اقتضت حكمة الله جل في علاه، وتمام ربوبيته، كمال تصرفه في ملكه وكونه، أنه سبحانه يقدم ما شاء على ما شاء، ويفضل من شاء على من شاء، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(القصص:68).
فضل الله سبحانه بعض الأزمنة على بعض، وبعض الأمكنة على بعض، وكذلك بعض الأشخاص، ولله خواص من الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
اختار من خلقه المؤمنين والصديقين، واصطفى عليهم النبيين والمرسلين، وقدم منهم أولي العزم من المرسلين، ثم أختار على الكل محمدا صلى الله عليه وسلم فجعله خاتم رسله وأفضل خلقه، وسيد ولد آدم أجمعين.
واختار من البقاع المساجد، وفضل عليها المسجد الحرام فجعل الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، والمسجد النبوي وجعل الصلاة فيه بألف صلاة، والمسجد الأقصى والصلاة فيه بخمسمائة صلاة فيما سواه.
واختار من الأيام يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، وعشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، وهكذا يفعل الله ما يشاء (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)(الأنبياء:23).
وكل من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا يعلم أن لله تعالى الحجة الدامغة والحكمة البالغة في تشريع ما يشاء من الأحكام، واصطفاء من يشاء من الأنام، وتفضيل ما يشاء من الأماكن والأزمان.
الأشهر الحرم:
وإن مما فضله الله من الأزمنة الأشهر الحرم، اختارها من بين شهور العام فجعلها حراما دون سواها، كما ذكر الله ذلك في كتابه فقال: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)(لتوبة:36).
وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته في خطبة حجة الوداع حين قال: (إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خَلَق اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عَشَرَ شَهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القَعْدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بين جُمادى وشَعبانَ)(رواه أبو داود وأصله في الصحيحين).
وقد كان الشيطان قد استزل مشركي قريش فكانوا ينسؤون هذه الأشهر، أي يؤخرون بعضها ويضعون بعضها مكان بعض حتى اختلطت على الناس، فبين صلى الله عليه وسلم: أنها عادت في ترتيبها عام حجه كترتيبها الذي خلقها الله عليه، وبين أن ما كانوا يفعلونه من الزيادة في الضلال والكفر، والتحايل على الله، إنما هو زيادة في الكفر وأعظم منه، لأنه كذب على الله، واستحلال لما حرمه سبحانه فقال: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(لتوبة:37).
فبان بالكتاب والسنة أهمية هذه الأشهر وكيف أن الله حرمها، أي حرم القتال، وذلك منذ خلق الله السموات والأرض فهي محرمة على مدار الأزمان وفي جميع الشرائع والأديان.
وقد كانت كذلك في ملة إبراهيم عليه السلام، وهو من الدين الذي ورثه العرب عنه، فكانوا يعظمونها ويحرمون القتل والقتال فيها، حتى إن الرجل كان يلقى قاتل أبيه وقاتل أخيه وابنه فلا يمسه بسوء صيانة وتعظيما لهذه الشهور.
فلما جاء الإسلام أبقى حرمتها، ونهى المسلمين وغيرهم عن انتهاكها وأمرهم بتعظيمها وتأكيد حرمتها، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)(المائدة:2).
وقال أيضا: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)(البقرة:217).
فضائل الأشهر الحرم:
وإن مما فضل الله به الأشهر الحرم، أنه جعلها أشهرا للحج، قال سبحانه : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}(البقرة:197). قال أهل العلم: هي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، وقال مالك وغيره: بل ذو الحجة كله.
وقد قال بعض العلماء إنما كان تحريمها من أجل أداء هذه الفريضة العظيمة، ففي ذي القعدة يذهب الناس إلى المناسك في سلام، ثم في ذي الحجة تؤدى مناسك الحج، ثم في المحرم يعود الناس إلى بيوتهم آمنين.
وأما رجب مضر فتحريمه من أجل أن يؤدي العمرة من أراد أداءها في منتصف العام.
ومن فضائلها: أن فيها عشرَ ذي الحجة الأول، والتي هي من أعظم الأيام عند الله، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من غيرها كما جاء في حديث ابن عباس: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني: أيام عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)(رواه البخاري).
ومن فضائلها: أن فيها يوم عرفة، وهو من أعظم الأيام عند الله تعالى، يباهي فيه بأهل الموقف أهل السماء، فهو يوم الغفران، ويوم العتق من النيران، وصومه يسن لغير أهل الموقف فيكفر لهم ذنوب سنتين كما في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ).
ومن فضائلها: أيضا أن فيها يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر المحرم، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون وقومه، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وأخبر أن صيامه يكفر السنة التي قبله كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)(رواه مسلم).
كما أن فيها شهر المحرم فاتحة العام الهجري وهو أفضل أوقات الصيام وأحبها إلى الله تعالى بعد رمضان، (أفضلُ الصيامِ بعدَ رمضانَ شهرُ اللهِ المحرَّمُ)(رواه مسلم).
فلا تظلموا فيهن أنفسكم
وكما أن الله جعل القتال في هذه الأشهر محرما، كذلك جعل الذنب فيها أعظم وأجر العمل الصالح أعظم ولذلك قال سبحانه: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)(لتوبة:36)، أي بفعل السيئات، وارتكاب الموبقات، والوقوع في الفواحش والمنكرات، فإنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.
قال ابن عباس: “اختص الله أربعة أشهر جعلهن حراما، وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم وجعل العمل الصالح والأجر أعظم”.
وقال قتادة: “إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا منه في سواها”.
فإذا كان العمل الطيب يزداد أجره وثوابه، فعلينا باغتنام ذلك فنكثر من الطاعات والقربات وفعل الحسنات، والأعمال الطيبات.
وإذا كان الذنب أعظم فليتق الإنسان ربه ، ويجتنب فعل المنكرات والمنهيات، ومساخط رب الأرض والسموات.
فاللهم ارزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات، ووفقنا لعمل الصالحات ومجانبة السيئات، وأعنا في على ذكرك وشكرك في هذه الأيام الطيبات.