فوتوغرافيا العراقي كفاح الأمين : بلاغة الصورة وبُعدها الفلسفي
[wpcc-script type=”f9ba2e2cb09b883e9cf1859d-text/javascript”]

يبدو أن كل صورة عند الفنان كفاح الأمين تستقي استقلاليتها من مكوّنها الذاتي، على الرغم من مركزية المؤثر، فهي في هذا المجال، تستقل بمشهدها لتدلي بمعانيها التي هي ضمن المعنى العام، الذي يؤشر له الخراب العام للمكان، فالصورة عنده معنية بالمكان، وإن غاب الإنسان من بين مكوّناتها، لكن أثره باق. إن رؤية الفنان تنصّب وتتفاعل مع حقيقة أن المكان حيّز التاريخ للإنسان، لذا نجد في اختيار مشهد الـعلـّيات ناظرا مع صلابة الحجر، فيه شيء من الإشارة إلى الثبات والسقوط، متمثلا ً ذلك في تأثير وقائع الحرب على أبعاد المكان. وهذا التعبير إنما يُحيل إلى تناظر في الثبات، أي أن دعامة الجسر الصلبة، تتناظر مع صلابة الحجر في الأسفل، وهي بمثابة الوجود وعدمه، الأزلية الفكرية مؤشرة بالصلابة، ونعني بها صلابة الموجودات وتشكيلاتها الدائمة في الوجود، وإن طال وجودها الخراب.
بلاغة الصورة
والفنان في صورته توسل في الضوء والظِل باعتبارهما أدوات بلاغة الصورة. فهو يوزع الضوء من عدسة كاميرته، ليمنح للظِل انحساره، فالضوء زائدا ً الظِل كتقنية فنية، ساهما في ضآلة العتمة التي خلقتها الحرب على المكان. واكتفت الصورة بالتعويض عن المغيّب ـ الإنسان ـ بما أعطته للمكان من سيطرة معنوية دالة على وجوده. والدليل على هذا عين المصوّر وعين الكاميرا. فالإنسان مضمر فيهما، ومضيف على المكان ظلاله وقدرته المصاغة من قدرة الصلب على العمود. من هذا نرى أنه إنما يحمي ويحاور الموجودات، قصد العبور من خلالها إلى الكينونة، التي ما وجدت كل هذه الأشياء إلا من أجل وجوده، وهو الإنسان. فغيابه لا يعني موته. والصورة من يُحيي وجوده بوسائلها الفنية البليغة.
إن نجاح الصورة بتقديرنا مرهون بإثارة الذاكرة، وشحذ المَلَكة الفكرية، ونرى إن هذه اللقطة امتلكت مثل هذه المقومات.
الاضمحلال والوجود
في صورة تظهر القدمين على صورة من التشوه، وما اختيار الفنان لهذه اللقطة الاستثنائية بالدليل الإنساني، إلا إشارة إلى العناية بما هو مضمر من مشاهد الواقع، الذي تضافرت جهود مجموعة من العوامل باتجاه خلق ظواهر أزلية، يدونها التاريخ. فالصورة هنا تـُبرز القدمين لإنسان ما، يظهر عليها تفاصيل التشوه بفعل السلاح الذي ابتكره الإنسان لمحق نفسه وتهشيم وجوده. وهي صورة تؤرخ للصراع الذي تزحف أقطابه للهيمنة وامتصاص إرادة البشر، وسحق وجوده لتحقيق الأهداف. فالأسود والأبيض الذي شكـّل الصورة أضفى عليها بلاغة في التعبير، لاسيّما التوزيع المتدرج للضوء، الذي جسد بعض الأجزاء، وخلق للبعض الآخر بما هو إشارات دالة. ففعل الضوء في الصورة أكثر قدرة على التعبير، وما تتركه ضآلته من خطوط، هي تعبيرات عن سمات أخرى. فالفنان إنما أراد للجزء أن يعبّر عن الكل، فاختفاء الجسد هنا لا يعني موته، وإنما يعني وجوده في الجزء، فالمصور ــ حسب ميرلو بونتي ــ إنما يصوّر جسده، والفنان هنا اكتفى بالجزء، لكي يخلق حالة من الحوار عند الرائي، الذي يفترضه أكثر قدرة على الوصول إلى الصورة الأكمل من خلال الجزء. إننا إزاء كشف غير المنظور في هذا المرئي لنا. فكشفت عن القسوة والإرادة المتسلطة، وطبيعة الصراع الذي تـُفتعل من أجله الحروب أو ظواهر القمع، بدون النظر إلى النتائج، وما يرافق تلك الأفعال من ظهور حالات ليست في البال، تتركز في تقديم الضحايا البشرية. إن تقديم تلك الضحايا لا يهم القائم بالفعل غير الإنساني، لأن بصيرته وبصره قد أعماهما الخوف من الآخر، فهو ميكيافيلي في وسائله، ساديٌ في أدائه لأفعاله. إن نجاح الصورة بتقديرنا مرهون بإثارة الذاكرة، وشحذ المَلَكة الفكرية، ونرى إن هذه اللقطة امتلكت مثل هذه المقومات.
الفنان إنما أراد للجزء أن يعبّر عن الكل، فاختفاء الجسد هنا لا يعني موته، وإنما يعني وجوده في الجزء.
بورتريـه
يوازن الفنان في لوحاته بين مكوّنات الصورة، من أجل عطاء أكثر ثراء ودلالة، فعنده اللقطة حمّالة أوجه، على الرغم من بساطة مكوناتها. لذا نرى أن سكون الأشياء في هذه الصورة، التي يظهر فيها الإنسان ممحوا من الوجود، لكنها أبقت أثره الواضح، كذلك الباب المغلقة وتوزيع الضوء والظِل بحيث حرّك محتويات الصورة أثناء المشاهَدة، فغدا المُشاهد قارئا لها. إن تمثل الإنسان بالرأس، يعني جل ما يعنيه العقل أو ماكنة التفكير والتطلع، وباعثا للأسئلة التي ترد في رأس الإنسان، جرّاء مشاهداته، وعيشه تحت ظروف قاهرة. وما يظهر في الصورة باعث على الأسئلة التي ربما هي نفسها التي دارت في رأس النموذج، أو أنها تختلف. المهم أن جميع الأسئلة تصب في مركز واحد، هو الوجود، وجود الإنسان في حيّزه، ورصد المتغير فيه كجسد. الباب هنا واضح كونه اللغز الذي يكون الإنسان بإزائه. والأسئلة عند النموذج مبعثها الباب هذا. إذ يبدو أن إقفاله استغرق زمنا ً طويلا ً، وهو ما انعكس على شكل النموذج، كذلك لعبت تقاطعات الخطوط على شكل غضون، سواء على جسد الإنسان أو الباب والجدار، بفعل الضوء والظِل المتوازن على كادر الصورة. إنه لغة صامتة، لكنها ناطقة بالدلالة التي تشخص الأثر والتأثير. إن تأمل الإنسان في المبهم الغني في نظره، خلقت أسئلة بقيت كنوع من الطلسم، لكنه لم يوقف انثيالها، لأنه معني بوجوده المستلب، فالإنسان في صوره على الرغم من تكثيف أساليب القهر عليه، إلا أنه يبدو أكثر صلابة وصمودا، وذلك واضح من تأكيد وجوده وسط الخراب المادي والمعنوي، فالإنسان هنا مندحر ولكنه لم ينهزم ـ على حد قول سانتياغو بطل رواية «الشيخ والبحر» لأرنست همنغواي، إذ تبقى نماذج الفنان تكابد هذا القهر، وتمارس صراعها معه.
يجسّد الفنان الوحدة التي يكابدها الإنسان، ضمن مكان تحيطه الحواجز، ويتماهى رأسه وهو يديره إلى البعيد، بينما مجموعة كتب راقدة بتشابك غير منتظم.
المهمل والمنظور
في صورة أخرى يجسّد الفنان الوحدة التي يكابدها الإنسان، ضمن مكان تحيطه الحواجز، ويتماهى رأسه وهو يديره إلى البعيد، بينما مجموعة كتب راقدة بتشابك غير منتظم. هذا التوصيف لمحتوى الصورة، يؤشر بالتأكيد لحالة الاستلاب، أو هي ظاهرة أنتجتها ظواهر كبيرة. فالسيجارة التي بين أصابع الرجل المتماهي مع الزمن، صورة الضجر والملل الذي يعانيه ضمن واقع لا يليق بالإنسان أساسا. إنها الحلقة المفقودة والمريرة ذات الدوران الرتيب، فالمحتوى يعالج الحرية من بابها المتأتي من طبيعة المكان، فهو ليس سندا ذا قضبان، بل إنه سجن مبتكر تحاصر داخله الشخصية، التي نفدت عندها القدرة على الاستمرار. فالرأس محاصر كما يبدو. والفنان يتدخل في الصورة وكادرها تقنيا، للتعبير عن أبعاد واسعة في الفكر، لأن الصورة عنده لا تكتفي بوظيفتها التاريخية، وإنما بوظيفة مهمة وخطيرة في نظرنا، ألا وهي تحريك ما هو ساكن، وخلق بؤر من شأنها أن تـُحيل إلى ممكنات من حراك الذهن الفكري، لأنها أساساً تتوفر على ممكنات القراءة التأويلية. إن العلامات التي يوردها الفنان على سمات الشخصية أو صورة المكان، ثم طبيعة زاوية اللقطة، ومؤازرة عناصر كثيرة في إنتاج معناها، كل ذلك يمنحنا بعدا فكريا فلسفيا يخص لغة الصورة. لذا فالصورة لديه مشروع للحوار كما فعلت ذلك هذه الصورة وسواها من أعماله.
٭ ناقد عراقي