إخواني وشيوخي الكرام!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
عجلة الأحداث تدور سريعاً وتجرنا – نحن الإسلاميين – وراءها، فإلى اليوم نقف موقف المشاهد للحدث نحكيه، وفي أحسن الأحوال نحلله.
إن فريقاً منا أصبحت الغاية عندهم معرفة الأخبار، دون التحرك إيجابياً نحو حلٍّ عملي لوقف نزيف الدم الذي يسيل من العروق ومن الفروج.
وفريقاً آخر جلس هادئاً مستريحاً يحلل الحدث… يبحث عن دوافعه وأهدافه، ليصبغها مقالاً أو كتاباً… ربما ليقتات منه رزقاً.
وتضج الأصوات على المنابر تحكي عن غدر يهود وجبنهم وخيانتهم للعهود، وعن حرية أمريكا الكاذبة، وحقوق الإنسان التي جعلته كالحيوان…، وكله خير، إلا أنه دون ما نريد.
وعلى مستوى العلماء والدعاة وطلبة العلم، لا زلنا وراء الأحداث، نتحرك بحركتها، نبحث في شرعيتها، ونرد على من خالف رأينا من إخواننا، نكشف شيئاً من خطط أعدائنا، وهو خير إلا أنه دون ما نريد.
شيوخي الكرام!
هناك من يفعل ويتركنا نكتب، ولا ينبغي أن يظل الأمر هكذا، فلابد من اتخاذ الخطوات اللازمة للأخذ بزمام الأحداث. وفي رسالتي هذه أعرض بعض الأمور التي تؤرقني على الساحة الإسلامية، وأتبعها ببعض المقترحات، والله أسأل أن يبارك لي في كلماتي هذه، وأن تجد أذناً تسمع.
في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي، فيما عرف تاريخياً بمدة الثورات، كانت الأمة تعيش حالة من الغليان على الغرب كله، وكانت جماهير الأمة تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية وإعادة الخلافة الإسلامية، وطرد اليهود من بيت المقدس وفلسطين، ثم انتهت هذه الحقبة بالعلمانية – فصل الدين عن الحياة – كمنهج حياة، وبالعلمانيين في سدة الحكم الذين أضاعوا الثورات، ومزقوا الأمة، ومهدوا لمجيء المحتل ثانية.ولم تستطع الصحوة الإسلامية يومها قيادة الأمة الإسلامية، وخسرت معركتها مع العلمانية المدعومة من الغرب، وكتبرير لما حدث، قيل: إن الصحوة لم تنضج بعد.
وبعد أكثر من ستين عاماً عادت الفرصة مرة ثانية.
فهاهي القومية العربية تسقط جماهيرياً، بعد أن فشلت في تحقيق أي من أهدافها، وأتت أمريكا تجر الغرب الصليبي الضال والشرق الوثني الملحد – يحركهم جميعاً اليهود – وتتدرع بعملائها من بني جلدتنا للقضاء على (الإرهاب) وتجفيف منابعه، ووضِع العمل الإسلامي بكل حركاته ومؤسساته ورموزه هدفاً للقضاء عليه، وباتت كل الخطط مكشوفة، وأصبحنا في موطن الدفاع غاية ما يرجوه أغلبنا هو السلامة والخروج بالكفاف لا له ولا عليه، فماذا أنتم فاعلون؟!
وأمريكا اليوم تتكلم عن البديل (الإسلامي)، بعد أن قسمت الإسلام إلى إسلام سياسي، وإسلام سلفي، وإسلام جهادي (متشدد)، وهي تغازل من تصفهم بالتيارات المعتدلة للتحاور معهم كي يكونوا بدلاء أو شركاء في التغيرات القادمة. أو أنهم أخبث من هذا ويرمون إلى تشتيت صف الحركة الإسلامية بين مؤيد لهم ومعارض، وينشأ تصادم داخلي (إسلامي إسلامي) حين يتولى المؤيدون الرد على المعارضين، وندخل في دوامة جديدة تستقطب جهدنا، وتشتت شملنا.
وقبل أن يحدث أي شيء على الأرض اشرأبت بعض الرؤوس تريد أن تحظى بعطية أمريكا وتشارك في السياسة مُدعية أنه ظرف تاريخي قد لا يتكرر، وأنها فرصة سانحة (للتخلص من هذه الأنظمة التي أذاقتهم كل صنوف التعذيب والقتل خارج دائرة القانون)، وأنه (لابد من الفصل بين (الدروشة) والسياسة).
أو أن الكفر يستثير الأنظمة العلمانية لتقدم مزيدا من التنازلات، وكثيراً من التعاون في حرب (الإرهاب) وكله شر، فماذا أنتم فاعلون؟
ومع كثرة الدماء التي تسيل من فروج نساء الأمة ومن شرايين رجالها، ومع انتشار البطالة وزيادة معدلات الفقر، ومع كثرة المُفتين، ومع قلة الفقهاء الراسخين، وكثرة الخطباء الحماسيين، بدأت طائفة من أحداث الأسنان.. تتحرك من تلقاء نفسها لنصرة الدين، وفي حادث تفجير المدرسة البريطانية في قطر، وتفجيرات طابا، وتفجير الأزهر بالقاهرة وما تلاه من أحداث، دليل على قولي، فيجمعها جميعاً أنها حوادث فردية أو شبه فردية من أناس لا علاقة لهم بالعمل الإسلامي المنظم، ودوافعها جميعاً ما يحدث للمسلمين في العراق وفلسطين، وهذه الأحداث قابلة للتكرار، ويمكن أن تصبح ظاهرة، وهي حالة صحية تحتاج من يرشدها ويستثمرها، لا من يفسِّقُها ويُبدعها فيدفعها للشطط والغلو وأخذ موقف معادي من علماء الأمة ورموزها، ويعطي مسوغا للأنظمة العلمانية المجرمة لمزيد من البطش بأبناء الصحوة الإسلامية، فماذا أنتم فاعلون؟
وأفرزت الحملة الصليبية الجديدة – العولمة – في بعدها الفكري توجهاً جديداً داخل التيار الإسلامي، يدَّعي الليبرالية (الإسلامية)، ويدعو إلى إزالة العقبات من أجل التقدم الحضاري والرقي المادي ويعتبر أهل هذا التيار أن (الإصلاح والتجديد هو المدخل المناسب للتقدم والقوة والمنعة، وأن الإصلاح الديني يقع في مقدمة أوليات الإصلاح) ثم هم تحت دعوى التجديد هذه تسللوا إلى الفقه الإسلامي من باب المقاصد لإعادة صياغته.
ولو سلمت النفوس من أهوائها لعلمت أن الإشكال ليس في الشرع، وإنما فيمن يحملون الشرع، وكل هؤلاء الليبراليين يحاولون أخذ زمام الأمة والسير بها خلف الغرب، وإن ألبسها البعض حلة الدين.
وهذا شر – في جملته – يحتاج من يتصدى له، فما ذا أنتم فاعلون؟
– وهناك أمر أكثر أهمية مما مضى من وجهة نظري، وهو يتعلق بما يحدث في العراق وفلسطين وفي باقي المواطن التي تُرفع فيها للجهاد راية، ولي بخصوص هؤلاء عدّة ملاحظات:
– الأولى: تتعلق بأهل الجهاد أنفسهم، وهو أن مرجعيتهم في تحديد الأهداف والوسائل ذاتية، والشأن أن يكون أهل الجهاد تبع للعلماء الربانيين الراسخين في العلم الناصحين للأمة، وأن إمارتهم إمارة سرايا لا إمارة حل وعقد، وأنهم ليسوا أهلاً للفتوى ، فلا بد – من وجهة نظري – من توجيه الرسائل إلى أعيانهم، ومناصحتهم، والاتصال بهم، كي يثمر الحوار.. أعرف أن هناك رسائل ومناصحات، ولكنها تأخذ شكل العموم الذي قد يُصغى إليه وقد لا يصغى إليه، وما أنادي به هو الحوار المباشر… أشبه ما يكون بالمناظرة.
أيها الكرام!
من بديهيات العقل أنه لابد للحق من قوة تحميه… لا بد من أهل الجهاد كي يقوم سلطان الرحمن ويندحر سلطان الشيطان، ولا أحسب أن عاقلاً – فضلاً عن عالم – يخالف في هذا، ثم هم قاموا ولن يتراجعوا، ولهم مدد من بين أجيال الصاعدة، فلكل قوم وريث. فلا مناص إذن من الاتصال بهم ومناصحتهم شفوياً وجهاً لوجه. وهذا الأمر يحتاج من يتجشم الصعاب، وموضوع الحوار معهم يتبين من الملاحظات التالية.
أولاً: يَغضُ كلُ من يتابع ما يحدث في العراق الطرفَ عن ظاهرة تعدد فرق المجاهدين أو (المقاومة) ولم أرَ أحداً حاول قراءتها على غرار التجربة الأفغانية، رغم التشابه الكبير بين التجربتين، فالجهاد من أجل تحرير العراق – الأرض – وهذا من شأنه أن يعيد القضية ثانية أدبارها إلى قضية وطنية، و إن أخذت مَسحة دينية، وبين الصفوف وطنيون، وليس بعيداً أن يدخل بين الصفوف حين تبدوا بشائر النصر بعض المنافقين ويتكرر ما حدث في الجزائر من قبل.. لذا نريد حوارا يدعوا إلى وحدة الصف وتنقيته، فهل تفعلون؟
ثانياً: نظر حكيم للتاريخ، فوجد أن من قاتلهم السلف الصالح… _رضوان الله عليهم_ من الصحابة والتابعين وتابعيهم أسلموا ودخل الإسلام بلادهم وصاروا جنداً من جنود الإسلام، ومن قاتلهم الخلف ـ الذين تخلو عن هدي السلف ـ لم يسلموا، بل عاندوا واستكبروا وملئت قلوبهم حقداً وغِلاً على الإسلام والمسلمين، فقد رأوا مقاتلين ولم يجدوا دعاة، وهذا هو الحال اليوم قتال أكثر منه جهاد – لا أشكك في النوايا، وإنما أصف الفعال – فحرق وتمثيل، وثأر للأشخاص، وشعارات جاهلية تبرز من حين لآخر، مما يضيع به غاية الجهاد، ونحتاج منكم أيها الكرام أن تبينوا لهؤلاء أنهم دعاة قبل أن يكونوا مقاتلين… أعرف جيداً ما يطرح من نصائح وما أطالب به غير ذلك… حوار مباشر كما أسلفت.
ثالثاً: اتصال العلماء المباشر بالمجاهدين، وقيادتهم لصفوفهم فيه حماية للمجاهدين من أنفسهم، إذ إنه لو استمر الحال على ما هو عليه اليوم ربما تكرر ما حدث في أفغانستان من قبل كما أسلفت، وحماية للأمة وعلمائها من المجاهدين، فماذا لو انتصروا وهم قد صنفوا كثيراً من علماء الأمة ودعاتها ضمن (مََن خالفهم أو مَن خذلهم)؟
رابعاً: نريد من طلبة العلم (تغطية) الأحداث، وألا يتركوا الأمر للصحافيين و (المفكرين)، فهؤلاء غير هؤلاء. الصحفيون يتكلمون عن فلسطين الأرض والعراق الأرض، وأمريكا (البلد)، ويتكلمون عن (المقاومة الوطنية الشريفة)، وجُلهم بادي الرأي يبحث عن سبقٍ صحفي.
ومنطق طلبة العلم أنه جهاد يستهدف الكفر أياً كان جنسه أو لغته أو موطنه، وأن الغزاة مشركون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وإن كان المال أحد أهدافهم، وأن للنصر أسباباً أخرى غير التي يدندن بها العلمانيون… نعم هؤلاء غير هؤلاء في الأهداف والمنطلقات. وهم – أي طلبة العلم – تبعاً لكم أيها العلماء، فهل توجهونهم لتغطية الأحداث؟
وحتى لا أطيل عليكم أعرض بعض الأمور كحل للخروج من هذه الأزمة:
– قبل أي شيء لمّ شمل علماء الأمة، وليس العدد من الأهمية بمكان، ففي كل مواطن الفتن عبر التاريخ، نجد أن من يثبتون قلة يعدون على أصابع اليد الواحدة، ويصور لي الخيال الأيام كأنها أرض والرجال فيها نبت طيب ونبت خبيث، وفي أيام الإمام أحمد مثلاً… أجد أن أرض العراق بها شجرة أو اثنتين، وكذا الشام ومصر والجزيرة العربية، والباقي عشب أخضر طيب الرائحة نضر، بيد أنه ضعيف الساق، لا تَحْمِلُ عليه متاعاً ولا تجد له ظلاً تفيء إليه.
ثم إن فكرة تجميع أكبر قدر ممكن مع التنازل عن بعض الضروريات تحتاج إلى مراجعة على ضوء قوله _تعالى_: “لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً” (التوبة: من الآية47).
– كان جمال الدين الأفغاني عجولاً يريد أن ينقلب على أبناء جيله في يوم وليلة، وأن يعتنق الناس أفكاره بخطبة أو خطبتين، فجلس إليه تلميذه المخلص محمد عبده – وكلاهما إلي بغيض – وقال له: عَلِّم عشرة وكل واحد من هؤلاء العشرة يعلم عشرة فيكون عندك في ثلاثين أو أربعين عاماً مئة من القيادات التي تستطيع الأخذ بزمام الأمة حيث تريد، وهو ما كان، فإن رحت تعدد من اشتركوا في تغريب الأمة والسير بها على درب الكافرين وهي تحسب أنها مهتدية وجدتهم قلة، وهو ما أنادي به اليوم.
ثم إن الاهتمام بخاصة الطلبة له بُعد آخر، وهو حفظ التراث العلمي للشيخ، فما ضيع الليث بن سعد إلا إهمال طلبته، ولم يترك أبو حنيفة كتباً وإنما ترك أبراراً عرفوا فضل أستاذهم فدونوا ودرَّسوا.
فمن أراد أن تكون له صدقة جارية، وأن يترك أثراً فليجب طلبي.
ثم إنه لا بد من الأخذ بيد الأمة – أعني عامة الناس – وإشراكهم في الحلول.
أي يكون الخطاب ذو شقين شق تربوي للخاصة، وآخر يخاطب به العامة.ولعل النقاط التالية تزيد الأمر بيانا.
– زمام الأمة ليس بيد علمائها، وهناك من تنصت إليه الجماهير من غير العلماء، بل إن الجماهير تشارك في صناعة القرار،وما أراه هو أن نتوجه بخطاب إلى عامة الناس يبين حق العلماء في قيادة الأمة أو بكلمات أوضح: لَمِّ العامة على الأئمة الربانيين. وإسناد الأمر إلى أهله.
– (الكثرة الغالبة من المجادلين لا تجادل بحثاً عن الحقيقة، ولا رغبةً في المعرفة، وإنما فقط لإثارة الشبهات ومحاولة الفتنة، والرد الحقيقي عليهم ليس هو الدخول معهم في معركة جدلية ولو أفحمهم الرد في لحظتهم!
إنما الرد الحقيقي يكون بإخراج نماذج من المسلمين تربت على حقيقة الإسلام فأصبحت نموذجاً تطبيقياً واقعياً لهذه الحقيقة، يراه الناس فيحبونه ويسعون إلى الإكثار منه وتوسيع رقعته في واقع الحياة. هذا هو الذي “ينفع الناس فيمكث في الأرض” أطالب بالاستقلال في الخطاب، وعدم السير وراء ردود الأفعال.. عدم الانشغال بالآخر كثيراً، وإنما خط طريق جديد في الطرح، ويكون بيان فساد آراء المخالف ضمن بيان الحق.