القاعدة السابعة: القتال بين المسلمين فتنة، وبينهم وأهل الكفر ملحمة وبطولة.
قد يظن بعض المتعجلة من الباحثين وطلبة العلم أن الفتن والملاحم جنس واحد من الأحداث والوقائع، وذلك لاقترانهما كثيرا في الذكر في النصوص والمصنفات، وليس الأمر كذلك، بل إن هناك فروقا جوهرية بين الفتن والملاحم من حيث المسرح، ومن حيث الأبطال، ومن حيث الحكم.
فالفتن كما يقول الشيخ محمد شمس الحق العظيم أبادي هو القتال بين المسلمين وكل ما يؤدي إلى ذلك من الأقوال والأفعال، والملاحم هي القتال بين المسلمين والكفار.
وروي أنهما لا تجتمعان على المسلمين في زمان ومكان واحد، فعن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين سيفا منها وسيفا من عدوها) والفتنة وكل ما يؤدي إليها من الأقوال والأفعال مذمومة شرعا، قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً…) [الأنفال: من الآية25].
وقال عز وجل: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: من الآية191].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار).
ومع ذلك قد يحاول بعض مسوقي الفتن مع الأسف الشديد إضفاء الشرعية على قتال المسلمين، وذلك بإظهار المقاتلين منهم في صورة المجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وتلقيب قتلاهم بالشهداء، واعتبار خصومهم بغاة أو خوارج أو كفارا، تحل دمائهم وأعراضهم وأموالهم، كل ذلك بدون ضوابط شرعية ولا أدلة منطقية.
وأما الملاحم فهي قتال المسلمين العظيم مع أمم الكفر في آخر الزمان، مثل فتح القسطنطينية، وفتح الروم، وقتال الترك، وتداعي الأمم على المسلمين، وكل ذلك مما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح قسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال).
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل…).
والأصل في الملاحم أنها محمودة في الشرع لما فيها من نشر الإسلام، وإعلاء كلمة الله، ورفع الظلم والاضطهاد عن الضعفاء والمظلومين، ولذلك جازت النسبة إليها، فيقال للمجاهد في سبيل الله صاحب البطولات ورجل الملاحم، كما في ورد في الحديث وصف النبي نفسه صلى الله عليه وسلم بنبي الملاحم كما في المسند: (أنا محمد، وأنا أحمد، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، والحاشر، والمقفى، ونبي الملاحم).
القاعدة الثامنة: الفتن والملاحم إما واقعة أو قريبة.
إن ما أخبر به القرآن والسنة من حوادث الفتن والملاحم من حيث الوقوع وعدمه بالنسبة إلى زمن ورود النص وينقسم إلى قسمين:
الأول: ما هو واقع.
وذلك كإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما فتح من ردم يأجوج ومأجوج، فعن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه سلم من النوم محمرا وجهه يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، قيل أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم إذا كثر الخبث)، والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم (فتح اليوم) حيث بين الظرف الزمني لوقوع ذلك الحدث الجلل، وهو الشق الذي حصل من ردم يأجوج ومأجوج في ذلك اليوم الذي استيقظ فيه رسول الله على تلك الهيئة.
ومما وقع من الملاحم المعارك العظيمة والغزوات الكبيرة التي حدثت بين المسلمين وسائر ملل الكفر، سواء بقيادة النبي الكريم أو بإذنه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: ما هو قريب.
ومن ذلك إشارته إلى مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث حذيفة السابق، وإشارته إلى مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه كأخبار القتال بين الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لحقه من حوادث جسام ومصائب عظام، ففي الحديث (ويح عمار تقتله الفئة الباغية)، وقال صلى الله عليه وسلم في حق الحسن بن علي رضي الله عنهما: (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وقد تحققت هي هذه النبوءات.
ومن الجدير بالذكر أن جميع الفتن والملاحم بالنسبة إلى زمن ورود الحديث عنه قريبة، وذلك إما لقطعية وقوعها فكل ما هو آت قريب، فالساعة مقتربة بنص القرآن والسنة لقوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر:1].
وقوله صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، وكذالك كل خبر وصف بالقرب وإن لم يحدث إلى يومنا هذا، كخبر انحسار نهر الفرات عن كنز عظيم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا).
وخبر نزول عيسى بن مريم المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يأخذه أحد). وإما لكونها قريبة قربا حقيقيا كما وقع من حوادث في القرون التالية لزمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
القاعدة التاسعة: الفتن متواترة والملاحم.
من أخبار الفتن والملاحم الصحيحة ما يفيد بأنها متواترة ومتتابعة، فكما أنها قريبة الوقوع فكذلك قرب بعضها من بعض، ويفهم من تواتر الفتن وتتابعها أمران:
الأمر الأول: الاتصال والارتباط بين الحوادث.
كاتصال وارتباط نزول عيسى بن مريم عليه السلام وظهور المهدي عليه السلام وفتنة المسيح الدجال، فأخبار هذه الشخصيات الثلاثة تكاد تؤلف قصة ذات فصول متتابعة وليست حوادثها بمتباعدة لا زمنيا ولا مكانيا.
ففي حديث أبي أمامة الطويل عن قصة الدجال قوله صلى الله عليه وسلم: (فقالت أم شريك: يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال هم يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينا إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى بن مريم الصبح، فنزل ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليتقدم عيسى يصلي بالناس، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له تقدم فصل فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم، فإذا قال عيسى عليه السلام: افتحوا الباب، فيفتح ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هاربا، ويقول عيسى بن مريم إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها فيدركه عند باب اللد الشرقي فيقتله…) الحديث.
الأمر الثاني: التقارب الزمني بين الفتن والملاحم ويفهم من تتابع وتواتر الفتن والملاحم أيضا مجرد التقارب الزمني بين حوادثها، وصورة هذا التقارب والتوالي تكون أوضح في ما انفصل بعضها عن بعض، ويمكن بالجمع بين النصوص معرفة الترتيب الزمني لوقوع بعض الفتن والملاحم، بحيث يستطيع أن يعرف أي هذه الفتن والملاحم يسبق وأيها يتأخر، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الملحمة الكبرى وفتح قسطنطينية وخروج الدجال في ستة أشهر).
وقال الإمام مسلم: (باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض، ونزول عيسى وقتله إياه، وذهاب أهل الخير والإيمان، وبقاء شرار الناس، وعبادتهم الأوثان، والنفخ في الصور، وبعث من في القبور) هذه نبذة يسيرة من القواعد العلمية المتعلقة بالفتن والملاحم، وفي المقال التالي إن شاء سنعرض بعض القواعد العملية والله الموفق للصواب.
قواعد في فقه الفتن والملاحم (3)
القاعدة السابعة: القتال بين المسلمين فتنة، وبينهم وأهل الكفر ملحمة وبطولة.
انجوغو مبكي صمب
Source: www.almoslim.net