جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس)(حديث حسن كما في صحيح الجامع وصحيح الترغيب).
في هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن قيام الليل عز للقائمين وشرف. وهو كذلك. فقيام الليل سنة نبوية عظيمة، ولذة للقلوب عجيبة، وجنة تدخلها نفوس المؤمنين في هذه الحياة قبل أن تدخل جنة الآخرة.
قيام الليل مدرسة تربي فيها النفوس، وتهذب فيها الأخلاق، وتزكى فيها القلوب.
وقد بين النبي صلوات ربي وسلامه عليه بعض فوائد قيام الليل في حديث أبي أمامة الباهلي حيث قال: (عليكمْ بقيامِ الليلِ؛ فإنَّه دأبُ الصالحينَ قبلكمْ، و قربةٌ إلى اللهِ تعالى، و منهاةٌ عنِ الإثمِ، و تكفيرٌ للسيئاتِ، و مطردةٌ للداءِ عنِ الجسدِ)(وهو حديث حسن أو صحيح حسنه المنذري في الترغيب والترهيب والسيوطي في جامعه الصغير، وكذا الألباني في صحيح الجامع).
من فوائد قيام الليل
وفوائد قيام الليل ومنافعه كثيرة تعود على القائمين في دينهم ودنياهم وأبدانهم.. فمن هذه المنافع:
أولا: أنه يورث الإخلاص:
لأن العمل كلما كان بعيدا عن أعين الناس وعن مراقبة الناظرين كان أدعى للخشوع وأقرب للإخلاص؛ ولذلك كان السابقون يحبون عبادة السر، صدقة أو صياما أو صلاة، وكانوا يستخفون بأعمالهم قدر استطاعتهم حتى لا يداخلها الرياء والسمعة.. ولقد امتدح رسول الله عبادة السر وعمل الخفاء فقال: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر)(رواه الطبراني بسند حسن عن أبي أمامة).
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
وروى الطبراني في معجمه الكبير وابن المبارك في الزهد: (فضل صلاة الليل على صلاة النهار، كفضل صدقة السر على صدقة العلانية).
فمن أراد أن يتعلم الإخلاص ويحققه فعليه بقيام الليل.
ثانيا: أدعى للتدبر والتفكر
قال تعالى: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا واقوم قيلا}(المزمل:6)؛ وذلك لأن تمام التذكر والتدبر يكون مع الهدوء والسكون وانقطاع الشواغل، فيكون القلب أكثر استعدادا للفهم والتقبل والتأمل فيما يسمعه، فيواطئ القلب اللسان فيحس بلذة العبادة، وحلاوة المناجاة، ويعرف معنى الأنس بالله.
قيل للحسن البصري: ما لقوام الليل من أحسن الناس وجوها؟ قال: خلوا بنور الله في الظلام فأكسبهم نورا من نوره.
إن الفتوحات الربانية والمواهب الإلهية تتنزل في الأسحار عندما ينزل ربنا جل وعلا إلى سماء الدنيا فيفتح على القائمين من أبواب الفهم والمعرفة والحكمة والرحمة ما ليعلمه إلا الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه سلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)(رواه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح).
ثالثا: التأثير في الناس
فمن تخرج من مدرسة الليل يؤثر في الأجيال بعده إلى ما شاء الله، والمتخلف عنها يابس جاف قاس تقسو قلوب الناظرين إليه.. وصدق بشر الحافي حين يقول: “بحسبك أن أقواما موتى تحيا القلوب بذكرهم، وأن أقواما أحياء تموت القلوب برؤيتهم”.
وهل هذا إلا لأن نهار الأولين جد وليلهم يقظة، وأن نهار الآخرين لهو وليلهم غفلة؟!.
والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإن كان فقط من اللسان زل كما تزل القطرة على الصفوان، ومن ثم تزل المواعظ عن القلوب كما يزل الماء عن الصفا؛ لأنها تخرج من الألسنة، ولو كانت تخرج من القلب لوقعت في القلوب، وقديما قيل “من لم ينفعك لحظه،لم ينفعك وعظه”.
رابعا: تربية النفوس وتزكيتها
فما ربى المسلم نفسه ولا زكاها بمثل قيام الليل؛ فإن قيام الليل من أعظم أبواب المجاهدة للنفس والشيطان وتربية للنفس على ترك ما تحب وتهوى إلى ما يريد الله ويرضى؛ ولذلك ربى الله الرعيل الأول أول ما رباهم على قيام الليل..
روى الإمام أحمد ومسلم عن حكيم بن حزام: “أنه أتى السيدة عائشة رضي الله عنها فقال أخبريني عن قيام النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ سورة المزمل ؟ قال: بلى، قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً (سنة كاملة) وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء حتى أنزل في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة”.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن قيام الليل كان فريضة في أول الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سنة كاملة حتى نسخ الله هذا في آخر السورة.. يعني سورة المزمل.
خامسا: وقت التوبة والمغفرة
فآخر الليل هو وقت التنزل الإلهي حيث ينادي على عباده ليقوموا إليه فيسألوه ما أرادوا ويطلبوا منه ما يحتاجون، ويناجونه بكل ما يحبون.. في الحديث القدسي الذي رواه البخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (ينزلُ اللهُ كلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا، حين يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ، فيقولُ: من يدعوني فأستجيبُ له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرُني فأغفرُ له).
فيَنزِلُ ربُّنا سُبحانَه إلى السَّماءِ الدُّنيا نُزولا يَليقُ بجلاله مِن غَيرِ تَكْييفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومِن غيرِ تحريفٍ ولا تمثيلٍ، ويُناديُ: مَن يَدْعوني فأسْتَجيبَ له؟ ومَن يَسأَلُني فأُعطيَه، ومَن يَستغفِرُني فأغفِرَ له؟
وإنما خص هذا الوقت بهذا النداء لأنَّه وَقتُ غَفلةٍ واستِغراقٍ في النَّومِ واستلذاذٍ به، ومُفارقةُ اللَّذَّةِ والرَّاحةِ صَعبةٌ على العِبادِ؛ فمَن آثَرَ القِيامَ لمُناجاةِ ربِّه والتَّضرُّعِ إليه في غُفرانِ ذُنوبِه، وفَكاكِ رَقبتِه مِن النَّارِ، وسَأَله التَّوبةَ في هذا الوقتِ الشَّاقِّ، كان ذلك دَليلا على خُلوصِ نيَّتِه، وصِحَّةِ رَغبتِه فيما عندَ ربِّه.. فيمن الله تعالى بالقبول تفضلا وتكرما سبحانه؛ ولهذا كان الأخيار يفضلون القيام والدعاء بالأسحار.. كما كان ينادي بعضهم:
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا.. وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
فقلت يا عــدتي في كل نـائبــة .. .. ومن عليه لكشف الضــر أعـتمد
أشكو إليك ذنـــوبا أنت تعلمها .. .. ما لي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يــدي بالذل مفتــقرا .. .. إليك يا خــير من مدت إليه يــد
فــلا تردنـــها يارب خــائــبــة .. .. فبـحر جودك يروي كل من يرد
سادسا: عظم الأجر والثواب
وذلك لأنه شاق على النفس، فترك الفراش الوثير الدافئ في ليل طويل شديد البرد، وترك النوم بعد يوم شاق مليء بالعمل ومتعب للبدن، وترك الزوجة الحسناء للقاء رب الأرض والسماء، ومكابدة السهر وطول الوقوف بين يدي الله، كل ذلك فيه كثير من المشقة، إلا على من يسره الله عليه.. وكلما زادت المشقة مع صحة العمل ومشروعيته، كان أكبر أجرا فالأجر على قدر المشقة. ففي الحديث أنه قال لعائشة: (أجرك على قدر نصبك)، وفي حديث معاذ ما يدل على ذلك، وأن مجاهدة النفس في قيام الليل من أسباب دخول الجنة، ونيل أفضل الثواب؛ فلما سأله معاذ: “يا نَبيَّ اللهِ، أخبِرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، ويُباعِدُني مِن النَّارِ” قال فيما قال: (وصَلاةُ الرَّجُلِ في جَوفِ اللَّيلِ، ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة: 16-17].
سابعا: من صفات أهل الجنة
فكما وصفهم هنا في سورة السجدة بأن جنوبهم كانت تتجافى عن المضاجع، يعني تترك النوم والفراش لتقوم بين يدي الله، كذلك وصفهم بذلك في سورة آل عمران: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}… إلى أن قال: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}(آل عمران: 15، 17). والسحر هو آخر الليل..
وكذا في سورة الذاريات: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}(الذاريات:15، 18).
فمن أراد أن يربي نفسه ويزكيها، وأراد الفوز بالجنة وبكل هذه الفضائل، فعليه بقيام الليل؛ فإنه الطريق الموصل إليها. أعاننا الله والمسلمين على طاعته وحسن عبادته.