رأس مال الدعاة الصدقُ، وإذا كذب الداعية مرةً واحدة، أو أُثِر عنه الكذبُ مرة، هُدِمَت دعوتُه، وذهب أثره، ولم يعد له مكان بين المدعوين.. ولهذا يتمنى أعداء الدين وأعداء الدعوة والدعاة أن يؤثروا أو يمسكوا عليهم كذبة يشنعون بها عليهم في كل ما وراء ذلك من الصدق.. فآفة من كذب مرة أنك لا تستطيع أن تصدقه بعد ذلك ولو كان صادقا بقية عمره..
ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنه ويؤذيه أن يتهمه المشركون بالكذب، ويسِمُونه بالسحر والكهانة، ويصفونه بالجنون، فهوَّن الله عليه ذلك، وأخبره أنهم في دواخل أنفسهم يعلمون صدقه، وأنهم موقنون بأنه صادق لا يكذب، وأمين لا يخون، وإنما يفعلون ذلك جحودًا لما أتاهم به حتى لا يلزمهم الإيمان به. كما قال الله تعالى له: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام:33].
وقد قرأها جماعة (فَإنَّهُمْ لا يُكْذِبونَكَ) بالتخفيف.. قال ابن جرير، بمعنى: إنهم لا يُكْذِبونك فيما أتيتهم به من وحي الله، ولا يدفعون أن يكون ذلك صحيحًا، بل يعلمون صحته، ولكنهم يجحَدون حقيقته قولا فلا يؤمنون به.
وقرأها جماعة: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) بالتشديد، بمعنى: أنهم لا يكذّبونك علمًا، بل يعلمون أنك صادق؛ ولكنهم يكذبونك عنادًا وحسدًا.
ولا شكَّ أنه كان من المشركين قوم يكذبون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فبعضهم يقول: “هو شاعر”، وبعضهم يقول: “ساحر”، وبعضهم يقول: “كاهن”، وبعضهم يقول: “مجنون”، وينفي جميعُهم أن يكون الذي أتَاهم به من وحي السماء أو تنزيلا من رب العالمين.
ولا شك أيضا أنه كان منهم من قد تبين أمرَه وعلم صحة نبوّته، وهو في ذلك يعاند ويجحد ذلك حسدًا له وبغيًا.
وقد أخبر سبحانه عنهم ذلك فقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[سورة البقرة:146]. وفي هذا أوضح الدليل على أنه قد كان فيهم المعاند في جحود نبوّته صلى الله عليه وسلم، مع علمٍ منهم به وبصحة نبوّته.
وقال الإمام ابن كثير في تفسيره:
يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم، في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} أي: قد أحطنا علما بتكذيب قومك لك، وحزنك وتأسفك عليهم {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}[فاطر:8] كما قال تعالى في الآية الأخرى: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين)[الشعراء:3]، {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}[الكهف:7].
وقوله: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} أي: لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} أي: ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم.
وقد كان عامة المشركين يعلمون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عهدوه منه قبل الرسالة، فإنهم ما جربوا عليه كذبا قط، ولا عرفوا عنه إلا الصدق والأمانة وكل خلق كريم جميل، وليس أدل على ذلك من يوم أن دعاهم ليخبرهم أن الله أرسله إليهم..
فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين}(الشعراء:214)، صعِد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل يُنادي: يا بَني فِهر، يا بني عديٍّ – لبطون قريش – حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يَستطِع أن يَخرُج، أرسل رسولاً ليَنظر ما هو، فقال صلى الله عليه وسلم: (أريتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مُصَدِّقيَّ؟). قالوا: نعم؛ ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا. وفي رواية: “ما جرَّبنا عليك كذبًا”، قال: (فإنّي نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد)، قال أبو لهب: تبّا لك.. ما جمعتنا إلا لهذا! ثم قام، فنزلت سورة: {تبّت يدا أبي لهب وتب}.
فدل قولهم “ما جربنا عليك كذبا”، على سلامته من ذلك أبدا، ولو حصل منه مرة لقالوا كذبت كيوم كذا وكذا.
وقد أقر له بالصدق ونقائه وسلامته من الكذب أبدا، جميعُ الناس، وحتى الكفار الذين لم يؤمنوا به ولم يتبعوه، وكان هذا مشهورا لديهم معروفا عندهم لا ينكره أحد منهم:
ففي حديث هرقل مع أبي سفيان.. قال له هرقل: “فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ” رواه البخاري.
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي يزيد المدني: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه، قال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟! فقال: والله إني أعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا؟! وتلا أبو يزيد: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.
وقد ذكر أئمة التفسير الطبري، وابن كثير، والقرطبي، وصاحب أسباب النزول، عند هذه الآية، “أن الأخنس بن شريق التقى وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؛ فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا؟ فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجاب والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.
وقد رواه ابن جرير وابن كثير بأطول من هذا: عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، هو وأبو سفيان صخر بن حرب، والأخنس بن شريق، ولا يشعر واحد منهم بالآخر. فاستمعوها إلى الصباح، فلما هجم الصبح تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر: ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء له ثم تعاهدوا ألا يعودوا، لما يخافون من علم شباب قريش بهم، لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم، ظنا أن صاحبيه لا يجيئان، لما تقدم من العهود، فلما أجمعوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، ثم تعاهدوا ألا يعودوا. فلما كانت الليلة الثالثة جاؤوا أيضا، فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه في بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه.
وجاء في تفسير هذه الآية ما رواه سفيان الثوري عن أبى إسحاق عن ناجية (هو ابن كعب) عن على قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك يا محمد، ولكن نكذب ما جئت به؛ فأنزل الله {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
ويدل على يقينهم بصدقه عليه الصلاة والسلام مواقف كثيرة منها ما رواه البيهقي في “دلائل النبوة:2/ 202-204″، وابن عساكر في “تاريخ دمشق: 38/ 242، 243″، في محاورة عتبة بن ربيعة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستمع منه قال: “أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: “فاستمع مني” قال: أفعل. قال: {بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} فذكر الحديث إلى قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم.
فلما أتته قريش يسألونه ماذا فعل قال لهم: “أتيته وقصصت عليه [يعني كلمته] فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسكت بفيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب”.
وفي هذا أدل شيء على أنهم كانوا يعلمون صدقه، وأنه لا يكذب، وأن كل ما نطق به فهو الحق الذي لا مرية فيه. وإن كذبوه في ظاهرهم فإنهم يعلمون يقينا في قرارة نفوسهم أنه الصادق الأمين. وصدق الله سبحانه إذ يقول: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.