذا الفن في شمال المغرب الأقصى، فقد كان له القدح المعلى و اليد الطولى في هذا النوع من الفقه، و فقهاؤه النوازليون أظهر من أن يُنكروا و أشهر من أن يُذكروا، و لا بأس من ذكر أسماء أمثال:المهدي الوزاني العمراني صاحب “المعيار الجديد” أو “النوازل الكبرى”، الذي هو أكبر موسوعة في الغرب الإسلامي ذيل بها على المعيار المعرب للونشريسي. و أحمد بن عرضون الغماري الشفشاوني (ت992هـ) الفقيه النوازلي الكبير صاحب كتاب “الأجوبة”. و عبد العزيز بن الحسن الزياتي الغماري (ت1055هـ) صاحب كتاب “الجواهر المختارة فيما وقفت عليه من النوازل بجبال غمارة”، و كان موضوع رسالة علمية بجامعة السوربون في باريس. و علي بن عيسى العلمي الشفشاوني (ت1127هـ) قاضي الشاون و ابن قاضيها، و صاحب “نوازل العلمي”، التي طبعتها وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية بالمغرب. و أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الحايك التطواني (ت1237هـ) صاحب النوازل المشهورة التي جمعها تلميذه قاضي تطوان سيدي المامون أفيلال الحسني. و غير هؤلاء كثير، و في ما ذكرنا غنية إن شاء الله تعالى.

س5: انتشر المذهب المالكي في الغرب الإسلامي و بقي عبر التاريخ المذهب المعتمد في هذه الأقطار، هل كان لهذا المذهب تأثير على فقه النوازل؟ size=3>
ج (الأستاذ محمد التمسماني): مما نعلمه جميعا أن المذهب المالكي منذ دخل بلاد الغرب الإسلامي ظل موجودا و كانت الفتوى تنطلق منه، و كان العلماء المفتون كلهم مالكية، و نحن عندما نتحدث عن الاتجاه النوازلي و ندعي أنه اتجاه انفرد به المغاربة، فإنما نقصد العلماء المالكية، فخصوصيته مستمدة من المذهب المالكي أصولا و فروعا. ثم إن هناك أمرا من الأهمية بمكان، و هو أن المالكية في الغرب الإسلامي ظلوا متأثرين بمنهج الإمام مالك بن أنس، رحمه الله تعالى، في الأصول و الإفتاء، فأصولهم هي أصول الإمام مالك.
و لهذا نرى أن الحركة التاريخية لطرق الاجتهاد و الاستنباط في الغرب الإسلامي تختلف عن مثيلتها في المشرق الإسلامي، فبرجوعنا إلى المصادر التاريخية في الغرب الإسلامي وجدنا أن هناك مراحل خاصة للمالكية، ففي القرنين الثاني و الثالث الهجريين لم تكن لهم مدونات، و لهذا سميت هذه المرحلة مرحلة البناء و التأسيس، فقد ظلوا متشبثين بأصول الإمام مالك التي بثها في الموطأ. و ذكر ابن العربي أن مالكا بنى موطأه على تمهيد الأصول للفروع، و نبه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع إليها مسائل الفقه و فروعه. و يقول القاضي عياض في ترتيب المدارك: “و إشاراته-أي مالك في الموطأ-إلى مآخذ الفقه و أصوله التي اتخذها أهل الأصول من أصحابه معالم اهتدوا بها و قواعد بنوا عليها” إلى أن يقول: “و قد تقرر استقلال مالك بهذه الأصول على ألسنة المؤالف و المخالف”.
و من ذلك نستفيد أن المالكية في الغرب الإسلامي كانت لهم مدرسة خاصة في مجال الاجتهاد و الاستنباط، و لم يتأثروا بغيرها من المناهج و الطرائق مما كان معروفا في المشرق. فقد انشغل المغاربة في مرحلة القرون: الثاني والثالث و الرابع بالدفاع عن المذهب المالكي،أو لنقل: انشغلوا في هذا الطور بالتأسيس و البناء، أسهم فيه أصوليو المذهب المالكي في المشرق و المغرب.يدل على ذلك أنه عندما جاء الإمام الشافعي من العراق إلى مصر، جعلت آراؤه الجديدة تدب في الناس مما اضطر بعض علماء المالكية أن يدخلوا معه في صراع حاد، فقام المالكية و ردوا على الإمام الشافعي الذي كان من قبل تلميذا لمالك، و انتقدوا كتاب الرسالة، كما انتقدوا من قبله مؤسس المدرسة الحنفية، و في هذه الفترة ألف محمد بن الحكم المصري المالكي (ت269هـ)، و كان معجبا بآراء الشافعي قبل أن يصير مالكيا، كتابا في الرد على الإمام الشافعي، و آخر في الرد على أهل العراق، و آخر في الانتصار للمذهب المالكي. و ألف أبو بكر أحمد بن مروان المالكي المصري (ت298هـ) كتاب الرد على الشافعي، و كتاب فضائل الإمام مالك. و لابن أبي زيد القيرواني (ت386هـ) كتاب الاقتداء بأهل المدينة، و كتاب الذب عن مذهب مالك. و كل هذه الكتب و غيرها تقرر أن المدرسة المالكية و أصولها الاجتهادية كانت موجودة في هذه المرحلة، و أنها لم تتأثر بالمؤثرات التي عرفتها أصول المدرسة الاجتهادية بالمشرق، فلا شك أن المذهب المالكي كان له تأثير واضح جدا على الفقه الإسلامي عموما و على فقه النوازل، أو الاتجاه النوازلي بصفة خاصة.

س6: ما الذي تختص به كتب فقه النوازل في الغرب الإسلامي، أو بعبارة أخرى ما هي خصائص الاتجاه النوازلي في الغرب الإسلامي؟size=3>
ج (الأستاذ الغلبزوري): لفقه النوازل في الغرب الإسلامي خصائص و مميزات يصح إجماله فيما يلي:

1- اصطبغت كتب النوازل في الغرب الإسلامي بصبغة المذهب الذي يتمذهب به هذا الصقع من أصقاع الإسلام ، وهو المذهب المالكي، الذي يتوسع في أصلين يعدان من أهم أصوله: المصالح المرسلة، و سد الذرائع، و هما لصيقان بواقع الناس و تطور الحياة.

2- توجد خصوصية أخرى لنوازل المغرب و الأندلس، فإلى جانب الفتاوى المعهودة التي تتضمن أجوبة المفتي على أسئلة الناس، كما هو الحال في سائر الأقطار الإسلامية، هناك صنف آخر من النوازل يدعى “نوازل الأحكام” خاص بكبار شيوخ الفقه و الفتوى المُشاوَرين، لأن القضاء في هذه المنطقة الغربية كان مبنيا على خطة الشورى، حيث يعين الخليفة أو الأمير إلى جانب كل قاض من قضاة الحواضر فقيها مشاورا أو أكثر، يستشيره القاضي –كتابة-في المسائل التي ينظر فيها بين الخصوم. و قد بدأت خطة الشورى في قرطبة خلال القرن الثالث الهجري، و كان المشاور فيها واحدا، و أقدم من عرف اسمه منهم يحيى بن يحيى الليثي (ت234هـ)، و هو تلميذ مالك رضي الله عنه، و عبد الملك بن حبيب (ت238هـ)، و أحمد بن بقي بن مخلد (ت324هـ)..

3- الخاصية الثالثة أن نوازل المالكية تميزت أكثر من غيرها بصفة الواقعية، فلا تهتم إلا بقضايا وقعت و نزلت بالفعل، و قد بدأ هذا الأمر منذ عهد التأسيس حين كان مالك رضي الله عنه يستنكف أن يخوض في الفرضيات، و يحرص على ألا يبحث إلا في فقه المسائل التي حدثت. و لما سأله عراقي و أخذ يفترض له فرضيات قال له: ” تلك سليسلة بنت سليسلة، إذهب عند أهل العراق”، و سأله عراقي آخر عن نحو هذا فلم يجبه، فقال له: لم لا تجيبني يا أبا عبد الله؟ فقال له: لو سألت عما ينفعك لأجبتك.

4- الخاصية الرابعة: المحلية، و هي من أبرز مميزاتها، فهي لا تبقى سابحة في مطلق الفقه و أبوابه العامة كما هو ديدن كتب الفقه، و إنما تتحدد مسائلها في المكان و الزمان و الموضوع، فيأتي السؤال و كذا الجواب بتفاصيل النازلة، ويذكر أسماء الأطراف المعنية، و حتى تاريخ النازلة أحيانا، و ذلك كله مادة خصبة و ثروة لا تقدر للفقهاء و الأصوليين والمؤرخين.    

5- الخاصية الخامسة لهذا الفقه، و قد تقدم ذكرها، هي غزارة التأليف في النوازل، بما لم يقع في أي قطر من أقطار الإسلام.

س7:أستاذ محمد التمسماني، هل من إضافة في هذه المسألة؟size=3>
ج: أضيف فأقول إن كتب النوازل في الغرب الإسلامي كانت لها مسالك و طرائق و خصائص و مميزاتّ، هذه الخصائص و المميزات يتوقف فهمها و الإفادة منها على العلم و الإحاطة بها، فمن الضروري لكل باحث و دارس و قارئ لكتب النوازل أو الاتجاه النوازلي لكي يفقهه و يستفيد منه، أن يكون على بينة و بصيرة من هذه الخصائص، و أهمها: أولا، أن الاتجاه النوازلي دائما نجده مرتبطا بأصول الاجتهاد و الاستنباط، فإذا كان نظر الفقيه النوازلي في الوقائع يعبر عن ارتباط الفقه بالحياة اليومية التي تتطلب أحكاما لما يطرأ و يستجد من القضايا و النوازل و جعلها ملائمة لروح الشريعة مسايرة للتطور، فإننا نجد باب الاجتهاد ظل مفتوحا في هذا الاتجاه من اتجاهات الفقه في الغرب الإسلامي، و لهذا نرى أن كل من أرخ للمراحل التاريخية التي مر بها هذا الاتجاه ينص على أن مرحلة القرنين الرابع و الخامس الهجريين تعد عصر ازدهار الإفتاء أو الاتجاه النوازلي، و من هذه المرحلة وصلتنا أهم المؤلفات في النوازل الفقهية، بل ظل هذا العصر مرجعا لكل المدونات اللاحقة، و هذا العصر أيضا هو عصر ازدهار الدراسات الفقهية، و هو العصر الذي انتقل فيه الاجتهاد والاستنباط في الغرب الإسلامي إلى مرحلة النضج و الإبداع فحصل التكامل الذي أنتج لنا أن الاتجاه النوازلي في الغرب الإسلامي كان دائما ممتزجا بأصول الاجتهاد و الاستنباط، و أن باب الاجتهاد فيه كان مفتوحا.

الخاصية الثانية، و قد أشار إليها الأستاذ الغلبزوري،هي: الظرفية أو النسبية، و هي خاصية مهمة جدا، و أؤكد هذا لأن هناك دراسات كتبها مستشرقون فيها اتهام لدولة الإسلام في الغرب الإسلامي، و بخاصة في الأندلس، و من ذلك ادعاؤهم أنها عرفت بالتعصب و التشدد إزاء أهل الذمة (اليهود و النصارى)، و هذا غير صحيح، لأنهم انطلقوا من فتاوى ونوازل وقعت في فترات ظرفية زمانية و مكانية خاصة. إذن فالظرفية أو النسبية خاصية مهمة جدا، و لهذا نرى أن المتتبع لكتب النوازل يجد أن العلماء النوازليين كانوا يراعون الملابسات التي تحيط بالفعل و الحال الحاضرة و النازلة المتعينة، ويجعلونها مناط التفريع، فالمجتهد كي يفتي الناس أو ينزل على النازلة ملزم بمعرفة الظروف و الأحوال، يقول العلامة عبد السلام الهواري (ت749هـ): “إنما الغرابة في استعمال كليات علم الفقه و انطباقها على جزئيات الوقائع من الناس، و هو عسير على كثير من الناس، و لهذا اشتهر بأن الفتوى دربة و صنعة، لأن الأحكام تتغير بتغير الأزمنة”. و من هنا نصوا أيضا على أن مراعاة المآل بالنسبة إلى حال الزمان و أهله أمر ضروري للمفتي، و من اللافت للانتباه أن الفقهاء المالكية المتأخرين بالغرب الإسلامي اعتمدوا في معالجة النوازل و القضايا و الأعراض على هذا المسلك، هناك مثالان مشهوران، الأول: فقه العمل الذي اشتهر به المالكية، و هو كله مبني على الظرفية و النسبية، أو ما يمكن أن يصطلح عليه “الذرائعية”، و الثاني: أن كثيرا من القضايا الاجتماعية الشائكة في الغرب الإسلامي بحثها العلماء من منطلق مراعاة الأحوال و الظروف و الملابسات.

و الخلاصة أن نقول إن الملابسات التي تحيط بالنازلة في الاتجاه النوازلي لا بد من مراعاتها، فكما يقول الأصوليون في باب القياس:”الحكم يدور مع علته وجودا و عدما”، يمكننا أن نقول:”النازلة الفقهية تدور مع ملابساتها و ظروفها وأحوالها وجودا و عدما”

س8: تحدثتم أستاذ التمسماني في بحثكم المقدم للندوة عن وجود عناصر للاتجاه النوازلي، ما هي هذه العناصر؟size=3>
ج (الأستاذ محمد التمسماني): قلنا إن التجاه النوازلي انفرد به الفقهاء المالكية في الغرب الإسلامي دون غيرهم، و إن النازلة أخص من الفتوى، فكل نوازلي مفت و ليس كل مفت نوازليا. أما عناصر التجاه النوازلي فهي:
أولا: النوازل: و هي الوقائع الفائتة، و هي على نوعين: متعدية وقاصرة.
ثانيا: النوازلي: و هو العالم المجتهد المالك لقدر كبير من الخبرات و التجارب العملية الميدانية في مختلف مجالات الحياة المجتمعية، فليس كل مفت صالحا لأن يكون من علماء النوازل، يشير إلى هذا تقسيم ابن رشد المفتين إلى ثلاثة أقسام: مفت يحفظ، و مفت يحفظ و يفهم، و مفت بلغ درجة الاجتهاد. و هذا ما يفسر لنا أن النوازليين كانوا دائما أقل من المفتين.
ثالثا: التنزيل: فنظر العالم النوازلي في النازلة مرتبط بمراحل ثلاثة: الأولى: التصور، أي تصور النازلة ذاتا و صفة وهيئة. الثانية: التحقيق، أي تحقيق مناط النازلة بمراعاة الملابسات و الظروف، لأن مناط القياس على النازلة هو مراعاة هذه الظروف و الملابسات من كونها تجعل النازلة قاصرة أو متعدية. الثالثة: التنزيل، و يكون بأمور ثلاثة: إما بالربط بين النازلة و نازلة أخرى شبيهة لها، و إما بالاستدلال بالنص أو بنصوص المذهب أو بالقياس على نظيراتها، و إما بالاستقراء بتغليب القصد على اللفظ.

س9: لفقه النوازل ارتباط بالاجتهاد و الفتوى، هل يشترط في العالم النوازلي مثلما يشترط في المجتهد؟size=3>
ج (الأستاذ محمد التمسماني): عرف العالم النوازلي في الغرب الإسلامي بأنه العالم المجتهد الذي فاق غيره بكونه يملك قدرا كبيرا من الخبرات و التجارب العملية الميدانية، و لهذا كان علماء النوازل بالغرب الإسلامي قلة قليلة بالنظر إلى غيرهم من المفتين، كما أن المفتين كانوا قلة بالنظر إلى القضاة، إذن فالعالم النوازلي هو العالم المجتهد، طبعا، لأنه لا يفتي إلا المجتهد.

س10: أستاذ الغلبزوري، هل يمكن أن تحدثونا عن مثال لمؤلف في فقه النوازل في الغرب الإسلامي؟size=3>
ج: نعم، يمكن أن نأخذ من شمال المغرب نموذجا لذلك: نوازل العلامة قاضي تطوان، أبي زيد عبد الرحمن بن محمد الحائك المصمودي التطواني، و هو فقيه، مفت، نحوي، و لى قضاء تطوان ثلاث مرات، و كان كثير النسخ و التأليف، و له مؤلفات منها: “إعراب مختصر خليل”، في مجلدات، و “شرح شواهد المكودي على الألفية”، و “النوازل الفقهية”، و”أربعون حديثا من رواية الأئمة الأربعة”، و نسختها الوحيدة محفوظة بالخزانة العامة بتطوان، بخط مؤلفها. و قد توفي رحمه الله عام 1237هـ. و نوازله جمعها تلميذه القضي سيدي المامون أفلال الحسني، و لا تزال نسخة منها عند بعض حفدة الحائك بتطوان، و لكنهم أضناء بها، و قد حاول الفقيه داود الحصول عليها من ورثته فلم يفلح، و استطاع شيخنا العلامة الفقيه المحقق محمد بوخبزة التطواني الحسني أن يلقي عليها نظرة عند حفدة الحائك، و لكنه لم يُمكّن من تصويرها. غير أن الكثير من هذه النوازل ضمنها المهدي الوزاني نوازله:”المعيار الجديد”، و”المنح السامية”. و يمكن أن نختار مثالا من هذه النوازل،و هو في قضية حصانة الأطباء و البياطرة في ذلك الزمان و في مواجهة الغير، فقد “سئل العلامة الحائك عن بيطار خصى بغلا فمات، فشهد من له معرفة بالبيطرة أنه عارف بذلك و غيره و من الحذاق فيه، فأفتى غيره أنه لا ضمان عليه، لقول ابن سلمون: و من فعل فعلا يجوز له من طبيب و صانع و شبيههما على وجه الصواب، و تولد منه هلاك نفس أو ضياع مال فلا شيء عليه. فأجاب: أنه صحيح دليله معه.”أي أن هذه الفتوى صحيحة دليلها معه. و على هذا جرى العمل إلى يوم الناس هذا، و حتى في التقنين الوضعي الوطني و الدولي، فلا ضمان على الطبيب و البيطري، و لا غرم عليهما إلا إذا تعمدا الإهمال و قصرا في الأمر، إذ لو لم يكن لهؤلاء هذه الحصانة التي تيسر لهم القيام بمهامهم لتعطل الطب و البطرة و سائر أمثال هذه الصنائع. و قد وصل فقهاؤنا إلى هذه المرتبة من النظر، في وقت كانت فيه القوانين الدولية و الأوربية تعتبرالطبيب و البيطري ضامنين في كل الأحوال.

س11: الحديث عن فقه النوازل هو حديث عن الاجتهاد في صورة أخرى، فلماذا الحديث عن فقه النوازل في هذه الظروف؟ و ما الذي يمكن أن يستفاد من إحيائه، و ما مجالات ذلك؟size=3>
ج (الأستاذ محمد التمسماني): الاهتمام بالنوازل في عصرنا الحاضر بدأ متأخرا، و فقه النوازل بالنسبة لما يعرفه العالم الإسلامي من صحوة و نهضة هو من الأهمية بمكان، و لهذا نرى أن أسلافنا رضي الله عنهم كانت حركة فقه النوازل في زمانهم مرتبطة بعضها مع بعض، و أن جل من ألف في فقه النوازل كان يتحرى أن يأخذ نوازله و فتاويه عن شيوخه أو عن شيوخ شيوخه. لكن ما أصاب الأمة الإسلامية من تأخر و تقهقر أفضى إلى جمود و ركود في جميع الميادين، و إذا أردنا أن نسهم في إحياء تراثنا لا بد لنا أن نقرأ تراث أسلافنا و علمائنا رحمهم الله تعالى، لنستفيد منه في معالجة النوازل و القضايا المستجدة في عصرنا الحاضر. و قد بدأت حركت نشر التراث النوازلي في الغرب الإسلامي منذ فترة وجيزة، و كان لوزارة الأوقاف المغربية الفضل الكبير في طبع كثير من المصنفات في تراث فقه النوازل، لكن يؤسفنا أن جل هذه الكتب خرج في صورة لا يستطيع الباحث أن يستفيد منها، و ذلك لما اعتورها من أخطاء في التحقيق، و كثرة التصحيف، و الحذف، و الزيادة و النقصان.

س12:في نظركم ما هي أهم القضايا المعاصرة التي يحتاج فيها المسلمون إلى اجتهاد الفقيه النوازلي؟size=3>
ج (الأستاذ الغلبزوري): كل القضايا المعاصرة اليوم بحاجة إلى اجتهاد الفقيه النوازلي، فالقضايا الطبية المعاصرة، كاستئجار الأرحام، و أطفال الأنابيب، و المشاكل الاقتصادية المعاصرة، كالتأمينات، و الفوائد البنكية، و السندات، والكمبيلات، و أنواع التأمين الكثيرة، و المشاكل الاجتماعية التي لا تعد و لا تحصى، و أظن أن أكبر مجالين للاجتهاد النوازلي، اليوم، هما المجال الطبي، و المجال الاقتصادي، الذي لم تعد فيه المؤسسة الربوية هي تلك المؤسسة التي كانت في عهد السلف، و إنما تطورت و تشعبت، و كثرت فيها أنواع الربا و تلونت بتلاوي

Source: islamweb.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!