في الذكرى السابعة لغياب الفنان إسماعيل شموط: بائع الحلوى الذي اصبح رسام فلسطين
[wpcc-script type=”de301c72acef3fd5635fa447-text/javascript”]
يعتبر الفنان الراحل إسماعيل شموط أحد أبرز رواد الفن التشكيلي الفلسطيني، وأحد شخصياته الهامة، ويراه البعض مؤسس حركة الفن التشكيلي الفلسطيني بل إن بعض النقاد كانوا يذهبون الى أنه إذا ذكرت فلسطين لا بد ان يذكر معها شموط ومحمود درويش وغسان كنفاني (ثلاثي التشكيل والشعر والرواية).
وقد اكتسبت تجربة الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين حضوراًً لافتاًً منقطع النظير وتميزاًًً ملحوظاًً سواء على المستوى العربي أو الدولي لأسباب عديدة ربما من أهمها ارتباط الفنان الوثيق والمتواصل مع إرثه الحضاري وقضيته الوطنية.
والفنان إسماعيل شموط من مواليد مدينة ‘اللد’ الفلسطينية في عام 1930م لعائلة متوسطة الحال مكونة من عشرة أنفار يعمل والدهم ببيع الخضار،شـــــردتهم النكبة عام 1948 من مسقط رأسهم إلى مخيم للاجئين في ‘خان يونس’ بقطاع غزه، وأثناء رحيل العائلة من اللد إلى غزة توفي توفيق، الشقيق الأصغر لإسماعيل عطشاًً أثناء الهجرة مما جعل إسماعيل يرسم لوحة (العطش) في الخمسينات ليعبر من خلالها عن حادثة موت شقيقه الأصغر توفيق، وليستعيد من خلال ذلك صورة واقعية لأخيه الصغير الذي توفي أثناء الهجرة عطشاًً، في لوحةٍ غلبت عليها الألوان الصفراء، فيما تحمل من دلالات وتأويلات للجفاف والموت الذي ينتشر في كل مساحة من العمل. وقد قال إسماعيل شموط في إحدى المقابلات التي أجريت معه أن النكبة الفلسطينية كان لها التأثير الأكبر على مجرى حياته وعلى توجهه الفني.
وأما عن نشأته، فقد تلقى تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه، وهو لم يرث الفن عن أحد من والديه، فقد كان والده بائعاًً للخضار، وكان قبل أن يدخل إلى المدرسة يرافق والده إلى السوق، الذي أحب فيه ألوانه وتشكيلاته العفوية، وأصوات الباعة التي كان يطرب لها، وقد أشبعت الأصوات والألوان والطقوس الغامضة بالنسبة للفتى ذاكرته وزادت دائرة الخيال لديه وأغنته بالمفردات البصرية التي تشتمل عليها الطبيعة الخضراء لبساتين البرتقال والحمضيات والزيتون واللوز، ولم يكن البحر الذي يمتد بزرقته العميقة بعيداًً عن ناظري الفتى الذي كان يرى الأمواج وهي تتكسر على شواطئ مدينته وصخورها، وكان الفتى يحول الأصوات والمرئيات إلى مدونات في الذاكرة، وينتظر من يستطيع أن يعلمه كيفية تظهير الخيالات إلى صور وألوان وخطوط .. وفي الرابع الابتدائي تحقق له ذلك الحلم على يد أستاذه داوود زلاطيمو الذي كان يعلم الفن والأشغال اليدوية.
وأما عن علاقة إسماعيل شموط بأستاذه داوود زلاطيمو وعن ظروف نشأته الفنية، فيقول شموط عن هذه العلاقة :- (أحببت الرسم منذ نشأتي وطفولتي أواسط الثلاثينيات،تعلمت الرسم والأشغال اليدوية…وكنت أنتظر هذا الدرس بفارغ الصبر وكان أستاذي داوود زلاطيمو عاشقاًً للفن، وكانت موهبتي في الصغر بارزة بحيث جعلته يخصني برعاية، وراح يشجعني ويمدني بالمواد الفنية المتيسرة في ذلك الحين)…وأما حول تأثير الطبيعة على أعماله فيقول (مدينة اللد، محاطة بالبساتين والحقول والسهول الزاخرة بالأزهار الجميلة متعددة الألوان والأشكال. وكان لها أكبر الأثر عليَّ، وعلى إنتاجي الفني، فقد حملت لوحاتي مواضيع الجمال والطبيعة قبيل 1948).
وبكل تأكيد فإنه اليوم يمكننا القول أن (داوود زلاطيمو) كان له الفضل الكبير على تجربة إسماعيل شموط الفنية، فقد لاقى إسماعيل منه التشجيع والتوجيه وتعلّم منه أصول الرسم بأقلام الرصاص والأحبار الصينية والألوان المائية والطباشير ومزاولة هواية النحت على أحجار الحوّار الكلسي وهو ما يزال طفلاًً صغيراًً في الصف الرابع الابتدائي.
وأما بخصوص أول مشاركة فنية له فقد كانت من خلال المعرض المدرسي السنوي وهو في سن الرابعة عشر من عمره في لوحات فنية مثيرة للجدل والإعجاب والحيرة، والتي لاقت اهتماماًً لافتاًً من مفتش الفنون الإنكليزي’ستيوارت’ ومدير دائرة المعارف الإنجليزي في سلطة الانتداب البريطاني ‘بومان’ والذي أوصى حينذاك بإيفاده للدراسة بمدرسة الصناعة المتخصصة بميادين الرسم الصناعي والأشغال الفنية بمدينة حيفا.
وبالنظر إلى صعوبة الحياة في ‘خان يونس’ في تلك الفترة فقد كان على الفتى أن يحمل عبء الحياة مبكراًً، فلجأ إلى بيع الحلوى ليتمكن من شراء الألوان وأدوات الرسم وساعده حسّه الفني على تزيين البضاعة التي كان يبيعها..ثم عمل مدرّسا متطوعاًً لللاجئين في مخيم خان يونس، وخلال ذلك كان يوفر ما يمكنه من شراء الألوان وأدوات الرسم…ويقول شموط عن هذه الفترة من عمره:(كنتُ في الصباح معلماًً وفي المساء بائع حلاوة، ثم نظمت في العام 1950، معرضاًً على (طاولة تنس)، رعاه مسؤول التعليم المصري في غزة أحمد إسماعيل وكان عسكرياًً والمفتش الفلسطيني بشير الريس، وبعت لوحة بعشرة جنيهات كانت عدتي للسفر إلى القاهرة، التحقت في القسم الحر بعد اختبار جدارة لأكون أول طالب فلسطيني يدرس الفن..هنا قررت مصير حياتي، الفن هو وسيلتي في الحياة..وقضيتي هي الموضوع).
وأثناء تعليمه بكلية الفنون الجميلة في القاهرة عمل إسماعيل في رسم الإعلانات السينمائية. وفي عام 1953 أقام أول معارضه الفنية في غزة بمشاركة أخيه جميل وكان ذلك أول معرض لفنان فلسطيني على أرض فلسطين. وأما عام 1954 فقد أقام إسماعيل معرضاًً بالقاهرة بمشاركة زميلته تمام الأكحل والفنان الفلسطيني ‘نهاد سباسي’ وكان ذلك المعرض بعنوان:- ‘اللاجئ الفلسطيني’ وكان تحت رعاية الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر وبحضور القيادة الفلسطينية. وبعد المعرض حصل شموط على منحة دراسية مقدمة من الحكومة الايطالية فانتقل في تلك السنة إلى إيطاليا ليدرس في أكاديمية الفنون الجميلة بروما حيث قضى فيها عامان انتقل بعدها للعيش في بيروت حيث أقام مع شقيقه مرسماًًً للرسم والإعلان التجاري وتصميم أغلفة الكتب والرسوم الداخلية التوضيحية فاعتاش من رسم أغلفة الكتب، والصحف والمجلات وذلك بين الأعوام 1957- 1964. وفي بيروت، قضى شمّوط سنوات إنتاجه الأساسية، فكان في قلب الحدث الفلسطيني والعربي، وفي قلب الحركة الثقافية العربية الحديثة، وقد أنتج في هذه المرحلة مئات اللوحات الجرافيكية باستخدام الكمبيوتر وعرض بعضها في بيروت.
وأما في عام 1957 فقد أقام إسماعيل معرضاًً مُشتركاً مع الفنان توفيق عبد العال وزميلته الفنانة تمام الأكحل والتي تزوجها في عام 1959، لتصبح شريكة حياته وشريكة حلمه ومشروعه الفني الكبير والشاهدة الأمينة على تجربته.
وفي أواسط الستينيات، وهي مرحلة المقاومة الفلسطينية المسلحة، المرحلة المليئة بالأمل والفرح والحركة، رسم إسماعيل شموط لوحات تجلت فيها الحركة والتناغم اللوني والخطي، ومن لوحات هذه المرحلة:’مغناة فلسطين’ و ‘اليد الخضراء’ و ‘ الحياة المستمرة’ و ‘ الربيع’ وفي هذه المرحلة أيضاًً أسس إسماعيل شموط مع بعض الفنانين الفلسطينيين من رفاق دربه قسم الفنون في منظمة التحرير الفلسطينية، وقد انتخب في عام 1969 كأول أمين عام لاتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، وشغل لسنوات طويلة موقع الأمين العام لاتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، ورأس أول اتحاد للفنانين التشكيليين العرب في عام 1971.
ولإسماعيل شموط العديد من المؤلفات والكتابات الفنية والثقافية والتراثية كما وأنه أقام بمشاركة زوجته تمام الأكحل العديد من المعارض الشخصية في معظم البلاد العربية وفي عدد كبير من بلاد العالم. وهو حاصل على:درع الثورة للفنون والآداب/ وعلى وسام القدس/ وعلى جائزة فلسطين للفنون/ وجوائز عربية ودولية عديدة،ومن أشهر عباراته:..نحن الفلسطينيون الجدار الأبقى. وقد أرّخ إسماعيل للفن التشكيلي الفلسطيني ونشر عدة كتب في هذا المجال منها:
الفنان الشاب،بيروت 1957
فلسطين صور تأريخ وسياسة،بيروت 1972
فن وطني فلسطيني،بيروت 1978
فلسطين في المنظور،بيروت 1978
الفن التشكيلي في فلسطين،الكويت 1989/ ويعتبر أهم كتبه.
أسلوبه الفني
كان إسماعيل فنانا ملتزماًً امتاز بأسلوب واقعي تعبيري مع بعض الرمزية وقد قال إسماعيل أنه لم يختر أسلوبه هذا بشكل عقلاني ولكن موضوع القضية الفلسطينية الذي طغى على رسوماته فرض عليه هذا الأسلوب. وفي إحدى المقابلات التي أُجريت معه قام هو بتقسيم حياته الفنية إلى خمسة مراحل هي:-
المرحلة الأولى:الخمسينات:مرحلة تداعيات المأساة،اعتمد فيها الأسلوب الواقعي البسيط،من لوحاتها:’إلى أين؟’، و’سنعود’ و’بداية المأساة’و’جرعة ماء’و’ذكريات ونار’… وغيرها.
المرحلة الثانية:الستينات:وهي مرحلة انطلاق الفلسطيني من حالة الحزن إلى حالة التحفز، ؛حيث تألقت الألوان في اللوحة،وأصبح الأسلوب تعبيريًّا رمزيًّا،إضافة إلى واقعيتها.من لوحاتها:’عروسان على الحدود’ و’طاقة تنتظر’ و’حتى الفجر’ و’رقصة النصر’… وغيرها.
المرحلة الثالثة:أواسط الستينيات:وهي مرحلة المقاومة الفلسطينية المسلحة،وفي هذه المرحلة تجلت الحركة والتناغم اللوني والخطي.ومن لوحاتها:’مغناة فلسطين’ و’اليد الخضراء’و’الحياة المستمرة’ و’الربيع’… وغيرها.
المرحلة الرابعة:أواسط السبعينيات:وقد تأثر فيها بالاجتياح الإسرائيلي للبنان ومعاناة المخيمات الفلسطينية فعاد ليتناول موضوع الحزن مرة أخرى في لوحاته،لكن مع بعض العنف،باستعمال الألوان الحادة،في مجموعة اللوحات التي أنتجها عام 1976 تحت عنوان ‘تل الزعتر’،والتي رسمها بالألوان المائية وقد ظهر عنصر جديد في لوحاته هو عفوية التعبير وغياب بعض عناصر الواقعية.
المرحلة الخامسة:مرحلة الثمانينيات:وهي مرحلة غلب عليها الاتجاه الرومانسي.
مرحلة التسعينيات وحتى رحيله:أكد شموط في هذه المرحلة على الموضوعات والثيمات التي حضرت في أعماله الأولى’ الجذور'(1991) و ‘ رقص ربيعي’ (1993) و ‘ حرية’ (1993).
خاتمة
إن أعمال الفنان الفلسطيني الراحل إسماعيل شموط – المولود في مدينة اللد في فلسطين المحتلة عام 1930 والمتوفى في أحد مستشفيات ألمانيا إثر عملية جراحية أجريت له في القلب صباح الأربعاء (5/7/2006) عن عمر يناهز (76 عاماً)، والذي أمضى قرابة 55 عاماًً من عمره في تشكيل القضية الفلسطينية بألوانه وخطوطه ورؤاه – تدور حول موضوعين أساسيين هما: استعادة ما كان من الفردوس المفقود وتسجيل مظاهر حياته. أما الملمح الآخر فهو تسجيل الواقع اليومي للفلسطيني ومأساة اللاجئ والخروج من الوطن، وتأكيده على أهمية الفضاء الاجتماعي والعلاقة الحميمية مع الطبيعة التي شكلت وعيه الفني، وظلت هذه التأثيرات الأولية تحضر حتى في أعماله التي أتمها في حقبة التسعينيات من القرن الماضي.
وقد نذر إسماعيل شموط نفسه لقضية فلسطين..فكان يرسم الموضوعات الفلسطينية، وكانت رسومه خير تعبير صادق، لمعاناته ومعاناة الفلسطينيين، وكل عربي شريف. وقد صورت أعماله الفنية النكبة بمآسيها والثورة الفلسطينية برموزها كالبندقية والفدائيّ والكفاح من أجل الحرية. ولم يجنحْ نحو التجريد، وظل محافظاًً على التيارات التشكيلية التي تهتمّ بالتعبير الذاتي وما تطرحه القضية من موضوعات وأحداث.
ومما لا شك فيه أن اسماعيل شموط قد استطاع أن يرسخ تجربته من خلال حضوره العالمي، وبحثه الدائم في تاريخ الفن والمثيولوجيا ومتابعته للتشكيل العربي والفلسطيني. كما رسخ تجربته من خلال اقتراحاته الجمالية ورؤاه، وأعماله الغنية باللون وخطوطه القوية وموضوعاته التي تنهل من مرجعيات المكان وجماليات الطبيعة ومخزون الذاكرة الفردية والجماعية التي جعلت من لوحاته مدونة للقضية الفلسطينية وقضايا الإنسان وأسست ملمحاًً وإطاراًً للتشكيل الفلسطيني.
وفي الختام، بقي لي أن أقول إن ما يميز تجربة اسماعيل شموط هو انفتاحها على التيارات العالمية، وبحثها الدائم عن التجريب، فهو لم يتوقف عند مدرسة بعينها، وإنما كان يترك للموضوع تقنياته وأساليبه التي تتداخل معاًً.