الهدوء يعم أرجاء القاعة وقد أخذ كل فرد مكانه والتزمه الصمت والترقب بانتظار اللحظة الحاسمة.

في مقابل الحضور ثلاثة قضاة تبدو على ملامحهم علامات الصرامة والهيبة، يتوسطهم كبيرهم. رجل تعدى الستين من عمره ذو شعر أشيب وحاجبين غليظين، وقد أرخى نظارته السميكة وبدأ ينظر إلى الباب بنظرات حادة كما يترقب الصقر فريسته، وهناك في الزاوية رجل طويل القامة عريض الكتفين مفتول العضلات وقد تأبط هراوة غليظة. هذا هو الجلاد وقد أتم استعداداته لتنفيذ الأوامر.

أما أنا فقد أخذت مكاني في أول صف بانتظار بدء ساعة الحساب، هنا في هذه المحكمة سوف يحاكم هذا المجرم الذي فتك بتلك الأعداد الضخمة من الأمة بلا رحمة وبلا هوادة، ولم يتورع عن تعذيب ضحاياه متخلياً بذلك عن كل القيم والأخلاق والمبادئ وأنا خصمه اليوم.

وفجأة قطع صمت القاعة أزيز الباب الضخم وهو يفتح، والتفتت أعناق الحضور إلى الباب وتسمرت أنظارهم بانتظار رؤية ذلك المجرم الأسطوري الذي انتظروه طويلاً… ودخل.

وإذا به شيخ عجوز قد خط الزمان خطوطه وتجاعيده الغليظة على وجهه ومحياه، وكسا البياض شعره ولحيته الطويلة، وبدت نظراته تائهة وحزينة، أما ظهره فكان مقوساً ويداه مقيدتان بالسلاسل والحديد.

أيعقل أن يكون هذا هو المجرم العتيد وذلك الجبار الغليظ الذي بحثنا عنه طويلاً؟ إنه شيخ وقور جليل، بل هو أسد عجوز ينظر بلوم وعتب على هذه الجموع التي لم ترحم كبره ولا ضعفه.

نظر إليه القاضي من فوق نظاراته السميكة وقال: من أنت؟

نظر إليه الشيخ العجوز وأجاب بصوت قوي يشق صمت القاعة كالرعد: أنا السرطان.

وهنا لم أتمالك نفسي وقد فار الدم في عروقي وارتعدت أعضائي وبلغ في الغضب والحنق مداه فقمت من على المقعد وقفزت كالمدلوغ ورحت أخا طب القاضي كالمكلوم وأقول:

اسمح لي يا سيادة القاضي أن أحاسب هذا المجرم على الملأ، وآخذ بثأر كل من أحببت وكل من عالجت وكل من فقدت من ضحايا هذا القاسي.

ويل لك أيها المجرم, ويل لك ألا ترحم؟ ألا ترأف؟ ألا تخاف الله؟ تهاجم النفوس البريئة وتعشعش في أحشائها، فتارة تسكن البطن وتارة الصدر وتارة الرأس. و تنهش العظام واللحم ثم تمضي فتقضم الأمعاء والكلى والكبد  والأطراف. ويا ليتك تقف عند هذا بل وترميه في الفراش وتحكم قبضتك عليه وتحرم عليه الكلام والطعام والشراب وربما النفس أو النوم أو حتى البكاء.

مالك ومال هذه المرأة الشابة؟ إمرأة في الثلاثين من عمرها نهشتها. ويلك كما ينهش الوحش الغزال. فخلفت زوجاً كسير القلب وأيتاماً صغار؟ مالك ومال هذا الشاب؟ عمره 16 ربيعاً. زرته يوما فسكنت في عظمة الورك، وعششت وكبرت حتى نحل جسمه وذبل. قطعوا ساقه وحرمته المشي فلم تكتفي وعكرت صفو حياته وزهرة شبابه فلم تكتفي، أذقته مر الآلام واليأس والإحباط والانكسار أياماً وشهوراً وسنين حتى سقط بين يديك جثة هامدة وأبويه وأخوته ينظرون ويبكون ويتحسرون. ألا ترحم؟

إن هذا إنسان كرمه الله وفضله على سائر المخلوقات، وقد عاش الواحد منهم يوحد الباري ويشكره ويعبده، لديه أحباؤه وعائلته وأصدقاؤه، فإذا كان الموت قادماً لا محاله فهذا قضاء الله ولا اعتراض  أستغفر الله.

أما أن تتلذذ بتعذيب العباد، وأما أن تمتص الرحيق من أجسادهم وتعشعش روحك الفاسدة العفنة في أحشائهم وتنهش وأحلامهم وكبريائهم، أما أن تثير كل مشاعر الإحباط واليأس والهوان لأحبائهم فهذا والله عمل قذر جبان. أنا أطلب منك يا سيادة القاضي أن تنزل بهذا المجرم اقسى العقوبات وأغلظ الجزاءات.

من جديد لف أنحاء القاعة هدوء مهيب، والكل ينظر إلى الشيخ الذي كان ينظر إليّ بشفقة وبابتسامة ساخرة.

التفت إلى القاضي وقال: أتسمح لي سيادة القاضي بالجواب؟ نظر إليه القاضي وقال بهدوء: لك ذلك. 

نظر إليّ الشيخ بهدوء وقال: أنا أعرفك جيداً. أنت طبيب ولقد صادفتك كثيراً وأنا أزور مرضاك، وإذا كنت تعتبر نفسك طبيباً فأنا أيضاً طبيب أعالج وأداوي وأصف وأتابع.

أنت يا سيدي الطبيب تقول أني سلبت الصحة والحياة الأمل، ألا ترى معي أن ربنا تعالى خلق الأضداد لكي تعرف نعمه؟ فجعل الليل والنهار، الغنى والفقر، الخير والشر، الصحة والمرض، والموت والحياة، وذلك لكي يتفكر الإنسان ويدرك معنى الحياة وقيمة الصحة وغلاوة الأمل.

 أنظر حولك يا سيدي وستدرك أن السرطان الحقيقي يجلس بينكم الآن. ما قيمة الصحة والشباب والمال، وقد فقدت قيمتك كإنسان وغدوت عبدا للدرهم والدينار، وربما للشهوات والأهواء. ففقدت معنى الحياة وغدوت تبحث عن السكينة والسعادة كمن يجري وراء سراب. تأمل معي يا سيدي وفتش؛ أين الصدق والوفاء؟ أين الأمانة والإخلاص؟ بل أين إغاثة الملهوف وأين الرحمة بالمسكين وأين بر الوالدين وأين إكرام الجار وأين من يمسح على رأس اليتيم؟

إن متاع الدنيا قليل ونعيمها زائل. فأحبب جارك وقبل يد أبيك إزرع شجرة وانشر السلام والابتسامة، اغرس الفرحة في قلوب من حولك. كن طيباً ونم قرير العين ومتع فؤادك. إحمد ربك واشكره واستغفره وتزود لآخرتك. ليس التعيس هذا المريض ولا العليل. بل التعيس هو من جمع له خير الدنيا وقد سكن الحزن قلبه وخاصم من حوله وأغضب ربه.

يا مسكين .. أنت تحزن لهذا المريض؟  لا تحزن، لقد والله هززته حتى تساقطت ذنوبه كما تساقط الأوراق عن الشجر في الخريف، ولقي ربه قرير العين وراضي الفؤاد. أتعلم أن ساعة الموت هي بداية لحياة أجمل؟ أتعلم أننا كلنا ضيوف في هذه الدنيا وأن مكاننا في جوار الله.. فلم تحزن ولم تغضب؟

من قال لك أني أكره مرضاك ومن قال لك أنني استلذ بعذابهم وبمعاناتهم؟ كلا والله. ألا تعلم أن النفس ترقى بالعذاب وأن الصبر والتوكل والاحتساب يرقى بالنفس والروح وأن المرض والألم مدرسة للمؤمن الصادق يتعلم منها التلذذ بذكر الله والوقوف ببابه وتتعود نفسه التذلل إليه والتوكل عليه إن انقضت به السبل وتبددت الأحلام، فتشرق الروح ويجلو الفؤاد؟ فترى الجسم هزيلاً ذابلاً أما الروح فواثقة ثابتة. هذه النفس يحبها الله ويقربها ويزيدها من رضوانه وعطائه.

يا قصير النظر أتغتر بشيء من العذاب أو الإعياء أو الحرمان؟ ألا من حرم هو من حرم من معرفة الله ومن ضاع فهو من ضيع العمر بلا فائدة؟ والشقي هو من عادى الخلق والأقارب وهجر الأهل لأنانيته وكبره وغطرسته، والخاسر هو من خرج من هذه الدنيا يحمل فوق كتفيه الخطايا والذنوب وخلف وراءه الدرهم والدينار، إذا كنت أنت الطبيب تتكلم بهذه الطريقة فأنت لا ترى إلا ما بين قدميك ولم تدرك فسحة هذا الكون الجليل وأبعاد حكمة الباري جل وعلا. ألا ترى أن المحار يصنع أحلى ما لديه، يصنع اللؤلؤ فقط عندما يتعرض إلى الأذى لكي يحمي جسمه الطري الرقيق من خشونة التراب إذا دخل الصدفة. ولذلك فقد تجد الغنيمة في الحرمان وقد تجد الحرمان في الغنيمة. أما مرضاك فتذكر أن غمسة واحدة في الجنة سوف تنسيهم كل لحظة ألم أو مرض أو بؤس أو حرمان. إرجع واقرأ ماجاء في فضيلة الصبر وقصص الصابرين وسترى ماتقر به عينك ويثلج صبرك.

صمت الشيخ الجليل وخيم الهدوء والوجوم مرة أخرى ، أما أنا فقد انعقد لساني وتبعثرت أفكاري وتاهت نظراتي ولم أعد أعرف ماذا أقول. نزل القاضي عن منصته وتقدم بهدوء ووقار نحو الشيخ الكبير وسط دهشة الحضور، ثم فك وثاق الشيخ بنفسه ونظر إليه بإجلال ووقار وقال له: بإمكانك أن تغادر القاعة الآن يا سيّدي ولك الأمان.

 ثم نظر إليّ وقال: يا بنيّ أنت درست الطب وعالجت الأبدان وسكّنت الآلام والأوجاع، لكنك ربما لم تدرس الحكمة ولم تفقه معنى الحياة. إذا كنت يابني لا ترى إلا بعينك، ولا تسمع إلا بأذنك فأنت في الحقيقة لا ترى ولا تسمع. اذهب يا بني وتفكر فيما سمعت، تأمل.. اعقل.. تذكر.. أغمض عينيك واسرح في خيالك.. اجلس مع مرضاك وتعلم منهم فلديهم الكثير ليخبروك. ثم اذهب إلى زملائك الأطباء وإلى وأهلك وأصدقائك وأخبرهم بما ترى ببصيرتك قبل بصرك وما تسمع بقلبك قبل أذنك، وعلمهم معنى الحياة ومعنى الأمل والحب والعطاء.. لقد علت الغفلة قلوبنا فنحن نعلم كثيراً ونفقه قليلاً. ننفق كثيراً ونبتسم قليلاً، نأخذ ولا نعطي ونكذب في أقوالنا وافعالنا وحتى مشاعرنا. اذهب يا بني تعلم ومارس وعلّم قبل فوات الأوان.