في معرضه في الرباط «الغريبُ، تقنية للبقاء»: الشعر والرسم في تجربة العراقي علي البزاز
[wpcc-script type=”1183989450c3005e8ab45b86-text/javascript”]

الرباط ـ إن مخاض الذات يشوبها دوما، تلك التّجليات المُضطربة التي تُحيلها إلى فعل الإبداع الفني في تجلياته المختلفة، هي تجليات رُوحية صُوفية وأُخرى وُجودية، تنهل ذاتها من مُحيطها الاجتماعي والثقافي، لتغدو صُورا مُتعددة تتصارع لتخرج في فضائها الفني، وتجد طريقها الجمالي المعاصر، لذلك فالذات والجسد هما وجهان لعُملة واحدة، يكتمل الأول بالثاني لتشكيل سجال جمالي يعبر عن حقيقة الفنان الكامنة فيه.
لذلك فمسألة الإبداع عند الفنان الشرقي خصوصا، هو إبداع من الذات وتجل للمطلق المطل على المستقبل، وبحث في الموجود الحاضر الذي يسكنه. تبعا لهذا توجه الفنان نحو التعبير عن الهوية الأسلوبية والتشكيلية، في بناء المنجز الفني خصوصا في الفترة الراهنة، ليقترن بذلك بتلك المنعرجات المفهومية المخترقة حول الجانب التقني والمفهومي من جهة، ومن جهة ثانية البحث في طرق العرض والتقديم، ليصبح مناطا بالعديد من المنعرجات الإشكالية التي تشوبه، أبرزها التطور التقني، خاصة الفنان الشرقي الحامل لهوية البين بين، هوية شرقية متجذرة، وأخرى غربية مكتسبة أدت به للعودة نحو الأدراج والبحث عن وريد جمالي تعبيري يعيده نحو مضامينه وهويته الذاتية الأمّ، مبرزا في ذلك بحثه عن إنشائية الأثر وشاعريته الجمالية المؤثرة على الجمهور، وفي هذا السياق يمكن تسليط الضوء على تجربة العراقي علي البزاز.
التشكيل الشعري
اللحظة والزمن والأثر والامتداد هو استحضار لذات الفعل الفاعلة والمُنفعلة في رايات التشكيل الأيقوني، ليتجلى ذلك الفعل الفني في الزمان. إن الفصل والوصل بين الشعر والرسم هو خيط رابط محمل بالدلالة السيميائية، التي تعرج نحو جوهر الإبداع التشكيلي في تجربة علي البزاز، لتغدو الكتابة الشاعرية، رسما روحيا ينبثق من ذات الشاعر وهسهساته المتدفقة من ذاته، تكسر منحنيات الجسد لتخرج في أوتار سجالية استعارية وصفية، أو ربما متخذة جل بنايات الشعر المتعارف عليها، لتبرز بصريا. لقد توجه الشاعر الفنان أو الفنان الشاعر إلى شعرية البث والبعث في لحظات زمنية ارتأت معبد التأويل، سواء في فن الشعر أو في فن الرسم، ليدرك الفن التشكيلي في مسيرة علي البزاز، أوتاره المعاصرة، من حيث توجهه إلى مسألة التجريد المفهومي للخصائص التشكيلية، ناحتا بذلك أسلوبا فنيا جديدا. من هنا يمكن لنا الارتحال إلى قراءة بعض من أعماله التشكيلية.
الذات والزمن
يمكن العودة إلى مسألة الزمن، من خلال هذا العمل الذي حمل عنوان «تراكم الزمن» وهو عنوان يعيدنا إلى التشكيل ذاته، من حيث يرتحل بنا البزاز في هذا العمل إلى أزمان متداخلة مربكة وملتوية مؤثرة فينا، وكأنه يعيدنا إلى زمن التكوين أو زمن الخلق، من خلال التداخلات الخطية واللطخات اللونية، التي ارتأت الصراع منهجا لفضاء الأثر، لتدرك بذلك الألوان الترابية (البني والأصفر والرمادي) معراجها الزمني ودلالتها السيميائية، وكأنه يرتحل بنا من هوية الزمان إلى هوية المكان، هذا الأخير الذي مثل الأرض والموطن والذكريات كلها، اجتمعت في سياق تشكيلي، فضمن مسرح اللوحة نشهد ذلك الصراع بين العناصر التشكيلية، فهو يبني عوالم مجردة في اللوحة الواحدة هي عوالم معبرة لا هي شرقية ولا غربية، هي عوالم انتهجت التجريد منهجا مطلقا، معبرا عن ذات الفنان المغتربة، وكأنه ينظم شعرا بصريا ملموسا، يرسم عبره مجموعة من المسارات الخطية والكتل اللونية، والأشكال التي تتألف في اجتماعها، مكونة الأثر ذاته. هذا الأخير الذي مثل أثرا في شكله عبر تأثير الزمن عليه فنشهد بذلك تآكل المحمل الخشبي هذا الفعل التشكيلي كسر منطق اللوحة المسندية في مفارقة لفعل الزمن، زمن الفعل والذاكرة والإنشاء في لقاء جوهري مع ذات الفنان الحالمة نحو تعبيره عن البعد الزمني، وإعادته في شاكلة بصرية جديدة.

دلالة الباب
يمثل الباب مصدرا للسكينة ووترا للمرور، هو باب يحمل العديد من الرمزيات كدلالة السفر والانتقال والمرور والتحول من فضاء إلى آخر، يحمل في دلالته نقطة الفصل والوصل، ونقطة التحول كالباب الفاصل بين الحياة والموت، وباب البيت وباب الآخرة وباب الحياة وباب العرش، كلها أبواب اختلفت رمزيتها حسب وظيفتها. لهذا فدلالة الباب الذي اشتغل عليها البزاز هي باب تشكيلي ارتحل منه نحو التشكيل الأيقوني، هو بمثابة ذلك العبور والسفر نحو صياغة بصرية معاصرة. فالباب في تجربة الفنان هو عبارة على ترحال من الذات إلى خارجها ومن الجذور إلى أبعاد أخرى، يبحث فيها، وكأنه مرور من الشعر إلى التشكيل، هذا الباب الذي تحول إلى بعد مجرد يحمل صراعا بين طاقات اللون في تلاقيه بين المتضادات بين الأحمر، لما يحمله من سلطة مع الأسود، تلك القيمة الضوئية التي تنصهر فيها جميع الألوان، في هذا التقابل يؤرخ البزاز لسلطة القوة التي يقِرها برمزيتها المتعددة، جاعلا من المواد المتروكة عنصرا من عناصر الطاقة التشكيلية الحاملة لجمالية معاصرة، هي جمالية على مستوى المفهوم، وعلى مستوى الصياغة التشكيلية التي يبحث من خلالها عن مدارك المطلق المجرد، ليجعل من الباب المحمل بالذكريات، أثرا ملموسا ومحسوسا، يعبر من خلاله عن فواصل مسيرته الفنية والشعرية، خلال ترحاله بين الشرق والغرب، فهو يجمع بين تيارات الفن الحديث من الانطباعية، انطلاقا نحو التجريدية وصولا إلى السيريالية، متدفقا نحو الفن المفهومي، مكونا مسارا موازيا لحياته، عبر منطق التشكيل البصري. فبين اللوحة الأولى والثانية يمكن أن ندرك زمن الخلق، فالثانية معبرة عن الأولى، فزمنية الباب بما يحمله من تاريخ وذكريات البيت، تأخذنا مباشرة إلى زمنية الفعل التشكيلي والتفاعل الزمني، الذي يقع في التشكيل الذاتي والروحي لإنشائية التشكيل الفني. فعبر مفهومية اللون ودلالته وبين خصوصية المادة وتفاعلها وروح الفكرة وتطبيقها ندرك تلك الحركة البصرية التي استوقفنا عندها البزاز في تجربته الفنية.
الجماليات والتحولات التقنية
فالزمن أثر والأثر زمن والباب أثر، والتشكيل أثر والفكرة أثر، والرحلة والراحلة كلها أثر وكل أثر يعبر عن نفسه، ليترك للبزاز عملية التحكم في إعادة التشكيل لخلق أثر فني جديد محمل بجوهره وبواطنه السيميائية، في هذا السياق يقول «لا يعني الإبداع القيمة الأصلية بقدر ما يعلن استعادة القيمة المهدورة عملا بما يسمّى إعادة التدوير. الفن هو إعادة التدوير. في الأدب كما في الرسم/ كل شيء مستنسخ ومُستنسخ.» ونستنتج من ذلك أن فكرة الأثر الفني، خصوصا في الفن المعاصر تنتمي بدورها إلى منطق المساءلة والبحث المتواصل في عوالم التشكيل الجمالي، لاسيما أننا أصبحنا نعيش ضمن ترسانات جمالية جديدة مخالفة لما هو معهود، تشمل بقوتها تلك الهيمنة التكنولوجية الجديدة، وذلك البعث الجديد للعالم الافتراضي، هذا العالم الذي يحتم علينا البحث في إنشائية الأثر ووجوده الفعلي بطريقة مغايرة تجاري العصر بما فيه من تمظهرات جمالية وتحولات تقنية وأسلوبية.
٭ كاتب مغربي
