أ. د. عبدالله راقدي
تشهد العلاقات الجزائرية المغربية اخطر محطاتها عقب إعلان الجزائر القطيعة مع المغرب، نتيجة ما تراه تجاوز لكل الحدود التي تسمح بها علاقات بين دولتين جارتين تجمعهما الكثير من العوامل المشتركة، ويأتي ذلك عقب تصريح ممثل الحكومة المغربية بالأمم المتحدة بحق منطقة القبائل (الامازيغ) في الاستقلال، وهذا نكاية بالجزائر التي ظلت تدعم الشعب الصحراوي في حق تقرير مصيره بالاستقلال منذ خروج الاستعمار الاسباني. فضلا على قضايا أخرى ارتبطت بما يعرف بقضية نظام بيغاسوس التجسسي pegasus d’espionnage، وتبعات ما تراه الجزائر تطبيع مع اسرائيل مهدد لأمنها. فهل أساءت المملكة المغربية تقدير تبعات سلوكها الدبلوماسي على علاقاتها مع الجزائر؟ وهل يمكن القول أنها في جانب منها تعكس احدة من أوجه ترتيبات نظام عالمي يجري التأسيس له؟ وهل من مصلحة الجزائر في هذه المرحلة من تاريخها الدخول في صراع مباشر مع اسرائيل؟ في البداية، دعونا نستكشف تداعيات تجاذبات القوى العالمية أوضاع منطقة شمال افريقيا.
شمال افريقيا في مهب نظام عالمي يتشكل
بعد أكثر ربع قرن من سعى الولايات المتحدة الامريكية للتفرد بإدارة شئون العالم وصلت إلى قناعة يمكن وصفها بالإقرار ر بالفشل في فرض عولمة جارفة. فبقوة الحسم العسكري مارست شتى صنوف الغواية والقهر السياسي والاقتصادي والثقافي على الانظمة والشعوب . غير أن تكلفة قيادتها للعالم كانت ثقيلة إلى الحد الذي دفع كبار مفكريها ( لاسيما الواقعيون والجيوستراتجيون) على غرار هنري كيسنجر henry kissinger و زيغينو بريجنسكي Zigino Brzezinski وجون ميرشايمر john mearsheimer لقد حذر هؤلاء من فخ الانحدار نحو هاوية الافلاس. ولاشك أن وصول دونالد ترامب الى الحكم كان بمثابة الاستجابة لهذه التحذيرات من اجل تخليص أمريكا من تلك المخاطر. فشعار “امريكا أولا”، وما انطوى عليه من سياسات اقتصادية وتجارية حمائية، وانسحابه وتهديده بالانسحاب من منظمات دولية رأى أنها تشكل عبء اقتصادي وعسكري على امريكا.
في نظري اتخاذ قرار الانسحاب من أفغانستان الذي اتخذته إدارة بايدن جاء نتيجة اقتناع بعدم جدوى قيادة العالم وتبعا لذلك، فرض النموذج الليبرالي بالقوة، وهذا عبر سياسة العصا الغليظة في تغير الانظمة والشعوب لاسيما دول المعسكر الاشتراكي السابق، يوغسلافيا ، الجزائر العراق سوريا اليمن وليبيا .واقدر ان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ومناطق اخرى من العالم هو في نهاية المطاف اقرار بالفشل في قيادة العالم والتحضير للدخول في استراتيجية جديدة قد تمتد الى غاية 2050 تمتلك فيه عناصر القوة الجديدة … لعصر يتعايش فيه النموذج الغربي الليبرالي مع نموذج او نماذج شرقية لاتزال تتشكل. أي تبني وجهة نظر كيسنجر وآخرون بضرورة الاقرار بتعددية قطب عالمية مع العمل على الحفاظ على التفوق الامريكي باستمرار. ولعل الصعود الهادئ والثابت للصين وتحولها الى قوة اقتصادية عالمية، وإلى حليف تجاري واقتصادي للأوروبيين لا يمكن التخلي عنه، او الدخول في تحالفات سياسة عدائية مع أمريكا ضده.
في ظل فشل العولمة في القضاء على سياسات توزان القوى والسياسة الواقعية التقليدية، وفي انتظار ما إن كان هناك إمكانية لتطوير نظام سياسي وثقافي قادر على ممارسة الغواية السياسية والاقتصادية والثقافية، مثلما صار يفعل النظام الديموقراطي اللبيرالي. ، لن تكون شمال إفريقيا في منأى عن هذه الترتيبات الصراعية من اجل الهيمنة والنفوذ، التي لاشك ستعمل القوى المعنية بهندسة النظام العالمي على إيجاد دولة حليفة أو وظيفية تساعدها في بسط نفوذها في منطقة حيوية جيوبولتيكا.فهل يأتي سلوك المملكة المغربية ورد فعل الجزائر في هذا الاتجاه؟
سلوك دبلوماسي مغربي براغماتي مريب؟
عمل النظام المغربي حليف للمعسكر الراسمالي والمستقر نسبيا، كونه لم تأتي عليه رياح سياسات تغيير الانظمة بالقوة كما حصل مع حلفاء الاتحاد السوفيتي سابقا، على تطوير سياسة خارجية براغماتية رغم قلة موارد. لقد مكنه تحالفه مع المعسكر الغربي من اكتساب مساحات للمناورة وصلت إلى مستوى التطبيع مع إسرائيل. التي يدرك عبر هذه الخطوة أنها ستمكنه جعل ميزان القوة مع خصومها كالجزائر يكون في صالحها. وهي في كل ذلك تطبق فكرة مثل شعبي عندنا يقول: “ما تجوع الذيب ما تغضب الراعي”.
على هذا النحو اتسم سلوكها حيال الجزائر باستمرار بالحذر والتحفظ، رغم العداء المبطن الذي تكنه للجزائر، بسبب دعمها لحق تقرير استقلال الشعب الصحراوي. غير أنه وفي الفترة الاخيرة فقد شهدت تحولا خطيرا تسبب فيه تصريح احد ممثليها بهيئة الأمم المتحدة أعلن فيه تأييد المغرب لما يسمى باستقلال منطقة القبائل. واعادة تأكيده لنفس الكلام مرة أخرى، في حين كان منتظرا أن يتراجع عن ذلك او على الاقل يقدم توضيحات حول هذا الموقف . وهو سبب أرى أنه حاسم في اعلان الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب. فضلا على اتهام المغرب من عديد الصحف العالمية كجريدة لوموند الفرنسية وقبل منظمات دولية في قضية بيغاسيس التجسسية، واقدامها على التطبيع مع اسرائيل ، واقدر أن لها دور في سعي إسرائيل لكي تحصل على دور رسمي على مستوى مؤسسات الاتحاد الأفريقي ( دور المراقب). ولعل هذا الحضور اختارتها الدبلوماسية المغربية بهدف الحد من تأثير الجزائر في سياسات المنظمة الافريقية. فهل تنتبه الجزائر الى المعارك الاستنزافية التي يراد لها أن تشتغل بها؟
الدبلوماسية الجزائرية .. التلهية و الانهاك عبر الطعم الاسرائيلي المسموم؟
خلافا للملكة المغربية، عرفت لجزائر وهي الحليف الاستراتيجي للاتحاد السوفيتي خلال ربع قرن الاخير ازمات ونزاعات خطيرة كادت تعصف بكينونة الدولة. ولقد كانت البداية مع تحولات ما يعرف بانتفاضة أكتوبر 1988 وما ترتب عنها. لقد تم إقرار إصلاحات وتعددية سياسية، جرت بموجبها انتخابات محلية وبرلمانية في 1991، فاز بها اسلاميو جبيهة الانقاذ الاسلاميةFIS ، غير ان تردي الاوضاع الامنية دفع الجيش بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد الى توقيف المسار الانتخابي. دخلت على أثره الجزائر في نفق مظلم من العنف والارهاب دام لعقد من الزمن، كادت الدولة تنهار. بعد ذلك، دخلت الجزائر بعد عودة السلم والاستقرار في عهد حكم الرئيس بوتفليقة الذي استمر لعقدين 1999/2919.
رغم البحبوحة المالية التي استفادت منها الجزائر جراء ارتفاع سعر البترول، بحيث تجاوزت المداخيل 1000 مليار دولار، الا ان اوضاع البلاد جراء الفساد المستشري تدهورت كثيرا. كونه عمل على ترضية واستمالة الاعداء والخصوم بغية حملهم على تبني رؤيته في الحكم والدولة. مما كتبته في مقالات سابقة ، ان رؤية بوتفليقة في الاصلاح القائمة على تفكيك وتحطيم الق المؤسسات القائمة والموجودة ، أراد أن يحاكي بها سياسة قوى العولمة الليبرالية القائمة على ما يعرف بالتفكيك والتدمير من اجل التوطين والبناء في إطار سياسات شبيهة “بالفوضى الخلاقة ” التي هندستها امريكا من اجل اسقاط انظمة حكم المعسكر الاشتراكي. بداية بيوغسلافيا مرورا بالجزائر والعراق وسوريا وصولا وليس إنتهاءا بليبيا. تبعا لذلك شهدت الجزائر تردي شامل لم تسلم منه دبلوماسيتها.
في ظل هذه الاوضاع تدخل اسرائيل على الخط، عبر طلبها للانضمام كمراقب لدى منظمة الاتحاد الإفريقي . ولا استبعد كما ذكرت سابقا ان يكون للمغرب دور في تشجعيها على هذا المسعى . كون ذلك سيسمح لها بالتأثير على مواقف بعض الدول الافريقية، وفي نفس الوقت توريط الجزائر في صراعات هامشية مستنزفة. وهو ما حصل بالفعل، حيث سعت الجزائر مع 12 دولة افريقية لإفشال هذا الانضمام. ولما أخفقت في منع إسرائيل من الانضمام بصفة مراقب، عبر وزير خارجيتها رمطان لعمامرة بحسب ما ورد في موقع وكالة الانباء الجزائرية، أن منح اسرائيل صفة مراقب في الاتحاد الافريقي هو قرار اداري يضر بوحدة الاتحاد الافريقي وقال أيضا، بانها قد تضر بوحدة الاتحاد الأفريقي. وبالعمل الافريقي المشترك.
في نظري أخطأت الدبلوماسية الجزائرية في تقدير مخاطر تبعات التعاطي مع موضوع انضمام إسرائيل. كان عليها أن تتفادى التورط منذ البداية في ملف العلاقات بين المغرب وإسرائيل ، فلا يعنيها قرار التطبيع والتقارب بين المملكة المغربية واسرائيل ، على اعتبار أن الامر شأن داخلي سيادي. وصولا الى محاولة منع اسرائيل من الانضمام المنظمة الأفريقية . سوف يعزز لدى إسرائيل بأن سلوك الدبلوماسية الجزائرية ينم عن رفض وعداء للوجود أو المصالح الإسرائيلية. كان عليها أن تأخذ العبرة الفاتورة الباهضة الباهظة التي سددتها من تبعات وجودها في المعسكر الاشتراكي، وعلى نحو ذلك، استفاضتها لمؤتمر اعلان الدولة الفلسطينية عام 1988. وعليها أن تدرك أن الحصول على بطاقة الانضمام للنظام الليبرالي من دون الاعتماد على الوكيل الفرنسي، يقتضي على الاقل عدم الدخول في مواجهة مع اسرائيل. علاوة على إمتلاك هذه الاخيرة للادوات والوسائل الكثيرة ( المال والاعلام)، فضلا على إجادتها للصراعات غير العسكرية التي قد تتسبب بها في مشاكل تمس أمن واستقرار الجزائر، وقد تصل حتى الى مستوى تحريك مشكلة مجانية حول مفاعل عين وسارة غير النووي.
واخلص الى أن العلاقات بين الجزائر والمغرب ستشهد المزيد من التردي والتدهور والمنطقة المزيد من التشظي ( اسرائيل يهمها مزيد من التقسيم للدول المغاربية وليس ما يتوهم به البعض من ان التطبيع قد يساعد المغرب على ضم اقليم الصحراء ). أيضا، وستظل المنطقة موضوعا لمساعي سيطرة ونفوذ القوى العالمية وذلك عبر توظيف دولها . وعلى الجزائر ان لا تنساق وتنتبه الى فخ محاولة الدفع بها في التعاطي مع قضايا قد تضر بمصالحها الوطنية، على غرار الدخول في صراع مع إسرائيل التي يحاول خصومها واعدائها الهاءها وإشغالها بها . كما يجدر بها ان تتفادى الانخراط في محور الشرق الذي بدأ يتبلور واخذ العبرة من الانتماء سابقا للمعسكر الاشتراكي.
أستاذ العلاقات الدولية جامعة باتنة .1. الجزائر
E-mail: ragdiabdlh@gmail.com
Source: Raialyoum.com