ألان ليفينوفيتز* – (فورين بوليسي) 5/3/2020

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

إذا حدقت طويلاً في أقبية مرض ما، فإن أيديولوجيتك الخاصة سوف تحدِّق فيك هي الأخرى.
يقولون إن الخبرة الموثوقة تتلاشى بشكل خطير وتذهب إلى الخلفية، وتحل محلها الهمسات التآمرية لأولئك الذين يعرفون الحقيقة -عن فيروس كورونا، كما يقولون، وإنما في المقام الأول باعتبارها عرَضاً لكل ما هو خطأ في كل شيء آخر.
قد تساعد تدابير مكافحة المعلومات الخاطئة التي تقوم بها شركات التكنولوجيا على إسكات هذه الأصوات، لكن المهمة، كما تُظهر حركة مناهضة اللقاح، ستكون “سيزيفية” ما لم نفهم ونتعامل مع الآلية التي تصبح بها الأمراض مرايا. وهي آلية مشتركة لما ستبدو، بخلاف ذلك، أيديولوجيات متباينة ونظريات متناقضة: الاعتقاد بأن الأنظمة، سواء كانت بيولوجية أو سياسية، هي متناغمة بشكل طبيعي، وبأن الاضطراب يجيء دائماً نتيجة لتدخل غير طبيعي.
ويكون هذا الاعتقاد أكثر وضوحاً في عالم الصحة البديلة والنظام الغذائي، الأرض صفر للمعلومات الخاطئة عن فيروس كورونا. وعلى سبيل المثال، على موقع الصحة الشعبي للغاية “أخبار طبيعية” -الذي يعرف مهتمه بأنها “الدفاع عن الصحة، والحياة والحرية”- لن يندهش المواطنون القلقون بمعرفة الحقائق الطاغية التي لا يريدون “هم” دائماً أن نعرفها “نحن” عن فيروس كورونا: أن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها “قامت عمداً بإطلاق سراح مريض مصاب في سان أنطونيو لتضع نفسها في موقف الاستفادة مالياً من وباء متفجر”.
لحسن الحظ، فإن المكملات الغذائية والعلاجات العشبية التي يروج لها موقع “أخبار طبيعية” منذ فترة طويلة تحمي من فيروس “كوفيد-19″، من الفضة الغروية؛ (“الجسيمات النانوية الفضية تقتل فيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز” ومعظم أنواع الفيروسات”)، إلى فيتامين (ج) المضاد للفيروس؛ (يبدو أن كل فيروس يستجيب لهذا النوع من العلاج).
وفي موقع “ميركولا. كوم” (الذي يشهد 6.5 مليون زيارة شهريا)، يتم تعريض عشاق الصحة الطبيعية إلى نوع مختلف من المؤامرة. ويلاحظ جوزيف ميركولا، المتشكك في اللقاح، بطريقة مشؤومة، أن “مؤسسة بيل وميليندا غيتس” رعت تمريناً غير مألوف للتأهب لجائحة فيروس كورونا في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، في نيويورك، والذي سُمي “الحدث 201”. و”تتبع الهستيريا التي يجري حشدها نمطاً بالياً”، كما كتب ميركولا، الذي تظهر كلماته مأذونة بشعار رسمي “معلومات تم التحقق منها”. ويضيف ميركولا: “يتم إبقاء السكان في حالة من الخوف من الميكروبات بحيث يمكن لشركات الأدوية أن تأتي للإنقاذ بدواء أو لقاح آخر باهظ الثمن (وربما إلزامي)”.
ويحرك نفس هذا الإيمان بالأنظمة الطبيعية المزيد من الحركات السائدة، مثل حركة حقوق الحيوان. يستطيع مؤيدو منظمة “ناشطون من أجل المعاملة الأخلاقية للحيوانات” أن يشتروا أقنعة الوجوه “كُن نباتياً” المطعمة بنظريتهم المفضلة حول أصل فيروس كورونا وكيفية الوقاية منه: “أسواق اللحوم تولِّد الأمراض الفتاكة. تحوَّل إلى نباتي”. (كلمة Coronavirus، هي بعد كل شيء جناس تصحيفي لكلمة carnivorous التي تعني “آكل اللحوم”). من المفهوم أن يتسوَّل المدافعون عن اتباع نظام غذائي يتجنب تماماً أكل اللحوم الاختلاف.
وليس تحويل مرض إلى أيديولوجية ممارسة حصرية لأصحاب نظرية المؤامرة ومجانين الصحة. وكما ذُكر في مجلة “فورين بوليسي” الشهر الماضي، فإن وسائل الإعلام الصينية التي ترعاها الدولة كانت تؤكد، من دون دليل، على فعالية الطب الصيني التقليدي ضد “كوفيد-19”. وصرّح مقال مميز: “لم يخسر الطب الصيني التقليدي أبداً معركة واحدة ضد الأوبئة عبر التاريخ الصيني. وقدمت كلاسيكيات الطب الصيني التقليدي أدلة كافية على كيفية شفاء هذا الطب للأمراض الوبائية، مثل الجدري، على مدى عدة آلاف من السنين”.
كثيراً ما تتجاوز الاستجابات المدفوعة إيديولوجياً لـ”كوفيد-19″ مجالات الصحة والطب، وتصبح سياسية لاهوتية بالدرجة الأولى. ويرى الساسة اليمينيون المتطرفون في جميع أنحاء العالم أن الفيروس عقاب على الحدود المفتوحة؛ ويراه المتعصبون المتدينون، بطبيعة الحال، عقاباً لنا على خطايانا.
على الرغم من أن هذه التفاعلات وردات الفعل تبدو غير ذات صلة، إلا أنها تشترك في ميزة أساسية، تمامًا كما يصيب “كوفيد-19” مضيفه باستخدام نفس الآليات التي تستخدمها فيروسات كورونا الأخرى. إنهم جميعًا يستغلون الرغبة الإنسانية في ثنائية تبسيطية تفسر الخير/ الشر، والتي يتم التعبير عنها تقليدياً باستدعاء النظم الطبيعية وغير الطبيعية. أطِع قوانين هذه النظم وازدهِر. أو لا تطعها وتحمل المعاناة. وكما كتبت سوزان سونتاغ في كتاب “المرض كمجاز”، فقد “أصبح الموت يعد في المجتمعات الصناعية المتقدمة حدثاً مخجلاً وغير طبيعي، بحيث أصبح المرض الذي يُعتبر على نطاق واسع مرادفًا للموت يبدو مخجلاً -شيئاً ينبغي إنكاره”. وبسبب ذعرنا، نصر على أن الأمراض الفتاكة يجب أن تكون غير طبيعية، -وبما أن الأصل يحدد الجوهر، فإن سببها يجب أن يكون غير طبيعي أيضًا.
في الواقع، تُستخدم “اللاطبيعية” منذ فترة طويلة لتفسير جميع أشكال الخلل الوظيفي. في جميع مسرحيات شكسبير، على سبيل المثال، يُستخدم وصف “غير طبيعي” كاختزال للعيب الأخلاقي: “غير طبيعي وغير لطيف”، و”غير صالح وغير طبيعي”، و”همجي وغير طبيعي”، و”لا إنساني وغير طبيعي”. وفي عصر شكسبير -وقبله- عنت الولادة “غير الطبيعية” طفلاً يولد مع نوع من التشوه؛ وعنى الموت “غير الطبيعي”، وما يزال يعني، الحياة التي تنتهي بالقتل أو بحادث. وفيما يتعلق بالنشاط الجنسي، يصف “غير طبيعي” الانحرافات في الرغبة؛ وفي الحكومة، يصف الانحرافات في العدالة.
مرة أخرى، يظهر هذا الافتراض التأسيسي أوضح ما يكون في نظريات المؤامرة المتعلقة بالصحة. لا يمكن أن يكون “كوفيد-19” طبيعياً، ولذلك يجب أن تكون قد زرعته الحكومة الأميركية أو مؤسسة “غيتس”؛ أو تم طهيه في مختبر سري في ووهان، أو أنه سيلح بيولوجي استخدمته وكالة المخابرات المركزية الأميركية ضد الصين. وتختلف التفاصيل، لكن الثيمة الرئيسية، كما كتبت ستيفاني في “بَزفيد” ، ثابة: “من صنع الإنسان”؛ “ليس طبيعياً”؛ و”ربما ليس عشوائياً”.
ماذا عن تأكيد منظمة “ناشطون من أجل التعامل الأخلاقي مع الحيوان” أن تناول اللحوم هو السبب الرئيسي في “كوفيد-19″؟ أحد العناصر الأساسية لأطروحتهم لدعم “النباتية” هو أن تناول الحيوانات شأن غير طبيعي. ولا يفسر نظامنا الغذائي غير الطبيعي “كوفيد-19” فحسب، وإنما كل مصيبة حديثة، من العنصرية إلى التحيز على أساس الجنس. وهي الحجة نفسها التي طرحها منذ أكثر من 200 عام في “دفاع عن الحمية الطبيعية” الشاعر النباتي بيرسي بيش شيلي. وكتب شيلي: “الإنسان والحيوانات الذين أصابهم بعدوى مجتمعه، أو أفسدتهم سيطرته، مرضوا لوحدهم”، ومضى إلى القول إن الجريمة جنون، والجنون مرض، ولذلك سوف يؤدي الامتناع عن أكل اللحوم إلى إنهاء النشاط الإجرامي.
تشكل العادات الغذائية جزءا أساسيا من الهوية، وهذا هو السبب في أنه يتم تجنيد الحدس حول “النظام الغذائي غير الطبيعي” بسهولة في الخطابة القومية.
عندما يلقي جيسي واترز، مذيع قناة “فوكس نيوز”، باللوم في التسبب بفيروس كورونا على قيام الشعب الصيني بـ”أكل الخفافيش والأفاعي النيئة”، فإنه يستفيد من شعور بدائي بأن الأجانب غير طبيعيين وغير أخلاقيين (يأكلون الكلاب أيضاً!)، دونيين ومُعدين -أجسام غريبة تهددنا جسدياً وأيديولوجياً. ومن هناك، ثمة خطوة قصيرة نحو تشديد الحدود لحماية صحة الأمة. إن “تطبيع” الأجانب هو أمر ضروري، لأنهم بخلاف ذلك سوف يشكلون خطراً على جسم الأمة. وتعد الحدود المفتوحة غير طبيعية، مثل النشاط الجنسي الذي يجلب الغضب الإلهي في صورة الأعاصير وفيروسات كورونا.
الترياق هو العودة إلى النظم الطبيعية. إن “الحكمة الشرقية” للطب الصيني التقليدي التي تحتفل بها وسائل الإعلام الحكومية الصينية -والتي يتبناها المؤيدون الغربيون للطب البديل مثل ميركولا- تتجذر في عناية ذلك الطب المفترضة بالأنظمة الطبيعية. ويوضح تساو هونغ شين، الرئيس السابق للعلوم والتكنولوجيا في الإدارة الوطنية للطب الصيني التقليدي في الصين: “الطب الصيني التقليدي يفسر الوباء من مبدأ الكيفية التي تكيف بها البشر مع اختلاف الفصول والتغيير الطبيعي”. (هناك بعض المفارقات في احتمال أن يكون “كوفيد-19” قد جاء من حيوانات البانغولين، التي كان يتم الاتجار بها لاستخدامها في الطب الصيني التقليدي).
وبالمثل، فإن الحل السياسي الطبيعي لمرض “كوفيد-19” وموجات تفشي المرض في المستقبل هو الحد من تعرض المواطنين إلى الوكلاء الأجانب، أولئك الذين ليسوا من أقاربنا الطبيعيين (يمكن التعرف عليهم بسهولة من خلال عاداتهم الغذائية). وحِّد الدم والتراب، وارفع شعار القومية. قم بإغلاق الحدود حتى تبقي المرض خارجاً.
لا يقتصر مدى إقناع ثنائية طبيعي/ غير طبيعي على أولئك الذين يؤيدون نظريات المؤامرة، والطب الطبيعي، والقومية المتطرفة. في الواقع، يتم تضمينها في الخطاب الوبائي القياسي حول أسباب “كوفيد-19”. وفي تحول نمطي للمصطلح، أوضح عالم بيئة الأمراض، كيفن أوليفال، لـ “ناشيونال جيوغرافيك” أنه “عندما تقوم بجمع الحيوانات في هذه المواقف غير الطبيعية، يكون لديك خطر ظهور الأمراض البشرية”. وفي مقال له في صحيفة “نيويورك تايمز”، حدد ديفيد كوامين النشاط البشري غير الطبيعي باعتباره الجاني المتسبب في موقفنا الحالي: “لقد قطعنا الأشجار؛ ونحن نقتل الحيوانات أو نحبسها في أقفاص ونرسلها إلى الأسواق. نحن نعطل الأنظمة الإيكولوجية ونهز الفيروسات ونطلقها من مضيفيها الطبيعيين. وعندما يحدث ذلك، فإنها تحتاج إلى مضيف جديد. وفي كثير من الأحيان، نكون نحن ذلك المضيف”.
والتداعيات واضحة. إن النظم الإيكولوجية في حالتها الطبيعية متوازنة ومتناسقة وآمنة. وتنشأ المشاكل عندما نتدخل في هذه الأنظمة. وليس فقط فيروس كورونا: الأنواع الحية الغزوية، وتغير المناخ، وتدمير الموائل، والأوبئة من أي نوع -هذه كلها من عمل غطرستنا الاصطناعية، ومدننا المقطونة بكثافة، ومجتمعنا العالمي المتعالق والصناعات التي تدعمه.
في ضوء ذلك، فإن المؤامراتية المرتعبة والقومية المتحمسة لا تبدو مجنونة للغاية. أليست “بيغ فارما” (Big Pharma1) واحدة من تلك الصناعات غير الطبيعية؟ من المؤكد أن الطب البديل والنظام الغذائي الطبيعي هي رهان أكثر أماناً من لقاحاتهم الملوثة. وإذا كانت العولمة تسهّل الأوبئة غير الطبيعية، فهل من المنطقي تشديد الحدود وإعادة الدول إلى حالتها الطبيعية الأكثر أمناً؟
إننا معتادون جداً على فكرة الشر غير الطبيعي بحيث يبدو النشاط غير الطبيعي بمثابة الجذر الواضح لجميع المصائب والويلات. لكن اللاطبيعية ليست تفسيراً للاختلال الوظيفي. إن بعض الأنظمة الطبيعية -الولادة، على سبيل المثال- هي أدنى بشكل واضح من نسخنا المحسنة اصطناعياً منها.
والأشكال عالية التقنية لتوليد الطاقة، مثل الألواح الشمسية، أفضل للعالم الطبيعي من استخراج الفحم وإشعال النار فيه، على الرغم من أن الفحم طبيعي. إن “الطبيعي” و”غير الطبيعي” هي أوصاف، ومع ذلك نصر على استخدامها كأحكام.
يسهِّل الحديث عن المرض كمنتج لنشاط غير طبيعي إسقاط الأسباب والحلول الإيديولوجية. فالطبيعية هي عبارة عن ميتافيزيقيا غامضة، وهي تشفير فارغ وقوي، والذي يمكننا ملئه كما نشاء. ومن الممكن تماما -بل من الضروري في واقع الأمر- إدانة الأنشطة الخطيرة التي قد تؤدي إلى “كوفيد-19” من دون التذرع بمعايير أوسع للصلاح الطبيعي. لن نقول أبدا إن اللقاحات فعالة لأنها غير طبيعية، فلماذا إذن ننسب خصائص حمائية إلى شيء في ضوء طبيعيته فقط؟
إذا -وعندما- يتم تطوير لقاح ضد أحدث نسخة من فيروس كورونا، ستكون هناك شريحة صغيرة من السكان التي ترفضه، مما يعرض الصحة العامة للخطر. وربما ترفضه حكومة، حيث رفضت حكومة جنوب إفريقيا ذات مرة علاج فيروس نقص المناعة البشرية المتكسبة (الإيدز) بالعقاقير، واختارت بدلاً من ذلك العلاجات الطبيعية التقليدية التي أدت إلى وفاة مئات الآلاف. وعندما يهدد فيروس آخر العالم، سيكون هناك سياسيون شعبويون يستخدمونه لتحريض كراهية الأجانب. وسوف يرون في طيف المرض تبريراً لاتجاهاتهم الأيديولوجية الخاصة. وربما يكون هذا شأناً لا مفر منه. ولكن، إذا لم نتخذ تدابير لتغيير الطريقة التي نتحدث بها عن أسباب أزماتنا، بدءا من “كوفيد-19″، فإن جزءا من اللوم عن قدرتهم المكتسبة على الإقناع سوف يقع على عاتقنا.

*أستاذ مساعد للفلسفة والدين الصيني بجامعة جيمس ماديسون.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Coronavirus Is Not Mother Nature’s Revenge

هامش:
(1) نظرية مؤامرة “بيغ فارما” هي نظريات المؤامرة التي تدعي أن المؤسسة الطبية بشكل عام، والشركات الدوائية على وجه الخصوص، وخاصة الكبيرة منها، تعمل لأغراض شريرة وضد الصالح العام.