لا تستعمل المصعد عند الحريق! كم تبدو هذه المقولة وتنبيه الدفاع المدني واقعياً في الامارات, فقد نسي الناس هنا شيئاً مهماً لبلوغ مكاتبهم وبيوتهم اسمه السلم – ففي ظل السيطرة المطلقة للمصاعد التي لا تعرف الكلل أو الملل باتت السلالم فضاءات نظيفة, باردة – وموحشة, لا يعبرها عند الضرورة سوى الخدم وعمال التنظيف, بعض فتيات آخر الليل, قلة من الشباب المهاجر, ورجال الاطفاء عند الحريق. لم يكن بلوغنا سطح العمارة التي يسكنها “راجيان” وأصدقاؤه صعباً فقد مزجنا ما بين الوسيلتين.
بلغنا الدور الأخير في العمارة عبر المصعد ثم سلكنا مدرجاً ضيقاً للوصول الى السطح – كانت الساعة جاوزت الحادية عشرة ليلاً فهذه بيوت لا يجوز لها ان تعانق النهار أو تفترش أول الليل. عانقت حاسة الشم روائح مزدوجة بعدما تجاوزنا الباب الأعلى والأخير في البرج كما يحلو للإماراتيين تسمية الابنية التي لا يقطنها سوى المقيمين وسط المدينة, رائحة البحر وضغط الرطوبة وبقايا طعام العشاء للشباب الهندي. واجتمع مع راجيان على السطح سبعة اشخاص تراوح أعمارهم ما بين العشرين عاماً والسنوات الأولى من العقد الثالث غالبيتهم تعمل في النهار في قطاع الخدمات “العريض” عملة مصابغ وبقالة ومساعدين في “سوبرماركت” المحلة. وباستثناء دليلنا وصديقنا “راجيان” المجيد للغة العربية فإن البقية حافظوا بقوة على لغتهم الأولى. أحسسنا بأن وجودنا وسحناتنا البيضاء أزعجتهم قليلاً فهم يعلمون بأن وجودهم هنا مخالف للقانون وبأن محافظتهم على قواعد الانضباط والتكتم وحرصهم على عدم الازعاج تدفع الجميع في العمارة لقبولهم والسكوت عنهم, بعد ان اتخذوا من سطحها بيوتاً وسكناً.
لن تجد هنا خزائن ولا كراسي أو طاولة الحمام “المغربي” أو الحمامات العامة تقفل على اصحابها للاغتسال. وكان حظ أخوة راجيان عظيماً بوجود بيت للراحة في ملجأهم “الاختياري” في الحقيقة, فراجيان وصحبه يتمتعون باقامة شرعية ولكن رواتبهم التي لا تتجاوز في أفضل الحالات 200 دولار لا تسمح لهم بالتفكير في الاشتراك في المسكن, فالعاصمة أبو ظبي باتت من عواصم العالم الأكثر غلاء في أسعار الشقق والمساكن. فلا يمكن العثور على شقة تحت عتبة الـ10 آلاف دولار سنوياً – وأمام المد الجارف من الشباب الآسيوي الحالم بفرصة عمل في مدن الاحلام, تعددت حيل مخيلته في ابتداع طرق للتعايش ما بين حفظ البقاء والحرص على التوفير. سألت راجيان عن مشاعر الصباح الآتي فقال بأن غالبيتهم تشعر بأعراض “تصلب” في الظهر وبالنعاس اثناء الدوام ولكن هاجسهم الدائم يكمن في خوفهم من “افتضاح” أمرهم, لتبدأ بعدها رحلة جديدة من البحث عن السكن والمسكن. تسللنا بحذر الى مدرج العمارة للمغادرة ولكن صورة الشموع الهندية التقليدية المحتفظ بها بعناية في ركن قصي للسطح, بقيت عالقة في الذاكرة, وكأنها الجسر الأخير لهذا الشاب الهندي المغترب في مقاومة ذاكرة النسيان والانتصار لهويتهم وحبهم للحياة.
بعد سنوات الطفرة – وتزايد الدعوات الى ترشيد الانفاق, أصبحت المؤسسات الإماراتية التي تستقدم الكوادر الأجنبية تحبذ تقديم بيوت مفروشة بالكامل للقادمين الجدد, ما يعفيها من “بدل الاثاث” الذي كان يتراوح سابقاً ما بين الـ5,8 آلاف دولار, ولكن بعضها لا يزال محافظاً على العادات القديمة حتى وان شهد اجمالي بدل الأثاث تعديلاً كبيراً. لم يشعر “زهير” بوطأة الغربة منذ قدومه قبل شهر الى أبو ظبي؟ فقد سبق له العمل لمؤسسة مصرفية عملاقة في المملكة العربية السعوديةن. ولم يحتمل كثيراً بقاءه في بلده فشد الرحال ثانية الى ضفاف الخليج الساخنة.
يتسم زهير ببعض النرجسية بعد تراكم خبرته في مجالات التوثيق والمعلوماتية وعمله في مؤسسات اقليمية ودولية عدة وهو الذي لم يتجاوز بعد الـ35 ربيعاً. تتجاذبه مشاعر مختلفة وهو يهم بشراء أثاث بيته الجديد في شارع ايكترا وسط العاصمة أبو ظبي. انه يحب ذلك الشعور بالرفاه والاحساس بالفخامة ربما انتقاماً من طفولة بائسة أو تعوداً على نمط حياتي جديد اكتسبه في ايامه في المملكة ولم يتمكن من التخلص منه. أحس بعد تجربته الخليجية الأولى بأهمية التوفير بعد ان أضاع الكثير في ملاهي باريس ورحلاته الخارجية وأكسبته بيئته الأولى الشمال افريقية ميلاً كبيراً للذائقة الأوروبية في ديكور وهندسة أثاث البيوت انتصر في اختياره للأغلب الأثاث منتوجات المؤسسة السويدية العريقة “ايكيا”, حرص على أن يكون لون جميع الستائر في زرقة البحر, في حين غلبت صور الحيوانات الألفية على جميع اللوحات المعلقة على الجدران وكأنها طلباً خفياً للاستئناس. لا شك بأن زهير يحمل شعوراً بالحب لوطنه الأم ولكن رحلته المبكرة الى الخارج دفعته لتغيير مفاهيم قديمة لديه فأصبح الوطن في وجدانه موطناً للاحساس بالكرامة والحياة الكريمة قبل حقوق الجغرافيا ومع ذلك فقد أصر بأن تتوسط زيتونة عملت من النحاس وزينت بعناية وسط غرفة الاستقبال كخيط رهيف يربطه بجذور عميقة.
Source: islamweb.net