في محبة الأخضر… عن أعمال التشكيلي المصري محمد الجنوبي
[wpcc-script type=”4090b65dfd360947c25beea9-text/javascript”]

نظرة فاحصة إلى مساحة الأخضر داخل مدينة كالقاهرة بإمكانها أن تلفت انتباهك إلى هذه الصورة القاسية للشوارع والعشوائيات المكتظة بالبشر، من البنايات كالحة اللون، والواجهات المتشابهة، وكل ما يعتري مشهد المدينة المترامية الأطراف من عبث يومي. مشهد يطارد الأخضر ويلفظه خارج محيطه. رغم هذا يبدو الأخضر حاضرا ومصرا على التواجد والظهور داخل المشهد، يتحرك ببطء أحيانا، يطل من النوافذ في خجل، ويُزين جوانب الطرق على استحياء.. إصرار على الحضور في مقابل تهميش متعمد.
في معرضه الذي استضافه مركز سعد زغلول في القاهرة أخيرا، يسعى الفنان محمد الجنوبي إلى تلمس مساحة الأخضر في محيطه، واستكشاف العلاقة بين النبات وما يحيط به من معالم أخرى: بشر، وبيوت، وصحراء، وتضاريس. لوحات الجنوبي يسيطر عليها الأخضر ويلقي ظلاله على التفاصيل. في تجاربه السابقة يمكننا أن نلمح وجود النبات كعنصر من عناصر التشكيل الكثيرة التي لجأ إليها الجنوبي في بناء العمل. غير أن هذا الحضور الخجل للنبات يتعاظم هنا حتى يشغل حيزا أكبر من المساحة المرسومة، مقابل التشكيلات الحجرية والإسمنتية للبيوت. تتسلل المساحات الخضراء من الخلفية رويدا رويدا، حتى تسيطر على المشهد ككل، لتبدو البيوت كمساحات مُقحمة على المشهد ككل. تبدلت هنا الأدوار وأصبحت النباتات هي البطل الحقيقي للعمل، بينما توارت البيوت بين تفاصيلها وتشعباتها. سرعان ما أفرد الجنوبي المساحة جميعها للأخضر، أصبحت كل تفاصيل اللوحة ملكا لهذا الكائن المتشعب الذي بُثت فيه الروح من جديد. هو هنا لا يرسم حقولا أو غابات، لا نلمح أشجارا أو نخيلا أو مزارع تخترق خط الأفق، فلا وجود لخط الأفق من الأساس، نحن أمام مساحة مسطحة لم يراع الفنان في تشكيلها أي إيهام بالعمق أو افتعال لمقومات المشهد طبيعي. العنصر النباتي هنا تم التعامل معه بنوع من التجريد، أو لنكون أكثر وضوحا، تعامل معه الجنوبي بالدراسة التفصيلية لأجزائه ومكوناته، وطبيعته ككائن عضوي متحرك وقادر على التشكُل وفق صور وأنماط مختلفة.
تتضمن أعمال الجنوبي أحيانا إشارات ذات دلالة، قد تكون هذه الإشارات على هيئة كلمة أو عبارة أو حتى حرف، عبارات تائهة وسط المساحة المضطربة باللون والعناصر.
تتداخل هنا طبيعة النبات مع طبائع الكائنات المرتبطة به، فلم نعد ندرك الحدود الفاصلة بين العنصر النباتي وأجزاء الحشرة مثلا. في تلك اللوحات يمكنك أن تشكل ما تشاء من صور وتفاصيل كثيرة وفقا لاتساع قريحتك، فالفنان يضعك أمام مساحة أقرب ما تكون لخربشات الطلاء على الجدران، ويترك لخيالك الحركة والقدرة على التصرف والدوران والالتفاف على الشكل. يلجأ محمد الجنوبي لاستكشاف تركيب النبات وتشريحه الداخلي. هو يرسم سريعا، ويضع ألوانه في عُجالة على السطح قبل أن تهرب الفكرة من مخيلته، ثم يعود إليها مرة أخرى ليطمس ما بدأه، كي ينشئ شيئا جديدا أو تكوينا مغايرا، يتجاوز فيه روح الحبكة والتأثير الطاغي لجمالية المشهد المعتادة.
تتضمن أعمال الجنوبي أحيانا إشارات ذات دلالة، قد تكون هذه الإشارات على هيئة كلمة أو عبارة أو حتى حرف، عبارات تائهة وسط المساحة المضطربة باللون والعناصر. ربما يودع اللوحة قصاصة ورق عثر عليها في جريدة أو كتاب، قصاصة صغيرة تحمل نصا مبتورا أو جزءا من خبر قد لا تسعفك المساحة في التعرف على طبيعته أو فحواه كاملا، ليس نوعا من التوثيق بقدر ما هو تذكير لنفسه على ما يبدو بتلك اللحظة. كما يعن له أحيانا أن يوزع عناصره داخل أطر لونية أو خطية، أطر تشف عما تحتها، وتحاصر الأشكال فتضفي مزيدا من الحركة والحيوية على مساحة العمل.
لعل هناك سمة أخرى مهمة تميز أعمال الجنوبي في شكل عام، تتمثل في ذلك الفيض المتدفق من العناصر والعلامات فوق المساحات المرسومة، ففي معظم أعماله لا يترك الجنوبي براحا للفراغ، لا يسمح له أن يحكم قبضته على التفاصيل، كأنما لا يستطيع التوقف عن الرسم حتى يسكب كل ما لديه من عناصر ومفردات هائمة في المخيلة على المساحة دفعة واحدة. المساحات هنا متسعة على اختلاف أبعادها وحلولها.. يلجأ الجنوبي على نحو متوتر في التعامل معها بطريقة أشبه بالفسيفساء، فالمفردات مصفوفة إلى جوار بعضها في تناغم، بينما تتحرك على سطح اللوحة عشرات الأشكال وتتطاير البقع اللونية هنا وهناك، وتقذف بين الحين والآخر أشكالا شبحية فوق سحابات من اللون الغائم. يمكنك أن تلمح بين التفاصيل أيضا أجسادا لبشر وحيوانات، وطيور، تم صوغها على نحو عفوي على غرار رسوم الأطفال، إلى جانب عناصر أخرى ووجوه متقنة ذات سمت فوتوغرافي. في رسومه النباتية تبدو المدينة من بعيد عند خط الأفق، بينما تزحف النباتات ابتداء من مقدمة اللوحة في حالة نهمة. حين تطالع أعمال الجنوبي التي يقدمها في هذه التجربة الجديدة لا تستطيع أن تزيح هذا الإحساس بالتوحش، الذي يسيطر على حركة هذه النباتات الزاحفة نحو كتل البيوت، كأننا أمام احتضار نهائي للمدينة على إثر كارثة ما، أو كأنما الأرض تتعافى من سقمها وتستعيد عافيتها، بينما يزوي أثر البشر ويتلاشى.
٭ كاتب مصري